كانّ 72
برتران بونيللو لـ"النهار": أعدتُ الزومبي إلى أصله
هوفيك حبشيان
المصدر: "النهار"
لبرتران بونيللو القدرة الرهيبة على التلوّن من فيلم إلى
آخر والتماهي مع الظروف. جديده، "طفلة زومبي"، الذي عُرض في مهرجان كانّ
الأخير (١٤ - ٢٥ أيار) تكريس لكلّ ما أنجزه إلى اليوم، لكنه أيضاً قفزة غير
متوقّعة في إتجاه جديد. من خلال حكايتين متوازيتين، واحدة تدور في هايتي
الستينات وأخرى في فرنسا الحالية، يقترح بونيللو قراءة حيّة وعصرية ومشاكسة
لأحداث وفصول تاريخية ومعتقدات تربط قارة بأخرى، وتقرّب الموت من الحياة،
مع مقدار غير قليل من الصوفية والميثولوجيا يجتاز النصّ من أقصاه إلى أقصاه.
استوحى بونيللو قصّة الفيلم من حكاية كليرفيوس نارسيس
(ماكنسون بيجو)، رجل عادي من هايتي تحوّل في العام ١٩٦٢ إلى زومبي، قبل
استعباده في حقول قصب السكر (عاد إلى الحياة في العام ١٩٨٠). هذه الحكاية
يضعها الفيلم في مواجهة حكاية أخرى متخيلة بالكامل، تبتعد مكاناً وزمناً عن
الحكاية الأولى (باريس في زمننا الحالي)، فنتعقّب فاني (لويز لابيك)،
الطالبة في مدرسة سان دوني الداخلية للبنات، وهي ضحيّة عشق ليس في متناول
اليد. لفاني رفيقة صفّ (مليسّا - ويسلاندا لويما) أصلها من هايتي، وقد مات
والداها في الزلزال الذي ضرب هايتي في العام ٢٠١١. فاني تمارس طقوس الفودو
وتتواصل مع الأموات. ذات مرة، ستكشف لرفيقاتها السرّ الذي يلف عائلتها.
الأشياء التي يصوّرها الفيلم داخل جدران المدرسة معقّدة ومبهمة.
سؤال قارئ هذا المقال في هذه اللحظة: كيف تلتقي الحكايتان؟
في هذا نعتمد على البراعة والحسّ والحرفة لدى بونيللو الذي يحملنا إلى رحلة
غريبة حيث الفانتازيا تلتقي الواقع الفجّ. يحفر "طفلة زومبي"طريقاً له بين
باريس وهايتي، بين نوع من الموسيقى، شبابي وآخر كلاسيكي، بين فيلم الزومبي
الطليعي وفيلم المراهقات الاستهلاكية، بين العبودية ونابوليون، وعلى
المُشاهد ان يجد روابط بين هذا كله، فلا شيء يأتيه على طبق من ذهب. هذا هو
النمط الذي يعتمده بونيللو في عمله، وقد يجده بعضهم عبثياً ونرجسياً
ومتعباً ومتفذلكاً، الا ان الانفعال لا بد ان يضع يده علينا في الخاتمة،
حدّ ان العقلنة والفهم يصبحان من الأمور الثانوية.
بإنتاج محدود التكلفة وتوزيع أدوار تغيب فيه الوجوه
المعروفة، يقدّم بونيللو فيلماً يغوي ويفاجئ ويعطي كلّ مُشاهد ما يستحقّه
قياساً بنيّته، والأهم انه يعيد فيلم الزومبي إلى أصله وفصله، بعيداً من
توظيفاته الهوليوودية التي استُخدِمت لمعاداة الرأسمالية.
في كانّ، التقينا بونيللو وسجّلنا معه الحديث الآتي:
*
أحببتُ الفيلم جداً. لكن هذه السينما مضللة بعض الشيء. هل
تعمدتها؟
-
أعتقد انه من السهل التقاط الحكايتين المتداخلتين في الفيلم. لكن الصعوبة
قد تكمن في متابعتك للكيفية التي ستتعايش فيها القصّة الأولى مع القصّة
الثانية. كلّ قصّة في ذاتها سهلة وبسيطة جداً: فتاة تعاني عذاباً عاطفياً
ورجل يتم استعباده.
*
لماذا أردتَ إنجاز هذا الفيلم؟
-
لا يوجد ردّ على هذا السؤال. في لحظة، تفرض الأشياء نفسها عليك، خصوصاً
عندما يطلّ شيء ما برأسه. لا يسعني استعمال اللغة الشفهية للتحدّث عن
الأسباب، فهذا صعب. هناك مواضيع تثيرني، كالحرية، ولكن هذا الشيء اكتشفته
لاحقاً، أي بعد إنجاز الفيلم. لا أعرف اذا كان يجب ان نعرف فعلاً لماذا
نفعل ما نفعله.
