فيلم
«Roma»:
ألفونسو كوارون والبحث عن الزمن المفقود
أحمد عزت
الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، وإنما هي ما يتذكره، وكيف
يتذكره ليحكيه
من كتاب «أن تعيش لتحكي» جابريل جارثيا ماركيز
كل الفتيات أميرات، حتى لو عشن في عليات قديمة وضيقة أو
ارتدين خرق الثياب، حتى لو لم يكن جميلات أو ذكيات.
تمامًا مثل بطل رواية مارسيل بروست «البحث عن الزمن
المفقود»، المتعطش لاستعادة زمن طفولته الضائع، كان ألفونسو كوارون، ومنذ
أن بدأ مسيرته كمخرج سينمائي عام 1991 مأخوذًا برغبة آسرة في أن يصنع
فيلمًا سينمائيًا مبنيًا بكامله على ذكريات طفولته، وهو ما تحقق له أخيرًا
في فيلمه «روما
– Roma»
والذي يعود من خلاله إلى جذوره الأولى في المكسيك وإلى لغته الأم بعد غياب
17 عامًا منذ آخر فيلم حققه هناك
«Y Tu Mamá También»
عام 2001. مر إذًا ما يقرب من ثلاثة عقود قبل أن يتمكن كوارون من استحضار
هذه الصور من أعماق روحه بهذا القدر من الصفاء والألق والشاعرية.
في سينما المخرج المكسيكي ألفونسو كوارون نكون دائمًا بصدد
رحلة ما، سواء كانت تلك الرحلة هي سفر نحو الأغوار السحيقة للفضاء الخارجي
في رحلة مدموغة بالعزلة في أقصى حالاتها و بفزع لا نهائي في فيلمه «جاذبية
Gravity»،
أو رحلة طريق لصديقين مقربين قي طور مراهقتهما مع امرأة يعرفانها بالكاد
تنتهي بتغيير حياتهما للأبد في فيلمه «وأمك أيضًا».
هنا في فيلمه «روما» نحن أمام سفر إلى زمن مستعاد، رحلة في
الاتجاه المعاكس، إلى داخل كوارون نفسه، إلى تخوم ذاكرته البعيدة حيث
العالم المفقود لطفولته في مكسيكو سيتي مطلع السبعينات، في ضاحية «كولونيا
روما» حيث إقامة أسرته.
ما يشبه السيرة الذاتية
يشكل «روما» إذن وإلى حد بعيد سيرة ذاتية لمخرجه، فجميع
شخصيات فيلمه وأحداثه لها أصل في حياته الخاصة والتي تشكل مادة السرد
لفيلمه، ومع ذلك لا يتصدر كوارون مشهديته السينمائية ولا نرى الأحداث من
خلال عينيه بل يمنح قلب الحكاية وزاوية الرؤية للخادمة «كليو» (التجسيد
السينمائي للخادمة والمربية ليبو التي عملت لدى أسرة كوارون) في محاولة
لرسم بورتريه عائلي عبر ذكرياته الخاصة تسكن «كليو» القلب منه في زمن فوضى
واضطرابات سياسية واجتماعية.
هذا التخفي الذي يختاره كوارون داخل سردية هي بالأساس
سرديته الخاصة، إذ لا يمكننا التعرف على تجسده السينمائي داخل الفيلم إلا
بالتخمين. فقط لأننا نعرف أن كوارون ولد 1961 وزمن الفيلم هو 1971
فبالإمكان أن يكون هو الابن الأوسط بين الأبناء.
ربما نرى هذا التخفي كنوع من المحبة والتقدير لمربيته
«ليبو» والتي طالما اعتبرها كأم ثانية، فهو يجعلها دائمًا قلب مشهده وهدف
كاميراه، فالكاميرا مرتبطة بها وتتحرك معها، كما لو كان عودة كوارون
لذكرياته كان من أجلها، من أجل أن يفهمها على نحو أوضح، أن يعرف كيف كانت
تشعر آنذاك كخادمة تنتمي لأقليه عرقية (السكان الأصليين/ هنود المكسيك) في
مجتمع متجذر في الطبقية والعنصرية بينما تحمل جنين رجل تخلى عنها.
