المؤكد أن مهرجان "الجونة" السينمائي في دورته الثالثة
سيعرض مجموعة هائلة من الأفلام الرائعة التي حظيت بسمعة دولية طيبة، وعدد
غير قليل منها نال جوائز بأقسام ومهرجانات مختلفة. لكنى سأرشح لك مجموعة من
قائمة الأفلام التي شاهدتها بالفعل، واستمتعت بلغتها السينمائية والأفكار
المطروحة بها.
على رأس القائمة الفيلم الفائز بالسعفة الذهبية لمهرجان
"كان" السينمائي، ويحمل عنوان "طفيلي" للكوري "بونج جون هو".
يتناول بأسلوب كوميدي، مأساوي، شديد الواقعية قضايا مثل
البطالة، وآثارها من طفيلية وتواكل في مقابل العمل والاعتماد على النفس،
وذلك من خلال عائلة من العاطلين ينجح ابنها في الالتحاق بالعمل عند عائلة
ثرية راقية جدًا، لكنه سرعان ما يقوم -بمساعدة أخته المدبرة الشيطانية-
بالتخطيط لتوظيف جميع أفراد العائلة عن طريق النصب والاحتيال، وطرد
الموظفين الأصليين. علاقة مُعقدة، يصفها المخرج بأنها "كوميديا بلا مهرجين،
وتراجيديا بلا أشرار".
من ألمانيا، أختار فيلمين بالغي الأهمية، يتناولان تعقيدات
النفس البشرية، والآثار الناجمة عن افتقاد العواطف وانعدام الثقة بالنفس،
بمعالجة مختلفة تمامًا، فأحدهما بطلته طفلة عمرها تسع سنوات، والآخر بطلته
سيدة في الستين من العمر.
بالفيلم الأول "محطمة النظام"، للمخرجة "نورا فاينشت"،
بطلته "الطفلة بيني"، لا تستطيع التحكم في نوبات غضبها نتيجة الحرمان
العاطفي، تعتبرها المؤسسات الرسمية "محطمة للنظام"، وأملًا في تغيير ذلك،
يتم تعيين أحد مدربي التحكم في الغضب لرعايتها، لكن الفتاة بعد صراع ترويضي
شرس تبدأ في التجاوب مع المدرب وتتخيله في علاقة أبوية، ما يجعل المدرب
يشعر بالخطر، من ثم تُصاب الطفلة بجنون هستيري وتقدم على تصرفات مرعبة
تجعلنا نجفل أمامها، ونكاد نحبس أنفاسنا، وعندما يفشل النظام في التعامل مع
الطفلة يقرر ترحيلها إلى دولة أفريقية للتخلص من مأزقها. فاز الفيلم بجائزة
"الدب الفضي" –"ألفريد باور"- في مهرجان "برلين" السينمائي ٢٠١٩.
الفيلم الثاني "لارا" تدور أحداثه في يوم واحد بعد أن تركت
"لارا" وظيفتها. تستيقظ على حلم تصعد فيه على كرسي أمام نافذة مرتفعة نرى
منها ضبابًا كثيفًا بالخارج. اليوم ستُكمل عامها الستين. اليوم أيضًا
سيُقام لابنها "فيكتور" حفلاً موسيقياً كبيراً يُقدم فيه أول مؤلفاته كعازف
بيانو. تشتري "لارا" جميع بطاقات الحفل المتبقية وتوزعها على معارفها
السابقين. تبدو فخورة بابنها جدًا، مع ذلك عندما تقرأ خلسة ما ألفه الابن
من نوتات موسيقية نلمح على وجهها غصة ومزيجًا من المشاعر، فهل حقاً ما كتبه
الابن كان ضعيفاً، أم أنها الغيرة والحسد من ابنها الذي نجح فيما فشلت هي
في تحقيقه؟ دراما نفسية رهيبة عن الغيرة، والوحدة، وافتقاد العواطف وانعدام
الثقة بالنفس. الفيلم من إخراج "يان أول جيرستر"، حصد جائزتي لجنة التحكيم
الخاصة وأفضل ممثلة من "كارلوفي فاري" السينمائي.
