أمل رمسيس:«تأتون من بعيد» عبر عن الشتات الفلسطينى وقوة
الحركة السياسية قبل النكبة
حوار : منى شديد
«تأتون من بعيد» عنوان الفيلم التسجيلى الطويل الذى حصدت به
المخرجة أمل رمسيس العديد من الجوائز وأشاد به النقاد لأنها قدمت فيه
الشتات الفلسطينى من خلال قصة الصحفي والكاتب الفلسطيني اليساري الراحل
نجاتي صدقي فهي قصة غير عادية لعائلة كانت شاهدة على النكبة الفلسطينية
والعديد من الحروب الأخرى فى العالم خلال القرن العشرين،
بداية
من الحرب الأهلية الإسبانية التي شارك فيها الأب «نجاتي صدقي» في النضال ضد
الفاشية، ومرورا بالحرب العالمية الثانية، وبعدها النكبة الفلسطينية ثم
الحرب الأهلية اللبنانية، حصلت أمل عن هذا الفيلم على جائزة التانيت الفضي
من مهرجان أيام قرطاج السينمائية وجائزة لجنة التحكيم الكبرى لأفضل فيلم
تسجيلي طويل من مهرجان تطوان لسينما البحر المتوسط في المغرب الشهر الماضي
وأفضل فيلم في مهرجان الأرض للأفلام الوثائقية في إيطاليا، كما حازت فى
الدورة الأخيرة من مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والروائية
القصيرة على جائزتى الفيبريسى واتحاد النقاد الأفارقة وفى هذا الحوار
تحدثنا عن تجربة الفيلم والصعوبات التى واجهتها فى الوصول لأرشيف الحروب.
·
متى ولدت فكرة الفيلم وكيف؟
بدأت فى 2003 عندما قرأت بالصدفة مقالة عن مشاركة العرب فى
الحرب الأهلية الإسبانية ضد فرانكو، فحتى ذلك الوقت كان المعروف عن هذه
الحرب أن المغاربة شاركوا فيها رغما عنهم مع جيوش فرانكو النظامية ضد
الجمهوريين والمطالبين بالديمقراطية حيث كانتإسبانيا فى ذلك الوقت تحتل
شمال المغرب، وجلبهم فرانكو ليكونوا فى الصفوف الأولي، وهذا المقال تحدث
لأول مرة عن وجود عربى آخر فى هذه الحرب، وأن العرب كانوا بين المتطوعين
الأميين الذين جاءوا للدفاع عن الجمهورية ضد فاشية فرانكو، معلومة جديدة لا
يعرفها الكثيرون، ولهذا تواصلت مع كاتب المقال وكان فى ذلك الوقت عمره تعدى
الـ85 عاما، وأخبرنى أنه عرف بهذه القصة أيضا عن طريق الصدفة أثناء بحثه فى
أرشيف موسكو عن دور الصينيين فى الحرب الأهلية الإسبانية وأكتشف فى الأوراق
أسماء عربية، وقدم لى كل الوثائق التى عثر عليها لأنه وجدنى مهتمة بالموضوع
ومن الممكن أن أستكمل البحث فيه، وبالفعل بدأت العمل على الفكرة والبحث عن
معلومات أكثر عن الحرب الأهلية الإسبانية حتى أرى إلى أين سيصل بى الأمر.
·
ما الذى كنت تبحثين عنه بالتحديد؟
كنت أبحث عن قصة شخصية أحكى من خلالها، لأنى لم أكن أريد
تقديم فيلم تاريخى كلاسيكى اشبه بريبورتاج عن الحرب الأهلية ومشاركة العرب
فيها، إلى أن قرأت كتابا لكاتبة إسبانية فى عام 2007 عن الرحالة العرب وكان
به فصل كامل عن الكاتب الفلسطينى نجاتى صدقى ورحلته إلى إسبانيا، فتواصلت
معها وعرفت منها أنها ترجمت فى كتابها جزءا من مذكرات صدقى نفسه المنشورة
فى بيروت وحصلت منها على وسيلة للتواصل مع ابنته هند المقيمة فى أثينا
باليونان وأرسلت لى الأخيرة نسخة من المذكرات وبعد أن قرأتها قررت أن أذهب
للتصوير معها رغم أنه وقتها لم تكن لدى أى ميزانية إنتاج للفيلم لأنى
مازالت فى مرحلة الإعداد ولم تكن فكرة الفيلم قد تشكلت بعد بشكل كامل، ولكن
بعد لقائى بها والحديث عن الأسرة شعرت أن هذه هى القصة الشخصية التى كنت
أبحث عنها.
