"مكتوب
يا حبي: اللحن الفاصل" فضيحة مهرجان كان الـ72
أمير العمري
فيلم المخرج التونسي عبداللطيف كشيش يخلو من القصة ومن
الدراما ويثير عاصفة من الجدل في أوساط كان.
أثار فيلم “مكتوب يا حبي: اللحن الفاصل” للمخرج عبداللطيف
كشيش الكثير من الجدل وردود الفعل الغاضبة عند عرضه في مسابقة مهرجان كان
السينمائي الـ72 الذي اختتم مؤخرا، هذا المقال يسلط الضوء على الفيلم
وأصدائه.
شاهدت الكثير والكثير من الأفلام من جميع أنحاء العالم،
لكني لا أستطيع أن أفهم بالضبط ماذا يريد المخرج التونسي-الفرنسي عبداللطيف
كشيش، وماذا يرمي من وراء أفلامه الثلاثة الأخيرة تحديدا بعد أن ودع سينما
الفكر والفن والرؤية، واتجه إلى “سينما الصدمة”.
ليست أي صدمة، بل صدمة الانحراف المزاجي والهوس بالتصوير
الإباحي الحارق للعين، مع الاستمرار في المبالغة الشديدة في طول اللقطات
والمشاهد، والاعتماد، لا على الأداء التمثيلي الذي له أصل وفصل، وعلى
الحوار المكتوب بدقة بحيث يبدو أيضا طبيعيا على الشاشة، بل على الارتجال
والعشوائية والثرثرة وترك الممثلين يتصرفون ويتحدثون كيفما اتفق، فتصبح
المشاهد فارغة، وما يقوله الممثلون لبعضهم البعض وهو في معظمه وليد اللحظة،
يصبح كلاما لا معنى له ولا يهم أحدا بل ولا يستطيع أحد احتماله طويلا.
كان مهرجان كان السينمائي قد أعلن قبل وقت قصير من موعد
افتتاح دورته الـ72 ضم فيلم كشيش الجديد إلى مسابقته الرسمية، وهو في
الحقيقة الجزء الثاني من الفيلم الذي بدأه قبل عامين وعرض الجزء الأول منه
في مهرجان فينيسيا 2017 بعنوان “مكتوب يا حبي: الفصل الأول”، أما فيلمه هذا
فقد أطلق عليه “مكتوب يا حبي: اللحن الفاصل”، ويعتزم استكماله في جزء ثالث
لا أحد يعرف ماذا سيضيف فيه وماذا سيطلق عليه.
لكن الواضح أنه يحاول أن يوحي لنا بأنه يصنع “سيمفونية”
سينمائية في ثلاث حركات!
واللافت أن المهرجان عندما أعلن ضم الفيلم إلى مسابقته،
أوضح في بيان للصحافة أن عبداللطيف كشيش أبلغهم أن زمن عرض فيلمه يبلغ 4
ساعات ووضع هـذا في برنامج المهـرجان بالفعل.
لكن النسخة التي عرضت في آخر أيام المهرجان، جاءت في 206
دقيقة، أي ثلاث ساعات و26 دقيقة، وهو ما يعني أن القائمين على المهرجان لم
يكونوا قد شاهدوا النسخة، لكنهم قبلوا الفيلم باعتبار اسم مخرجه الذي ارتبط
بحصوله على «السعفة الذهبية» من قبل (ذكر تقرير في مجلة «فاريتي» أن تيري
فريمو شاهد 25 دقيقة من المادة المصوّرة في مارس الماضي وأقر الفيلم قبل
اكتماله)، وهو في حد ذاته استهتار يصل إلى مستوى الفضيحة.
سينما الرؤية الجديدة
كنت من الذين تحمسوا كثيرا لعبداللطيف كشيش عندما شاهدت
أفلامه الأولى وبوجه خاص بعد مشاهدة فيلمه “كسكسي بالسمك” (2007)، ووجدته
يبتعد عن المواضيع التقليدية في الأفلام التي يصنعها سينمائيون من أصول
مغاربية في فرنسا، حول قضية العلاقة مع “الآخر” في بلدان المهجر، ويبتعد
أيضا عن الإفراط المألوف في مشاهد الفولكلور وتصوير العادات العربية من
منظور استشراقي، وعدم تركيزه على القوالب المألوفة مثل موضوع اضطهاد الرجل
للمرأة والتطرف الديني والكبت الجنسي وختان الإناث.. وغير ذلك.
