لماذا بقي محمود الجندي محتفظًا بمكانته حتى مع فترات الانقطاع عن
التمثيل؟ هذا التساؤل الذي يبقى في بوادر الأذهان مع تذكر اسم
الراحل الذي فارق الحياة في ساعات مبكرة من اليوم، والإجابة على
هذا التساؤل في حقيقتها تتضمن الكثير والكثير خصوصًا وأن الساحة
الفنية في سنواتها الأخيرة أزاحت الكثيرين من الفنانين القدامى من
المشهد وأدخلت نجوما جددا سواء كانوا من الكبار في السن أو الأصغر
سناً لكن الجندي احتفظ بمكانته التي وضعته في مرتبة خاصة صحيح أنه
لم يبق فيها بطلًا منفردًا للعمل لكنه كان دائمًا جزءًا
مهما ورئيسيًا به.
نجاح ومكانة محمود الجندي ارتبطت بالكثير من المحطات المهمة
والمؤثرة في مقدمتها الطفولة التي شكلت وصنعت الموهبة، فقد كان
والده الراحل أول من أسس دار سينما في مركز أبو المطامير بالبحيرة
وكان حينها يجلس بجوار مكينة العرض مما جعله يتعلق بحب السينما
والعمل بها، تلك البوابة التي جعلته فيما بعد يقرر دراسة التمثيل
والعمل به في مرحلة الشباب.
التحدي لدى الجندي نشأ معه من الطفولة فقد كان الراحل الابن الأوسط
لثمانية أشقاء آخرين، ومع تزايد مصروفات الأسرة خصوصًا أن أشقاءه
أنهوا مراحل تعليمهم الجامعية، قرر تخفيف العبء من على الأسرة وذهب
إلى الالتحاق بمدرسة الثانوي الصناعي ودرس النسيج تلك الدراسة التي
جعلته يتعامل بأدواته الجسدية والعملية والذهنية مع المنتج الفني
ويشعر بملمسه ما دفع به للتعرف على فنون أخرى "تطبيقية" و"تشكيلية"
لاشك أنها جزء لا يتجزأ من صناعة السينما التي يقوم بناءها الأساسي
على التشكيل.
ويستمر التحدي لدى الراحل فيقرر الذهاب إلى القاهرة ويبدأ رحلة
بحثه للإلتحاق بمعهد السينما ولأنه يعرف جيدًا أن الحالة
الإقتصادية للأسرة غير مستقرة يقرر العمل في مصنع للنسيج بالعباسية
بجوار دراسته في المعهد لكن تحديا آخر يقابله في هذه الرحلة وهو
أنه بعد تجاوزه لاختبارات معهد السينما بقيت مشكلة دخوله إليه
رسميًّا حيث إنه لم يكن من المعتاد أن يدخل شخص للدراسة بدون شهادة
الثانوية العامة لكن عميد المعهد حينها محمد كريم قرر منحه فرصة،
خاصة نظرًا لتفوقه في اختبارات القبول فألزمه بمهلة ستة أشهر يختبر
فيها قدراته في دراسة اللغات وغيرها وبالفعل أثبت تفوقه حتى أنه
كان يحصل على مكافأة مالية حينها بقيمة ٨ جنيهات ونصف.
"الفنان الشامل"عادة تتعلق هذه العبارة بالفنانات أكثر نظرًا
لكونهما يؤدون أكثر من وظيفة مثل التمثيل والغناء والرقص
الاستعراضي وغيرها إن أمكن لكن الجندي لعله كسر هذه القاعدة مبكرًا
مع بداية الرحلة فقد كان شاعرًا ومطربًا وممثلًا وصانعًا فنيًّا من
واقع دراسته للنسيج وعمله في "النول" تحديدًا، فقد كان لكل هذا
تراكمات في حقيبة الفنان التي وظف كلًا منها توظيفيًا جيدًا، وكانت
البداية مع الأشعار التي كان يكتبها للمسرحيات وهو ممثل
مبتدىء وكان في مقدمة ذلك مسرحية بعنوان "شكسبير في العتبة" التي
كتب أشعارها للمخرج سمير العصفوري دون أن يتقاضى آجر بسبب ضعف
ميزانية العمل، وهنا أبهر الجندي الحضور بشعره حيث قال:
"سيداتي سادتي في شىء خطير فبرغم أن شكسبير قدملهم في الفترة دى
روايات كتير ماكبث ولير.هاملت عطيل لكن الفكر ضاع والفن لاص.الفن
أصبح سمسرة متعة وتجارة ومسخرة ومفيش مكان بقى للحماس.فشكسبير قالك
خلاص لا مناص..جمع قوام خمسين حب وغرام وكام جرام خيال متشعلق
فالهوا ورش فوقهم من إزازة المضحكات حبة حاجات كانت عبارة عن مقالب
شاحنة كانت عبارة عن حلم ليلة صيف"
كان من بين الحضور حينها الشاعر الراحل صلاح جاهين، والذي ولع
بشعره وقال له" أنا أنصحك تبعد عن التمثيل طالما أنك موهوب في
الشعر لأن شكسبير كان ممثلا فاشلا برغم من عظمة كتاباته" ولكن برغم
رأي الشاعر إلا أنه لم يلتفت لحديثه وواصل رحلته.