·
لماذا توقفت عن العمل فى الفيلم لما يقرب من 8 سنوات وما
الذى دفعك للعودة إليه مرة أخرى؟
حاولت البحث عن إنتاج للفيلم فى نهاية 2007 وبداية 2008
ولكن للأسف لم أجد أحدا مهتما بالحرب الأهلية الإسبانية ولا بالوجود العربى
فيها، وكنت أعيش فى إسبانيا وعدت إلى القاهرة وانشغلت بمشاريع أخرى على
رأسها تأسيس مهرجان القاهرة لسينما المرأة، وقدمت فيلمين تسجيليين ثم قامت
ثورة 25 يناير 2011، وأعقبها الكثير من الأحداث، فظل مشروع الفيلم مؤجلا
لأجل غير مسمى رغم أنى لم أتوقف عن البحث فى الأرشيف، إلى أن اتصلت بى هند
من اليونان فى عام 2015، وقالت لى: إن على أن أقابل شقيقتها الكبرى دولت فى
موسكو فى أسرع وقت إذا كنت لا أزال مهتمة بمشروع الفيلم لأنها بدأت تفقد
ذاكرتها، وبالفعل سافرت مع «زوجى نجاتي» للتصوير معها فى موسكو، وكان هذا
اللقاء هو الدافع لاستكمال الفيلم بعد أن اصبحت الفكرة مكتملة، فبدأت فى
مونتاج جزء من المادة التى تم تصويرها مع هند ودولت، وتقدمت بهذا الجزء
لجهات مختلفة طلبا للدعم الانتاجي، وأطلقنا أيضا حملة على شبكة الإنترنت
لجمع تبرعات دعم وحصلنا على منحة من آفاق وجهات أخرى استكملنا بها التصوير
ومونتاج الفيلم وأنهيته فى 2018.
·
ولماذا ظل الوجود العربى فى الحرب الأهلية الإسبانية مجهولا
رغم أن هناك دلائل عليه؟
هناك دائما محاولات للطمس فى كل ما يتعلق بالحرب الأهلية
الإسبانية ليس فقط فيما يتعلق بعلاقتها بالعرب وإنما بشكل عام، لأن فرانكو
هو من انتصر فى هذه الحرب وتلى ذلك عصر ديكتاتورى استمر لفترة طويلة، ثم
فترة تحول للديمقراطية كانت المساومة المطروحة فيها هى الصمت حتى يكتمل هذا
التحول، والسبب الثانى هو أن أغلب العرب المشاركين فيها دخلوا إسبانيا
بجوازات سفر مزورة أغلبها فرنسية لأنهم جاءوا عن طريق فرنسا يحملون أسماء
حركية غير أسمائهم الحقيقية، فما أثار كاتب المقال الذى كشف عن هذا هو أنه
وجد فى أوراق الأرشيف أسماء عربية مكتوب أمامها أنها لفرنسى الجنسية جاءوا
من وهران بالجزائر وهو ما دفعه للتعمق فى البحث وأكتشف أنهم جاءوا جميعا
بأسماء حركية للمشاركة فى النضال السياسي، وحتى نجاتى صدقى لم يكن معروفا
باسمه الحقيقى فى هذه الحرب وإنما كان يعرف باسم مصطفى بن جالا وفى موسكو
كان يعرف باسم مصطفى سعدي، ولهذا لم نعرف عنهم شيئا، وبعد انتصار فرانكو
وسيطرة الديكتاتورية كانت هناك حالة من القمع الشديدة وقتل الكثيرون ودخل
آخرون السجن ولهذا لا يفصح الكثيرون ممن شاركوا فيها عن هذا.
·
هل كان أغلب المشاركين فيها من المنتمين للحزب الشيوعي؟
لا كانت لهم انتماءات مختلفة، وكلهم جاءوا للمشاركة فى
الثورة الإسبانية ضد الديكتاتورية التى بدأت بالإضرابات العمالية، وكان
الدافع وراء مشاركتهم هو أن انتصار الحركة العمالية هناك يعتبر هزيمة
للفاشية وللبلاد المستعمرة فى شمال المغرب «فرنسا وإسبانيا» وفى حالة نجاتى
صدقى هو انتصار ضد الانتداب البريطانى فى فلسطين.
