يأتي اختيار فيلم المخرج البريطاني ستيف ماكوين "أرامل"
لافتتاح الدورة 62 لمهرجان لندن السينمائي، منسجما مع النهج الذي اختطه
المهرجان لنفسه في التأكيد على دور المراة في صناعة السينما ودعم حضورها
فيها.
إذ حرصت المديرة الفنية للدورة الجديدة، تريشيا توتل، على
أن تواصل النهج الذي اختطته سابقتها كلير ستيوارت في التركيز على سينما
المرأة، بل وذهبت إلى مدى أكبر، فارتفعت نسبة المخرجات النساء في برنامج
الدورة الحالية إلى 38 في المئة بعد أن كانت 24 في المئة العام الماضي.
وانعكس ذلك أيضا في نسب مشاركة المخرجات في مسابقات
المهرجان الرسمية، إذ وصلت إلى نحو 50 في المئة، بل ووصلت نسبة الأفلام
التي أخرجتها أو شاركت في إخراجها نساء في مسابقة أول عمل سينمائي إلى 60
في المئة.
وكان للمخرجات العربيات حضورهن المميز في هذا المهرجان
وحصتهن في هذه النسبة، مع مشاركة المخرجة السورية سؤدد كعدان بفيلمها "يوم
أضعت ظلي" في المسابقة الرسمية، واللبنانية نادين لبكي بفيلمها كفر ناحوم،
والمخرجة البريطانية-الليبية نزيهة العريبي بفيلمها "حقول الحرية".
وتتزامن دورة المهرجان هذه مع الذكرى السنوية لانطلاق حملة
"مي تو" التي كان لها أبلغ الأثر في إثارة الاهتمام بقضية المرأة في صناعة
السينما في أعقاب تفجر فضيحة المنتج السينمائي الأمريكي، هارفي واينستين،
وانتهاكاته الجنسية التي طالت الكثير من العاملات في مجال السينما.
نحن إذن أمام مهرجان يحتفي بالمرأة في السينما بامتياز
ودورة تاريخية لسينما المرأة مع مشاركة 149 فيلما لمخرجات نساء في عموم
تظاهراته، لا سيما إذا قارنا مع مهرجان كان هذه العام الذي لم تحتو مسابقته
الرسمية إلا ثلاث مخرجات ومهرجان فينيسيا الذي لم تضم مسابقته الرسمية سوى
مخرجة واحدة.
ولاننسى أن نشير أيضا إلى الهيمنة النسوية على إدارة
المهرجان نفسه، بدءا من الرئيس التنفيذي لمؤسسة الفيلم البريطاني (بي اف
آي) أماندا نَفيل، ومرورا بمديرته الفنيه توتل وانتهاء بثلاثة من المسؤولين
عن برامجه من النساء.
هذه الهيمنة لسينما المرأة لم تصادر من المهرجان تنوعه
وتركيزه على التعددية الثقافية الذي قدمته أفلام أخرى من بين الـ 225 فيلما
المشاركة فيه، وهي أقل بنسبة 9 في المئة عن أفلام الدورة السابقة التي بلغت
248 فيلما.
أرامل الافتتاح
ضمن هذا المناخ جاء اختيار فيلم ماكوين "أرامل" لعرض
الافتتاح، على الرغم من أنه ليس العرض الأول له، إذ سبق أن عُرض في مهرجان
تورنتو السينمائي الشهر الماضي.
فالفيلم يحقق أكثر من موازنة من الموازنات التي تحرص إدارة
مهرجان لندن عليها: فهو فيلم من مخرج بريطاني أسود متوج بجائزة الأوسكار،
يقوم ببطولته نسبة جيدة من الممثلين السود إلى جانب البيض، وسمته الأساسية
محاولة تقديم صورة مغايرة للمرأة بل وزجها في سياق (جنرة) أفلام السرقة
والعصابات ذات الهيمنة الذكورية عادة.
وفي تلك الموازنات تأكيد لقضايا التعددية الثقافية والتنوع
العرقي والجندري واستجابة واضحة للانتقادات التي علت في الأعوام الأخيرة
(كما في الاحتجاجات التي شهدها حفل توزيع الأوسكار) ضد التهميش الذي يعاني
منه الفنانين السود والنساء في صناعة السينما ويتهمون الرجال البيض
بالهيمنة عليها.