*
هل كان مهمّاً عندك استلهام الزومبي من الواقع لا من
السينما؟
-
كان مهمّاً عندي ان أنطلق من شيء نعرفه جميعاً، أي الزومبي على الطريقة
الأميركية، المنتمي إلى الثقافة الشعبية. عندما تتحدّث الفتيات في ما بينهن
عن الزومبي، يتحدّثن عن نوع الزومبي الذي نعرفه. كان هدفي اعادة الزومبي،
قليلاً قليلاً، إلى أصله. ومن خلال الحكاية التي تحدث في هايتي، وددتُ ان
أربطه بالعبودية التي هي تقريباً أساس الفيلم، ثم ربط هذا كله بالعلاقة
التاريخية بين فرنسا وهايتي.
*
هل صوّرتَ الفيلم في هايتي؟
-
نعم. قمنا بمشوارين قبل التصوير. وجدتُ في هايتي بلداً قوياً ومجنوناً. لم
أكن أتوقّع هذا بالرغم من انه قيل لي. في الواقع، ما إن نأتي على ذكر
هايتي، حتى يتّجه الحديث نحو السيدا والكوليرا والزلازل والديكتاتورية.
توجد أشياء غير هذه في هايتي. انه بلد فقير جداً ولكن في الحين نفسه غنيّ
جداً. غنيّ بتاريخه العريق. يمكن لمخرج ان ينجز ٢٠ فيلماً فيها.
*
ماذا اكتشفتَ عن ديانة الفودو في هايتي؟
-
تستند الفودو إلى تعدد الآلهة. شيء لا نهاية له. مهما قرأتَ، ييقى الكثير
للقراءة. وكلما زادت قراءتي بها، قلّ فهمي. ما أجده جميلاً في الفودو هو
هذه العلاقة بين الأحياء والأموات التي ليست من صميم حضارتنا الغربية،
باعتبار اننا فصلنا بين الموت والحياة نهائياً. هناك "عبور" أجده جميلاً
وصادقاً. الزومبيون شيء آخر، انهم على الأرجح الجانب المظلم للفودو. الحديث
عن الزومبي في هايتي محرَّم. لا يوجد الكثير من المعلومات عنه.
*
هل تؤمن حقاً بأنه من الممكن التحوّل إلى زومبي؟
-
نعم، هذا ممكن. يحدث بالنحو الذي تراه في الفيلم. انه نوع من مسحوق مصنوع
من أحشاء السمك وبعض الحبوب والنبات. عندما عاد كليرفيوس نرسيس إلى هايتي
في العام ١٩٨٠، شدّ هذا الموضوع كثيراً اهتمام الأميركيين والكنديين،
فأرسلوا أنثروبولوجيين وأطباء إلى هايتي لاكشتاف سر هذا المسحوق. الآن،
بتنا نعلم سرّه. هم اهتمّوا بالموضوع ربما لأسباب غير مناسبة، أرادوه
سلاحاً في يدهم، كانوا يقولون ان هذا يتيح لهم ارسال ناس إلى المريخ
وأموراًكهذه. وفي العام ١٩٨٠، كتاب ضخم صدر عن كليرفيوس نرسيس.
*
هل شاهدتَ الفيلم الذي اقتبسه المخرج الأميركي وَس كرافن عن
حكاية نرسيس؟
-
أجل. انه فيلم "ب"، يركّز جداً على المسحوق. يحكي عن طبيب أميركي يأتي إلى
هايتي لاكتشاف سر المسحوق والعودة به إلى أميركا.
*
فيلم الجانر ليس الأكثر رواجاً في السينما الفرنسية. هل كان
صعباً تمويل "طفل زومبي"؟
-
لطالما كان لدينا أفلام جانر في فرنسا. لكن بعضها محض ترفيهي، مشغول من
وجهة نظر ساخرة وسينيكية. الأفلام التي تعجبني تضع مخاوف المخرج في
الواجهة. لم يكن انتاج هذا الفيلم صعباً لأنه غير مكلف. صوّرته بسرعة في
أربعة أسابيع ولم تتجاوز تكلفته مليوناًونصف مليون أورو.
*
هل المؤسسة التعليمية التي تصوّرها هي كذلك في الحقيقة؟
-
صوّرتها كما هي في الحقيقة. لم أخترع شيئاً. هذا كله يحصل في العام ٢٠١٩،
في سان دوني. في لحظة من اللحظات، وددتُ اظهار الـ"ستاد دو فرانس" كي ننتبه
اننا في الضواحي الباريسية. لم أكن أعرف هذه المؤسسة من قبل، لكنها تركت
انطباعاً كبيراً فيّ.