وكان الفيلم يؤكد على فكرة التمسك بالهوية، دون الوقوع في
النمطية والقولبة، كما كان مخرجه يتبع أسلوبا خاصا في التصوير يقترب كثيرا
من الأسلوب التسجيلي، مع الاحتفاظ بالزمن الطبيعي على الشاشة مع السيطرة
على تدفق اللقطات والأداء.
القائمون على مهرجان كان لم يشاهدوا الفيلم، لكنهم قبلوه
باعتبار اسم مخرجه الذي ارتبط بحصوله على "السعفة الذهبية"
وفي “فينوس السوداء” (2010) عثر كشيش على موضوع شديد
الأهمية يدور حول فتاة سوداء من بلد أفريقي جاء بها رجل إنكليزي من جنوب
أفريقيا تحت إغواء أن يجعل منها نجمة استعراضية يقدمها في عروض السيرك،
لكنه استعبدها وأخذ يعرضها ككائن غريب في تكوينه الجسماني يجذب المشاهدين
ويدفعهم للمقارنة بينها وبين الحيوانات، خاصة بعد أن أرغمت الفتاة على
تقليد أصوات الحيوان وهي تنبح من داخل قفص حديدي وسط تصفيق الجمهور.
كان هذا الفيلم يكشف بشكل صادم عنصرية الغرب وترويجه لصورة
نمطية أصبحت ثابتة في الذهنية الغربية عن الأفريقي، الأسود، وكان يعتمد على
تجسيد التفاصيل والتناقضات بشكل محسوس، من خلال كاميرا تراقب، وتتسلل،
وترقب كل لفتة وحركة وإيماءة، مع الاهتمام الشديد بتفاصيل اللقطة،
بالتكوين، بقطع الديكور، بحركة الكاميرا داخل الديكور، بعلاقة الشخصيات
الثانوية بالشخصيات الرئيسية وعلاقة الشخصيات عموما بالمكان، وهو أسلوب
يعتمد أيضا على خلق الإيهام بأننا نشاهد ما يجري في الزمن الفعلي الحقيقي،
دون تدخل كبير من المونتاج.
السعفة الذهبية
بعد ذلك ومع فيلمه ذائع الصيت “حياة أديل” ورغم فوزه
بالسعفة الذهبية في مهرجان كان 2013 كان رأيي ومازال، أن كشيش قدم فيه قصة
حب مثلية بين فتاتين ولكن بأسلوب وتقنية صنع الأفلام البورنوغرافية
الإباحية.. والهدف هو تحقيق الصدمة لجمهور الأفلام غير الإباحية.
وكان فوزه بالجائزة فقط لأن قضية المثلية الجنسية كانت
مطروحة على نطاق واسع في فرنسا في تلك الأيام، كان المشهد الحسي الذي يمكن
تصويره في دقيقة أو أقل، يستغرق في فيلم كشيش على الشاشة نحو عشر دقائق،
وكانت لقطاته من جميع الزوايا تركز على المناطق الحساسة في جسدي الفتاتين
من زوايا قريبة، وهو نفس الأسلوب المتبع في أفلام البورنوغرافيا الإباحية
المثيرة.
لكن البعض رأى فيه ما لا نراه، أي أننا كنا إزاء شعر
سينمائي من نوع جديد، وما أكثر ما يكتب أحيانا من هراء استهلاكي في الصحافة
الغربية وينقل عنها بعض المراهقين سينمائيا الذين يهيمون بكل بدعة جديدة
تظهر في الغرب، ولو على يدي مخرج قادم من الثقافة الأخرى التي تعتبر
محافظة، خاصة في ما يتعلق بتناول موضوع الجنس في السينما، ولكنه يريد أن
يثبت للفرنسيين وللغربيين عموما، أنه لا يقل عن مخرجيهم جرأة وانفتاحا
وقدرة على التعبير عن أكثر هواجسه “الجنسية” الشخصية جموحا.