·
ما الذى جذبك فى قصة نجاتى وأسرته؟
وجدت فيها القصة الشخصية التى كنت أبحث عنها وعرفت الاسم
الحقيقى لواحد من أصحاب الأسماء الحركية فى الثورة الإسبانية، بالإضافة إلى
أن قصته هى قصة شتات فلسطينى تربط بين كل الحروب بداية من الحرب الأهلية
الإسبانية وحتى الآن، شتات بدأ من قبل النكبة، فآراء نجاتى الحرة ومواقفه
كانت سببا فى طرده من الحزب الشيوعى وفرقته عن ابنته دولت وشتت أسرته، قصته
منحت الفيلم بُعدا أكبر من مجرد مشاركة العرب فى الثورة الإسبانية فهو يعكس
طبيعة الحركة السياسية القوية التى كانت موجودة فى فلسطين قبل نكبة 1948،
وأصبح الفيلم يتناول الحروب وما الذى يبقى فى ذاكرتنا نتيجة للحروب
المختلفة التى عاشتها هذه الأسرة ونرى من خلالها كيف يتكرر التاريخ وأن
الفاشية مازالت موجودة والصهيونية امتداد للمشروع الفاشى فى أوروبا فى
الثلاثينيات، وجود هذه الأسرة هو ما أعطى للفيلم عمقا أكبر وأبعد من مجرد
تاريخ الحرب الأهلية الإسبانية.
·
ومتى اكتملت صورة الفيلم بالنسبة لك؟
بعد أن قابلت دولت فى موسكو فى 2015 ، واكشتفت أن ذاكرتها
قوية جدا وحكت لى أشياء ربما لا يعرفها أشقاؤها، ومن هنا بدأت الصورة تكتمل
فى ذهنى وأشعر أن لدى فيلما، لأن قبل أن أقابلها كانت القصة مشتتة ولدى
مقتطفات وأجزاء ومعلومات غير مكتملة وبوجودها اكتملت الصورة.
·
وما الصعوبات التى واجهتك؟
أولا أننى أعمل على الحرب الأهلية الإسبانية والتى كانت حتى
وقتا قريبا من الصعب الحديث عنها لأن ديكتاتورية فرانكو هى التى انتصرت،
ولهذا لم يكن أحد مهتما بالفيلم ولا بدور العرب، فكل ما يريده الأوروبيون
منا هو قصص عن الضحايا وفيلمى لا يقدم هذا بل على العكس يتحدث عن شخصيات
اختارت ودافعت عن اختيارها، ويقول للأوربيين إن العرب جاءوا للدفاع عنهم ضد
الفاشية التى كانت تحكمهم وبالتأكيد هم لا يريدون هذا النوع من القصص من
العالم العربي، وإنما يريدون أعمالا عن التحرش والختان وما إلى ذلك، ولهذا
لم أجد دعما إنتاجيا للفيلم فى أوروبا والدعم الذى حصلت عليه بعد لقائى
بدولت كان من صناديق دعم عربية.
·
هل واجهت صعوبات فى الوصول لأرشيف الحروب؟
نعم هناك صعوبة كبيرة فى الوصول للأرشيف واستخدامه، فمن
الممكن أن نجد بعض الأشياء على اليوتيوب لكن لا يمكن استخدامها بسبب حقوق
الملكية الفكرية، وأقل سعر للدقيقة الواحدة من الأرشيف هو 1500 يورو، وفيلم
مثل هذا بالتأكيد يحتاج للقطات أرشيفيه وهو أمر مكلف جدا فقد اشتريت بعض
المقاطع وصلت تكلفتها إلى 10 آلاف يورو، وفى رأيي أن تحديد هذا السعر
المرتفع جزء منه سياسى لأنه ليس مطلوبا أن نرى صورا ولقطات من النكبة على
سبيل المثال، خاصة أنها ملك للأرشيف البريطاني، فأغلب أرشيفات الحروب ملك
لبريطانيا وفرنسا، ولهذا أرى أن منعها وارتفاع أسعارها يرجع إلى ضرورة طمس
أجزاء من التاريخ ومنع الناس من استرجاعها ومعرفة الحقائق، فالصورة هى التى
تعطى مصداقية للرواية التاريخية، لكنى حرصت على أن يتضمن الفيلم نوعا من
الاعتراض على ما يحدث للأرشيف بأن الصورة الأرشيفية ليست الوثيقة الوحيدة
على مصداقية القصة التاريخية فالذاكرة البصرية واسعة وحكايات البشر هى التى
تمنح التاريخ مصداقيته، ولهذا حاولت أن أعمل على الأرشيف بهذا المنطق، فعلى
سبيل المثال قصف العراق استخدمته على قصف العراق وعلى قصف مدريد أيضا فهو
يخدم فكرة الفيلم ورمزية أن الحروب كلها متشابهة والتاريخ يكرر نفسه وعدم
وجود صور لا يعنى أن الحدث لم يقع. |