أما الغناء الذي ورث حبه من والدته وتحديدًا المواويل التي تألق
فيها خلال عمله بالعديد من المسرحيات فكانت سببًا آخر في انتشار
جماهيريته وتعلق الكثيرون بنبرة صوته خصوصًا مع اختفاء غناء
المواويل في تلك المرحلة من ناحية، وبحث الفنان عن الموروث الشعبي
من هذه المواويل أشهرها ما قدمه في مسرحية "علشان خاطر عيونك" مع
شريهان ويقول فيه:" ياغاوي مشي الحريم..مشي الحريم بطال..".
ويدخل الجندي مرحلة النضج الفني شيئًا فشّيئا مكتسبًا خبرة الوقوف
أمام العملاقة مثل فؤاد المهندس الذي وقف أمامه في مسرحيتي: علشان
خاطر عيونك، وحقًّا إنها عائلة محترمة. كما وقف أمام عبد المنعم
مدبولي في مسلسل "بابا عبده" الذي كان سببا في شهرته هو والآخرون
من الفنانين، والحقيقة أن المدرستين اللتين وقف أمامهما الجندي
"المهندس ومدبولي" كفيلتان بأن يصنعا موهبة وخبرة الراحل التي من
المؤكد أنها نقلته من مرحلة الممثل المبتدىء للممثل المحترف الذي
يجيد المزج بين دوره وحركاته الجسمانية ويمتلك سريعة البديهة،
ويتميز بإطلالة خاصة تجعله مميزا عن الآخرين.
كما أن الوقوف أمام ممثل كوميدي في دور اجتماعي، مثل عبد المنعم
مدبولي في "بابا عبده" لابد وأنه خطوة تستوجب الدراسة من أي فنان
وهو ما ظهر في نمط أعمال الجندي بعد ذلك التي حافظ فيها على هذا
المستوى من الخبرة التي اكتسبها من الوقوف أمام هؤلاء العمالقة.
من هنا نجح الجندي في خلق مدرسته الخاصة في الأداء والتي كان من
الاحترافية فيها أن يجمع بين أكثر من مدرسة تمثيل كل بحسب الدور
وطبيعة المنظومة الفنية التي يعمل بها.
ففي المسرح بعيدا عن كونه مستحقا لعبارة "الفنان الشامل" فإن
الجندي جمع بين المدرسة الكلاسيكية التي تعتمد على لغة الجسم وبين
نظيرتها الأسلوبية التي تعتمد تهيئة الفنان لأداء دوره وفقا
للطريقة الواقعية وغير المتكلفة والمستمدة من الذات كالارتجال
والحوار مع الذات وغيرها.
أما محمود الجندي في السينما والتلفزيون فقد تعامل بمنطق المدرسة
التشخيصية في التمثيل والتي ينفصل فيها الفنان عن أي إحساس خاص به
ويبدأ في خلق الشخصية التي يتلاحم معها سواء كان الدور شريرا أو
خيرا.
وهل كانت كل هذه الخبرات كافية ليحتفظ الراحل بمكانته في الوسط
الفني ويعود بين الحين والآخر بدور مهم ومؤثر ربما يكون كافيا لدى
البعض لكن في رحلة الجندي الأمر يختلف فبجانب هذه الخبرات والمدارس
التي تعامل بها الجندي في مشواره الفني كان هناك الملامح الشخصية
التي كان يطوعها لخدمة دوره لعل أبرز هذه الملامح "حاجبيه" شديدة
السمك وعينيه الجاحظتان واللذان كان لهم دور كبير في خدمة ما يؤديه
من أدوار.