ينقل ماكوين أحداث دراما تلفزيونية كتبتها ليندا لا بلانت،
سبق أن شاهدها في صباه في بريطانيا في زمن مارغريت تاتشر في ثمانينيات
القرن الماضي، إلى شيكاغو بالولايات المتحدة في الوقت الراهن.
ويقلب ماكوين (جنرة) أفلام السرقة بجعل أبطالها نساء، لكننا
في الحقيقة نجد أن الأمر لن يتغير في سياق تسلسل الأحداث لو كُنَّ رجالا لا
سيما في الثلث الأخير من أحداث الفيلم، فهنَّ في النهاية تصرفنّ كرجال
العصابات في سياق عملية تنفيذ السرقة في النهاية والمطاردات ومشاهد العنف
التي تخللتها.
تدورحبكة الفيلم، الذي اشتركت في كتابته مع ماكوين الروائية
وكاتبة السيناريو الأمريكية جيليان فلين، على ثلاث نساء يأخذن أدوار
أزواجهن الذين يُقتلون في حادث سرقة، ليسرقن أموال سياسي محلي فاسد.
فبعد مشهد تمهيدي نرى فيه مقتل الرجال الثلاثة على أيدي
الشرطة في عملية سرقة، وهو مشهد نُفذ بحرفية عالية، لا سيما مشهد انفجار
واحتراق الشاحنة التي تقلهم، ينتقل السيناريو إلى فيرونيكا (الممثلة فيولا
ديفز) التي يقتل زوجها هاري راولنغز (الممثل ليام نيسون) في الحادث، وهي
تواجه تبعات هذا الحادث وسط العالم الإجرامي الذي كان يعيش فيه زوجها، حيث
يطالبها أحد رجال العصابات السود جمال ماننغ (الممثل بريان تايري هنري)
نعرف لاحقا أنه يسعى للعب دور سياسي في المدينة، بتسديد مبلغ مليوني دولار
له كانت مع زوجها أثناء الحادث ويمنحها شهر لسداد المبلغ.
لا يحفل الفيلم هنا بالتناقض الذي تعيشه فيرونيكا بين كونها
امرأة من الطبقة الوسطى متقاعدة من قطاع التعليم ونقابية سابقة وزواجها من
رجل عصابات، بل يبرر أيضا تحولها إلى عالم السرقة والجريمة لمواجهة تحديات
واقعها الجديد!!
ولانرى في محاولة الفيلم استثمار خلفية الفروق الطبقية أو
التوترات الاجتماعية والإثنية والفساد السياسي التي يلمح إليها الفيلم،
مبررا لتسويغ واقع العنف والجريمة المهيمن على مساره وتحول شخصياته النسوية
في سياقه.
لصوص وسياسيون فاسدون
وتجري أحداث الفيلم على هامش الاستعدادات للانتخابات
المحلية في مدينة شيكاغو، حيث نرى أسرة موليغان ذات الأصول الإيرلندية التي
تهيمن على السياسة وعلاقات القوة في المدينة، ممثلة بالإبن جاك موليغان
(الممثل كولن فاريل) ووالده السياسي العجوز والعنصري (الممثل روبرت دوفال)،
وبالمقابل نرى محاولة جمال ماننغ (الممثل بريان تايري هنري) الذي يدير
عصابة من أبناء جلدته السود يحاول أن يغسل سمعته وأمواله بالترشح إلى منصب
عمدة المدينة، تاركا تنفيذ أعمال العنف والأعمال القذرة لشقيقه الذي أدى
دورة ببراعة الممثل (دانيال كالويا)، كما نشهد محاولات من موليغان للتوصل
إلى توافق وتعاون في اقتسام النفوذ والسيطرة على السياسة المحلية وضم ماننغ
تحت جناحه.
وبعد عثور فيرونيكا على مفكرة زوجها التي تضم خطة محكمة
لسرقة مبلغ 5 ملايين دولار من عائلة موليغان تجد فيها الحل لمحنتها، تسعى
لإقناع زوجات رفيقي زوجها اللذين قتلا في الحادث لمساعدتها في تنفيذ السرقة.
وتسود العمل مسحة من الكوميديا تخفف إحيانا من هيمنة
المشاهد العنيفة مع ظهور الزوجتين الأخريين. ويحرص ماكوين هنا أيضا على
التنوع العرقي فإحداهما شقراء فارعة من أصول أوروبية بولندية والثانية من
أصول لاتينية (هسبانية).