أما فيلم "مسافر منتصف الليل" فأبطاله أب لابنتين لم
تتجاوزا عمر الزهور، فجأة يصدر قرار يُهدر دمه، ويتم الإعلان عن مكافأة لمن
يأتي برأسه، وتُصبح حياة عائلته مُحاصرة بالخطر. كل هذا بسبب فيلم وثائقي
أخرجه وتمت إذاعته على تلفاز الدولة. قُتل بطل الفيلم، والصديق الذي سرب
خبر إهدار دم المخرج الذي يعترف قائلاً: "لم نكن نعرف ما الذي يجب أن
نفعله؟ كيف نتصرف؟ وإلى أين نذهب؟ لكننا كنا مجبرين على الهروب".
استمرت محاولات الإفلات من القتل ثلاث سنوات قضاها المخرج
الأفغاني "حسن فاضيلي" وعائلته على الطرقات المختلفة وفي مخيمات اللاجئين
فواجهوا أثناءها أشكالاً من التعصب الأعمى العنيف ضد المهاجرين، على أيدي
البوليس والأمن والمتعصبين. فهل بعد سنوات الانتظار توافق إحدى دول أوروبا
أن تمنحهم ملاذاً آمناً؟ ولماذا يتحول فيلم إلى سبب لقتل أناس مسالمين؟!
الفيلم تجربة إنسانية ووثائقية مختلفة وتطرح تساؤلات مهمة.
وقد نال الجائزة الثانية للجمهور بقسم "البانوراما" بمهرجان "برلين"
السينمائي الـ٦٩، أما الجائزة للجمهور في نفس القسم بمهرجان "برلين" فحصدها
الفيلم السوداني البديع "حديث حول الأشجار" للمخرج السوداني "صهيب جاسم
الباري".
"حديث عن الأشجار" شريط وثائقي سيُعرض أيضاً في "الجونة"
السينمائي، يقوم ببطولته: إبراهيم شداد، الطيب مهدي، منار الحلو، وسليمان
محمد إبراهيم. إنهم أربعة مخرجين من السودان، درسوا السينما بمصر وألمانيا
وروسيا في الستينيات والسبعينيات ثم عادوا لوطنهم بأحلامهم، ظلت تربطهم
الصداقة لخمسة وأربعين عامًا.
أثناء الفيلم نتعرف على أحلامهم بنشر ثقافة السينما وصناعة
الأفلام وتأسيس جماعة الفيلم السوداني عام ١٩٨٩.
لكن بعد ثلاثين عامًا من توقف السينما وإغلاق دور العرض
يجتمعون من جديد ويحاولون استعادة حلمهم، بإعادة الحياة لدار عرض سينمائية
مهجورة. فنعيش معهم التحديات، لكن بشكل فكاهي ساخر وبسيط.
من السينما السودانية أيضاً هناك شريط "ستموت في العشرين"
الذي نال جائزة "أسد المستقبل" من رئيس لجنة التحكيم "أمير كوستاريتسا"
بمهرجان "فينيسيا". إنه العمل الروائي الأول لصاحبه "أمجد أبوالعلاء".
تجربة بصرية مهمة، حتى وإن كان المضمون مُخْتَلَفًا عليه
بسبب السيناريو أساسًا. لكن أداء وميزانسين الممثلين به، والتشكيل البصري،
وتوظيف الموسيقي مُنبئ بمخرج له شأن كبير.
تأتي من البرازيل تحفة سينمائية، عاطفية، عنيفة، متمردة
ومؤثرة، تحمل عنوان "الحياة الخفية لأوريديس جسماو"، للمخرج "كريم عينوز"،
تدور أحداثه في خمسينيات القرن الماضي، بالبرازيل، حيث تعيش "أوريديس"،
وأختها "جويدا"، مع والديهما المحافظين، وبسبب حادث خداع وكذبة أبوية،
تُجبر الأختين على الانفصال، لكنهما تحتفظان بحلم الاتحاد مُجددًا بشكل
رومانسي استثنائي. تجربة يصعب أن تخرج منها دون أن تبكي.
ومن بلغاريا، يشارك فيلم "الأب"، للمخرجين "كريستينا
جروزيفا"، و"بيتار فالانشوف"، والذي تدور قصته حول "فاسيل"، الذي يعتقد -
بعد وفاة زوجته - أنها تستخدم هاتفها المحمول من القبر لتتصل به، فيزور
شخصيات روحانية لتساعده في التواصل مع زوجته الميتة. برغم محاولات ابنه
"بافيل" أن يثنيه عن تلك الأفعال، فإن الأب يواصل العناد فيما يفعله. فاز
الفيلم بـ"الجائزة الكبرى" في الدورة الـ٥٥ لمهرجان "كارلوفي فاري"
السينمائي.