استمرأ كشيش الوضع وأراد أن يتمادى في تحقيق المزيد من
الصدمات البصرية فلجأ إلى رواية فرنسية اقتبس منها في ما يبدو بعض شخصيات
“مكتوب يا حبي” (الأول والثاني)، ليرسم صورة للشباب التونسي في فرنسا
وعلاقته بالفتيات الفرنسيات، والتونسيات، في مزيج بين حكاية أسرة عربية
تمتلك مطعما في بلدة ساحلية في الجنوب الفرنسي، وبحث مصوّر تونسي شاب يريد
أن يصبح كاتبا للسيناريو، وحيرته أو اغترابه.
وبينما كان الجزء الأول أقل صدمة وإن ظل يعاني من غياب
الموضوع القوي والشخصيات ذات الركيزة الدرامية ويزحف مترهلا بطيئا ثقيل
الوطأة بمشاهده الطويلة ولقطاته المتكررة داخل ملهى ليلي، ولدرجة تدعو
للنعاس أو للانصراف من قاعة العرض كما فعل الكثيرون، جاء الفيلم الأحدث
الذي عرض بمسابقة كان الـ72 كارثة فنية على جميع المستويات.
لا أريد هنا أن أقدم تحليلا للفيلم الذي يتكون من مشهدين لا
أكثر، الأول يدور في 37 دقيقة على الشاطئ في جنوب فرنسا ويصوّر مجموعة
فتيات مع شابين أو ثلاثة، يثرثرون جميعا في ما لا يهم ولا يفيد ولا يبدو ذا
أهمية من أي نوع، ولكن إحدى الفتيات (هي الفرنسية أوفيلي) التي تحظى بأكبر
تركيز في الفيلم كله، على تفاصيل جسدها لا على شخصيتها، يفترض أنها مخطوبة
لجندي فرنسي يخدم في العراق (نحن في العام 1994) لا نراه أبدا، ولكنها حامل
من شاب تونسي أطلق على نفسه اسم “توني”، لكنه يعبر بوضوح عن عدم رغبته في
الزواج منها وإن يظل يحاول إغواءها، فهي بالنسبة له مجرد هدف جنسي فقط،
وتقول له هي إنها تعتزم إجهاض نفسها. ويظل الحوار يدور ويتكرر حول هذه
النقطة من دون أي تطوّر.
ماذا يريد عبداللطيف كشيش من وراء الإفراط في مشاهد الجنس
الصادمة، وماذا يرمي من وراء أفلامه الثلاثة الأخيرة تحديدا بعد أن ودع
سينما الفكر والفن والرؤية، واتجه إلى "سينما الصدمة"؟
وفي المشهد الثاني الذي يدور في مساء نفس اليوم، يذهب
الجميع إلى ملهى ليلي أو كباريه، حيث يدور الرقص الشهواني والالتواءات
الجسدية دون توقف لحظة واحدة، وتركز الكاميرا على الأجزاء السفلى من أجساد
الفتيات وعلى جميع المناظر الشاذة التي يقمن بها سواء مع بعضهنّ البعض، أو
مع الشباب التونسيين، وتستمر هذه الدوامة إلى نهاية الفيلم.
وفي هذا المشهد يحاول شاب تونسي إغواء أوفيلي بممارسة الجنس
معها، لكنها تتمنع، وعندما تقبل نشاهد أكثر المشاهد صدمة في الفيلم وهو ما
يؤكد لنا أننا أمام فيلم من تلك الأفلام الإباحية التي لا علاقة لها بسينما
الفن، كما يدعي ويزعم كشيش في أحاديثه التي يدافع فيها عن فيلمه.
ليس لديّ شخصيا أي شيء ضد تصوير الجنس في السينما، أو
الجرأة في استخدام الجسد العاري في التصوير عموما، ولعل أكثر الأفلام جرأة
في استخدام الجنس هو فيلم “التانغو الأخير في باريس” (1972) لبرناردو
برتولوتشي الإيطالي، ولكن كان هذا عملا من أعمال الفن الرفيع، لا تنفصل فيه
فلسفة الفنان ورؤيته التي يجسدها في معاناة بطل فيلمه، عن الإيروتيكية، عن
الرغبة في التوحد من خلال الجنس.