هذا الخيار الذي اختاره كوارون بإبعاد ذاته عن مركز الصورة
شبيه أيضًا بخيارتاركوفسكي في فيلمه الأكثر ذاتية والذي يعتمد أيضًا على
ذكريات طفولته «المرآة» بأن يغيب بطله عن الشاشة، فغياب البطل عن الشاشة
يشبه المرآة حيث ينعكس على هذا البطل الغائب كل ما يدور أمامه تمامًا مثل
كوارون الطفل والذي ينعكس عليه كل ما يدور حوله دون حاجة أن يكون في قلبه.
«روما»:
جراح الذات والوطن في مرايا الذاكرة
كان «بورخيس» يرى الذاكرة مثل مرآة معتمة أو كشظايا مرآة
محطمة، بينما أراها أنا مثل شقوق في حائط، كل شق هو ألم أصابك ومهما فعلت
لتداريه فإنه سيظل موجودًا.
المخرج «ألفونسو كوارون» في أحد حواراته الصحفية.
يحمل «روما» إذًا رغبة مخرجه في أن يحدق مباشرة في ماضيه،
أن يعري جراحه المفتوحة تحت ثقل الذكريات، جراح ذاته ووطنه. يعود الإنسان
إلى ماضيه كأنما يعود إلى نفسه باحثًا عن شيء مفقود بين ركام الصور
والذكريات عن حقيقة أو معنى يلملم من خلاله فكره وشظايا ذاته. عودة
«كوارون» أيضًا إلى ماضيه مصحوبة بوعي حاد بالسياق الأعم والأكثر اتساعًا
لحكايته.
فاللحظة الزمنية التي يختارها لحكايته تمزج الخاص والعام
برابطة شعورية واحدة. فالعائلة التي تشكل عالمه الخاص والحميم مقبلة على
انهيار وشيك (يتخلي الأب عن العائلة، يتخلى الحبيب عن كليو) وكذلك المجتمع
الذي تحدوه آمال التغيير عبر تظاهرات وانتفاضات الطلبة موشك هو أيضًا على
الانهيار والدخول في نفق مظلم.
هذ الوعي لدى «كوارون» لا يسمح لصوره أن تغرق في حنين زائف
أو أن تنزلق بسرده نحو الميلودراما، رغم غواية بعض المشاهد بذلك. نجده
دائمًا يضع مسافة بيننا وبين شخصياته، مسافة تسمح بالتأمل ولا تلغي التعاطف
معها فهو لا يستخدم اللقطات القريبة/الكلوز أب إلا نادرًا، وغالبًا ما تكون
من نصيب «كليو» والتي يرغب في الأساس في الاقتراب منها ومعانقة مشاعرها
الخاصة كذلك اختياره بعدم استخدام موسيقى تصويرية تصاحب مشاهده.
هناك مشهد أراه يعبر عن هذا الوعي لدى المخرج (وعيه
بالطبقية المتجذرة في مجتمعه)، نجد في هذه المشهد تجتمع العائلة بعد عودة
الأب أمام التلفاز لمشاهدة فيلم كوميدي تجلس على الأرضية بجوار أحد الأطفال
يضع الطفل ذراعه على كتفها، تبدو «كليو» في هذه اللحظة كجزء من العائلة،
لكن «كوارون» لا يقطع المشهد قبل أن تتحرك الكاميرا إلى الخلف لنشاهد
«كليو» على الأرضية والعائلة على الأريكة كأنما لا يريدنا أن نغادر هذ
المشهد دون أن يؤطر بهذه الحركة الوضع الطبقي داخله ثم يؤكد ذلك بالقطع على
«كليو» وهي تحمل بقايا الطعام وتهبط وحيدة درجًا معتمًا لتواصل عملها الذي
يبدو بلا نهاية بينما يتناهى إلينا من بعيد ضحكات العائلة.