*
هل اكتشاف المؤسسة فرض عليك إنجاز هذا الفيلم؟
-
لا. أساس الفيلم هو هايتي. بحثتُ عن وجهة نظر فرنسية للحديث عنها. لم أصل
إلى هايتي لأقول "أريد ان أنجز فيلماً عن الزومبي". كان ينبغي وجود وجهة
نظر فرنسية. لذلك اخترعتُ شخصية الفتاة التي مات والداها. ثم كان يبقى
البحث عن مؤسسة تعليمية للبنات، فوجدتها عبر الانترنت. فاكتشفتُ ان
نابوليون هو الذي أسسها، والعلاقة بين نابوليون وهايتي وارتباطها بالعبودية
كانت موضوعاً جد مهم. فجأةً، وجدتُ انسجاماً بين العناصر كافة. اعتبرتُ انه
من البديهي ان أصور الفيلم في هذه المؤسسة.
*
لفتني خطاب الاستاذ الجامعي باتريك بوشرون ورؤيته للتاريخ الاستعماري خلال
محاضرته.
-
في بنية سينمائية حرة كهذه، سمحتُ لنفسي بأن أطلق العنان لخيالي. فطلبتُ
إلى مؤرخ كبير يدرّس في الكوليج دو فرانس ان يأتي ويمنحنا درساً. أعطيته
التيمة (الليبيرالية في القرن التاسع عشر) ثم تركته يذهب بعيداً. لم أكن
أتوقع قط ان ينسجم خطابه مع الفيلم. ولكن تحدّث عن كيفية سرد حكاية وغيرها.
اضاءته كانت مدهشة. في النهاية، هذا درسه، فتركته يقول ما يريده.
*
أجدك تهوى التنوع. لا تنجز الفيلم نفسه مرتين…
-
هناك ناس يقولون لي العكس، أي انني أنجز دائماً الفيلم نفسه (ضحك).
كسينمائي، أحاول دوماً البحث عن أرض ما. عندما أقول "أرض"، أقصد المعنى
العريض. ثم، لاحقاً، الهواجس نفسها تتكرر. في أي حال، لستُ الشخص المناسب
للحديث عن هذا.
*
كيف تعمل على خلق هذين الايقاع والتوتر خلال المونتاج؟ ثم
هذا الانتظار الذي يرتفع فينا قبل الانفجار؟
-
الفضل الأكبر للسيناريو. أعمل بطريقة كلاسيكية: الفصل الأول ثم الثاني
فالثالث. في الأول، أقدّم الشخصيات. في الفصل الثاني، نعرف الشخصيات بعضها
على بعض ونطرح الاشكالية، ثم تأتي الخاتمة مع الفصل الثالث. قد يبدو الأمر
معقّداً، لكنه سهل إلى درجة عالية. يجب القول ان الفيلم مشغول بطريقة جدّ
حرفية، لا يوجد أي مؤثر بصري، ما عدا خدعة لحذف الصحون اللاقطة، لأن جزءاً
من القصّة يجري في العام ١٩٦٠. لم أفعل هذا لأسباب إيديولوجية، جاء من
تلقاء نفسه. في المقابل، أعتقد ان التوتر يتأتى من المونتاج أكثر منه من
التصوير.
*
هل الأفلام التي أنجزتها إلى الآن مبادرات شخصية أمطلباً؟
-
كلها مبادرات شخصية ما عدا "سان لوران" الذي طُلب مني إنجازه.
*
هل تحبّ عرض أفلامك في كانّ؟
-
العرض في كانّ على درجة عالية من الصعوبة، على رغم انه مشوّق. لا أعرف اذا
كانت كلمة "حبّ" هي الأنسب. هناك دائماً بعض الخوف. نخشى الآراء النقدية
وطبيعة الاستقبال. الأشياء تتفاقم بسرعة هنا، وخصوصاً اذا لم يكن الاستقبال
جيداً.
*
فيلمك "سان لوران" كان في المسابقة، و"طفلة زومبي" في
"اسبوعا المخرجين". الا يعنيك في أي يقسم يضع فيه المهرجان فيلمك؟
-
أولاً، لا يحق لي الاختيار. أعتقد ان قسماً مثل "اسبوعا المخرجين"جيد جداً.
الفيلم مُحمي بشكل جيد. المسابقة أصعب!
*
معروف أنك صعبٌ خلال التصوير!
-
اطلاقاً. مَن قال لك هذا؟ بالعكس. بلاتوهاتي دائماً جد هادئة وسلسة. نضحك
كثيراً. صحيح أني أقسو على نفسي، ولكن في هذا الفيلم لم أحتج إلى ذلك، لأن
كلّ شيء كان على ما يرام. |