فبطله “بول” (مارلون براندو) يسعى إلى خلق عالمه الخاص
المعزول تماما عن العالم الخارجي من خلال الإغراق في الجنس، وهو ينكر هويته
الاجتماعية، كما يرفض الانتساب العائلي برفضه الأسماء، ويتعامل فقط من خلال
الواقع الرمزي المجرد: الأنا والآخر، ويتطلع إلى تحديد شكل العلاقة بين
الدولة والبطريرك– الأب والعائلة والفرد، وموته في النهاية ما هو سوى تتويج
لمحاولته الدائمة الانتحار عن طريق الإفراط في الجنس. كان هناك موضوع ما
وفلسفة عميقة في فيلم برتولوتشي.
أما كشيش فلا يهمه سوى التعبير عن هوسه الشخصي بأجساد
الفتيات، وهو يبرّر هذا الهوس في المؤتمر الصحافي حيث ناقش فيلمه في مهرجان
كان بقوله “أحاول إظهار ما يهزني من الداخل: البطون والأجساد”، قبل أن
يواصل قائلا إن هدف الفيلم هو “الاحتفال بالحياة، الحب، الموسيقى، الجسد
وتجريب محاولات أخرى للحكي السينمائي”.
واجه كشيش سواء في فيلمه السابق أو الحالي اتهامات كثيرة
بالإفراط في النظرة الذكورية التي تختزل المرأة في جسدها فقط، وأنه لا يهتم
أبدا بأجساد الرجال شأن اهتمامه بالنساء بطريقة تسيء إليهنّ.
واتهمته بطلتا فيلمه “حياة أديل” بممارسة الضغوط النفسية
القاسية عليهنّ لأداء المشاهد بطريقة معينة، بل ونالته اتهامات أخرى
بالتحرش الجنسي.
كارثة المهرجان
ناقد صحيفة “لوس أنجلس تايمز” -على سبيل المثال- وصف الفيلم
بأنه “كارثة” و“أسوأ فيلم شاهدته في حياتي” وقال في مقاله “شاهدت الكثير من
الأفلام المملة في مهرجان كان، والكثير من الأفلام البشعة حقا التي صدمتني
ليس فقط برداءتها.
ولكن بسقوطها الفني حينما تشعر بأن المخرج فاقد القدرة على
التحكم وبأنه يتفكك ويسقط، ولكني لا أظن أنني شاهدت سقوطا فنيا مثلما هو
الحال مع ‘مكتوب يا حبي: اللحن الفاصل'”.
تتمثل تقنية الفيلم الإباحي في فيلم كشيش الجديد (كما في
الفيلمين السابقين) في تركيز الكاميرا على “المؤخرات” من أجساد الفتيات
والنهود وتصوير كل مناظر الشذوذ، بما في ذلك مشهد يستغرق 15 دقيقة يدور
داخل حمام الكباريه، فأخيرا تستجيب أوفيلي للشاب التونسي الذي يراوضها عن
نفسها (رغم أنها حامل في الشهر الثاني!) وتتجه معه إلى حمام الملهى الليلي
حيث يصوّر كشيش مشهدا جنسيا مباشرا وصادما بدا لكل من شاهد الفيلم أنه مشهد
حقيقي لم تستخدم فيه خدع التصوير.
والأهم بالطبع أنه من دون أي ضرورة درامية، ففيلم كشيش يخلو
من القصة ومن الدراما والموضوع والسياق والحبكة، بل والرؤية.. إنه كالعدم
سواء.
ومن الممكن أن يستمر الفيلم على الشاشة العشرات من الساعات
كما يمكن أن ينتهي في أي لحظة، لذلك فهو ليس عملا فنيا يمكن محاسبته
بمقاييس النقد التحليلي العلمي الحديث، فلا هدف له سوى التعبير عن المكبوت
الشخصي، أي أنه مجرد استعراض شهواني يخص صاحبه ولا يهم أحدا غيره.
إنني أعتبره دون أدنى شك “فضيحة مهرجان كان 2019”، فعرضه
داخل المسابقة الدولية لمهرجان كبير مثل كان، فضيحة على جميع المستويات،
لكنه لن يُعدم، رغم ذلك، وجود بعض الأصوات الناشزة التي تدافع وتبرّر وتبدي
إعجابها بما لا يمكن أن يراه غيرها، ولكنها -لحسن الحظ- أصوات محدودة لا
تأثير لها.
كاتب وناقد سينمائي مصري |