روما: الحياة في ظلال الموت
يضع «كوارون» منذ البداية عالم العائلة الخاص والحميمي في
مقدمة الصورة، لكنه يسمح لأحداث العنف والموت الدائرة خارج عالم العائلة أن
تتسلل بذكاء عبر الحوارات العادية واليومية داخل العائلة حيث يحكي أحد
الأطفال على مائدة الطعام أن طفلًا كان يلقي ببالونة مليئة بالماء على
السيارات المارة، لكن حظه العاثر جعل بالونته تسقط على سيارة عسكرية
فأطلقوا الرصاص إلى رأسه، أو إلى خيالات وأحلام اصغر أطفال العائلة فنجده
يمتنع عن الكلام مع كليو لأنه يلعب دور ميت والموتى لا يتكلمون أو يحكي لها
أنه في حياة أخرى كان طيارًا، ومرة ثانية كان بحارًا لكن حكاياته دائمًا ما
تنتهي بالموت.
يمرر «كوارون» أحيانًا عبر صوره إشارات وإرهاصات بالمصير
الذي تتجه نحو الأحداث والشخصيات. ففي مشهد تذهب فيه «كليو» إلى المستشفى
لعمل فحوصات من أجل حملها وأثناء زيارتها لقسم حديثي الولادة تحدث هزة
أرضية، تقف كليو تحدق دون حراك وسط الفوضى بينما ينتهي المشهد بلقطة لحضانة
طفل مغطاة بركام من الحجارة فيما يشبه قبرًا في إرهاصة بمصير جنين كليو أو
ربما بمصير الانتفاضات الحادثة وأملها في التغيير.
هذه الظلال القاتمة التي يلقي بها الفضاء العام على الفضاء
الخاص غير كافية بالنسبة لكوارون، ففي واحدة من أكثر تتابعات الفيلم قسوة
ودموية فيما عرف باسم مجزرة «كوربوس كريستي» وترجمتها جسد المسيح، يخترق
العام بكل عنفه ودمويته الفضاء الخاص في لحظة من أكثر لحظاته حميمية، حين
تذهب «كليو» مع الجدة لاختيار مهد لطفلها القادم، التتابع الذي ينتهي
بفقدان كليو لجنينها.
يستحضر «كوارون» في فيلمه روح كلاسيكيات الواقعية الإيطالية
من التصوير الأبيض والأسود، التصوير في الأماكن الطبيعية، الاستغناء عن
فكرة الحبكة مقابل رصد دقيق وشاعري للحياة اليومية في أكثر مظاهرها ألفة
وعادية والاستعانة بممثلين غير محترفين، فالممثلة «باليتسا أباريسو» والتي
أدت دور «كليو» والتي يحمل وجهها زخمًا تعبيرًا مدهشًا يمزج بين الحزن
المكتوم، البراءة وقلة الحيلة هي بالأساس مدرسة وهذه هي المرة الأولى التي
تقف فيها أمام الكاميرا.
يصف النقاد شخصيات المخرج الإيطالي «دي سيكا» أحد رواد
مدرسة الواقعية الجديدة في السينما الإيطالية بأنها شخصيات مضاءة من الداخل
بمعنى أنه بإمكانك ملامسة روحها بمجرد رؤيتها وهو ما أراه وصفًا دقيقًا
جدًا لشخصية «كليو » والتي يستطيع كل من يراها أن يدرك أنها روح محبة وطيبة
منحت نفسها للجميع لكنها لم ترغب أن تمنح الحياة لطفلها الوحيد ربما لأنها
تشفق عليه أن يعاني مثلما عانت.
في كل محاورات «كوارون» بشأن الفيلم يهدي فيلمه للنساء
الذي تربى بينهن، وكان لهن أثر واضخ في تكوينه الشخصي وأيضًا في سينماه
وخاصة مربيته ليبو والتي تحمل تترات النهاية اسمها. يمكننا أن نتتبع أثر
هذه المحبة التي يكنها المخرج للنساء في كل أفلامه، لكن سأتوقف أمام هذه
العبارة التي تأتي على لسان بطلته الطفلة التي تتحول من فتاة ثرية إلى
خادمة في فيلمه
(Alittle princess): |