ومع مشاهد تنفيذ السرقة ندخل في مشاهد تشويقية خالصة ونواجه
بحبكة قامت على عدد من المفاجآت، من أمثال تمكن ماننغ الأخ من سلب المبلغ
المسروق من النساء الثلاث، لكنهن يتمكنّ لاحقا من ملاحقته واسترداده، وكذلك
اكتشاف أن راولنغز،زوج فيرونيكا، ما زال حيا وأنه هو من رَتب تفجير سيارة
زميليه وسرقة الأموال التي معهم، فضلا عن محاولته الحصول على الأموال
المسروقة منها لكنها تتمكن من قتله في النهاية.
بيد أنها بدت حبكة احتوت على الكثير من الثغرات والمشاهد
القائمة على المصادفة والمفتقدة للاقناع وترسمت مسار المسلسل التلفزيوني
الأصلي.
ضياع في هوليود
لقد بدا ستيف ماكوين في هذا العمل دون مستواه الفني الذي
ظهر عليه في أفلامه السابقة، كما هي الحال مع فيلمه "12 عاما من العبودية"
2013 المتوج بثلاث جوائز أوسكار، أو فيلمه المميز "جوع" 2008 الذي حصد عنه
جائزة الكاميرا الذهبية التي تمنح للعمل الاخراجي الأول في مهرجان كان.
بدا ماكوين حريصا على أن ينوع مسيرته الفنية التي بدأها
فنانا بصريا، عرف بأفلام الفيديو، ليخوض مغامرة إخراج فيلم مغامرات وسرقة
في السياق الهوليوودي، فبدا ضائعا في أرض غريبة عليه وانشغل كليا بمحاولة
اتقان صناعة التشويق، واثبات قدرته على اتقان تنفيذ مشاهد الحركة المهيمنة
فيها (أبرزها مشهد التمهيد وانفجار السيارة)، ولم تنفع محاولة إضفاء لمسة
من النقد الاجتماعي في الإشارة إلى الفساد السياسي والتوتر العرقي في
إخراجه من هذه الصيغة.
لقد نجح ماكوين في تقديم فيلم حركة مشوق، لكنه افتقد إلى
عناصر قوته التعبيرية التي اشتهر بها في معالجته لموضوعات أفلامه السابقة.
وقاد ماكوين فريقه التقني الذي تعاون معه في أفلامه السابقة
في هذه المغامرة، كما هي الحال مع مدير التصوير شون بوبيت والمونتير جو
ولكر، اللذين نجحا في تقديم مشاهد جمالية عالية وسط سياق مشاهد التشويق
والحركة، التي كانت تقودها موسيقى هانس زيمر وتعمق عنصر التشويق فيها.
ولعل العنصر الأبرز في الفيلم هو قيادة ماكوين لممثليه،
لاسيما الممثلة فيولا ديفز (أول ممثلة سوداء تتوج بثلاث جوائز أوسكار وأيمي
وتوني معا) التي قدمت واحدا من أفضل أدوراها في دور فيرونيكا، المرأة التي
ينقلب عالمها رأسا على عقب، وما تطلبته شخصيتها من انتقالات سريعة بين
مشاهد القوة والضعف الإنساني والخوف والرعب، بل وفي الانتقال من عالم
النساء إلى عالم الجريمة الرجالي العنيف.
وكذلك الحال مع الممثل دانيال كالويا، في دور الأخ ماننغ
المهووس بالعنف والمتلذذ بتنفيذه، (يذكرك بشخصيات كوينتن تارنتينو
العنيفة)، نراه في أحد المشاهد يحول جريمته إلى نوع من الرقص عندما يجبر
ضحاياه على غناء الراب، ويقتلهم وهو يراقصهم على إيقاع الأغنية، وكانت
كاميرا بوبيت تدور معه مركزة في لقطة مقربة على وجهه بين الضحيتين.
لقد دفعت توزانات مهرجان لندن وتركيزه على مفاهيم التعددية
والتنوع العرقي والجندري والاهتمام بقضايا المرأة بفيلم ماكوين ليكون فاتحة
المهرجان، بيد أنها في النهاية ظلت داخل الفيلم نفسه مجرد هوامش وسط سياق
حركة وتشويق طاغيين تفرضهما قوانين هذه النوع أو الجنرة الفنية. |