"الأب" شريط سينمائي إنساني، لا يخلو من مسحة كوميدية
وسخرية مُرة تنضح بها مشاهد عبثية أحياناً. بعض ملامح الكوميديا هنا - ورغم
اختلاف الموضوع - تُذكرنا بأحد أجمل
أفلام
المخرج المصري داوود عبد السيد "الكيت كات". الفيلم عنوانه
الأصلي "باشتاتا" أي "الأب"، إنتاج بلغاري يوناني من توقيع اثنين؛ امرأة
ورجل، المخرجة "كريستينا جروزيفا" والمخرج "بيتر فالشانوف"، في حوزة
الاثنين حصة كبيرة تكاد تكون متقاربة من الجوائز، تتجاوز الخمسين جائزة؛
إحداها من مهرجان "برلين" السينمائي الدولي. اشترك الاثنان في إخراج عدد من
أعمالهما الوثائقية والروائية سوياً. تجربة لافتة أن يستمر اثنان في
الشراكة الإخراجية بهذا التناغم.
ترشيحات عربية
يأتي في الترتيب الأول بالنسبة للسينما العربية الفيلم
السوداني "حديث الأشجار"، ثم هناك عدد آخر من الأفلام العربية شاهدت منها
فيلم "آدم" الذي تحقق بإنتاج مغربي فرنسي صربي بتوقيع المخرجة "مريم
التوزاني".
كتبت السيناريو بنفسها بالتعاون مع "نبيل عيوش" الذي شارك
في الإنتاج، جاء العرض العالمي الأول للفيلم بقسم "نظرة ما" مايو الماضي
بالمهرجان الكاني الشهير، ثم عرض بمهرجان "كارلوفي فاري".
الفيلم عن وضعية المرأة في مجتمع لا يقبل بالأطفال مجهولي
النسب. شريط سينمائي منسوج بحساسية مرهفة عن التضامن الإنساني النسائي الذي
ينزع القوقعة الصلبة- التي تحتمي خلفها بعض النساء- والتي قد تبدو عنيفة
وقاسية، لحماية أنفسهن من المجتمع، وتوابعها من الخسائر النفسية الجسيمة.
الفيلم الثاني أيضاً يناقش وضعية المرأة في مواجهة الإرهاب،
وعنوانه "بابيشا" "Papicha"،
من الإنتاج الجزائري الفرنسي البلجيكي القطري المشترك، عن فتاة بمدرسة
داخلية تعشق تصميم الأزياء، لكن هذا العشق محاصر بفترة العشرية السوداء في
الجزائز حيث القهر، والمطاردة، وتكميم الأفواه المخالفة لصوت الإرهاب
والتطرف الديني. تجربة بها كثير من الدماء، وعدد من الحكايات النسائية، عن
التحدي، والخوف، والمقاومة، والتراجع عن الأحلام أحيانًا في لحظات الضعف،
لكن المؤكد المكابدة والألم تُولدان الأعمال الجميلة كما تفعل بطلة العمل
"بابيشا".
لم أشاهده مع ذلك أرشحه
أرشح لك أيضاً فيلم المخرجة التونسية "هند بوجمعة"، "حلم
نورا" فهي أحد أبناء السينما الجديدة الثورية في تونس. كذلك الفيلم المصري
"لما بنتولد" خصوصاً أن السيناريو للكاتبة الراحلة "نادين شمس" التي تميزت
في كتابها "أنا المخرج" عبارة عن حوارات أجرتها مع عدد من أبرز المخرجين
المصريين أضاءت بأسئلتها فيه الكثير من المناطق الكاشفة.
ومن الأفلام العالمية هناك
أفلام
بتوقيع مخرجين كبار، وسمعتها الدولية تسبقها مثل "ألم ومجد"
للإسباني "بيدرو ألمودوفار"، وفيلم كين لوش الجديد "حضرنا، ولم نجدكم"،
الفيلم الفرنسي "البوساء"، ومن إيطاليا "الخائن" للمبدع "ماركو بيللوكيو"،
و"بيرانا" للمخرج "كلاوديو جيوفانزي".
أما الفيلم الوثائقي "مُحصن" فعن قصة الصعود والسقوط المدوي
للمنتج الأمريكي "هارفي واينستين" خصوصًا بعد الاتهامات الجنسية التي
لاحقته.
وأخيرً أختتم بفيلم "سيدة النيل" للمخرج الفرنسي الأفغاني
"عتيق رحيمي"، فأعماله تنتمي لسينما المؤلف شديدة الإخلاص للغة السينما. |