هذه الفكرة هي واحدة من أهم الأفكار التي تحتاجها
السينما المصرية، وأعني فكرة التحايل على المشاهد من أجل تقمص
الشخصيات، فالسينما أولًا وأخيرًا هي فن الإيحاء والتقمص.
*
تنويه: هذا الريفيو يحتوي على حرق ﻷحداث الفيلم
لا يمكن فصل الفيلم الروائي الطويل
"لما
بنتولد"
عن الفيلم التسجيلي الطويل "مكان اسمه الوطن" لنفس المخرج وهو تامر
عزت. نستطيع أن نقول إن فيلم "لما بنتولد" هو النسخة الروائية من
"مكان اسمه الوطن" فنجد في الفيلم الروائي الجديد نفس الشخصيات
التي تناولتها الكاتبة الراحلة نادين
شمس في
فيلمهما الذي صنعته في 2006.
ولكن هذا لا يعيب الفيلم الجديد بأي شكل، لأننا
وعلى الرغم من مرور أكثر من 13 عامًا على عرض "مكان اسمه الوطن" ما
زلنا نعيش، خاصة الشباب، نفس المشكلات التي عاشها أبطال الفيلم
التسجيلي، ومن المفارقات الحزينة أن مؤلفة الفيلم توفت في مأساة لا
تختلف كثيرًا عن مآسي أبطال فيلمها.
أحلام وعقبات
في الفيلم التسجيلي "مكان اسمه الوطن" نعيش مع أربع
شخصيات رئيسية شابة تجاهد في الحياة من أجل أن تتخطى العقبات
الطبيعية والاستثنائية التي تواجهها خلال حياتها في مصر.
أولهم شاب يعمل كمساعد مخرج والذي يعول أسرته ويرغب
في الزواج، ولكن المشكلات الاقتصادية تعيق تحقيق أحلامه وآماله
العادية جدًا، التي لا تنطوي على أي بذخ أو شطط. بينما الثاني هو
شاب يعمل في تجارة أبيه ولكنه يريد أن يصبح مطربًا فيعيش حياتين؛
بالصباح راضخًا لأبيه وبالليل طليقًا في رحاب الفن.
والثالثة شابة مسيحية تعمل في دار نشر، وتريد
الهجرة بعد أن أحبت شابًا مسلمًا، ولكنها تخلت عن حبها من أجل
دينها، فكرهت المجتمع ولذلك تسعى إلى مغادرته. والرابعة شابة كانت
تعيش في الولايات المتحدة لسنوات طويلة وفجأة قررت أن تعود إلى
مصر، لتعيش بين أهلها ولتقترب أكثر من جذورها، ولكنها تعاني من
صدمة الاختلافات الثقافية في المجتمع الجديد، وتحاول أن تتأقلم
معها.
نعيش في هذا الفيلم مع هؤلاء الشباب مشكلاتهم
الاجتماعية والاقتصادية والوجودية في مصر، في هذه اللحظة بعد ثماني
سنوات من ثورة 2011.
رومانسي غنائي
نفس الشخصيات الثلاثة اﻷولى نجدها في فيلم تامر عزت
الروائي الجديد "لما بنتولد". بالتأكيد هناك بعض التغييرات في
تكوين الشخصيات والأحداث لخلق دراما مختلفة وجذابة، فوسيط الفيلم
التسجيلي يختلف كثيرا عن وسيط الفيلم الروائي، فالشخصيات في الفيلم
التسجيلي قادرة وحدها أن تجذب المُشاهد الذي يدرك تمام الإدراك أن
الشخصيات التي يشاهدها أمامه واقعية من لحم و دم، بينما شخصيات
الفيلم الروائي تحتاج إلى رسم وحبكة مختلفة، لإيهام المشاهد أنها
شخصيات واقعية وهو ما نجح فيه صُنَّاع الفيلم إلى حد كبير.
تدور أحداث فيلم "لما بنتولد" في إطار رومانسي
غنائي، ويحتوي على تسع أغنيات تربط أحداث الحكايات الثلاث المنفصلة
لثلاث شخصيات شابة حيث تربطهم الأغاني التي تغنيها إحدى شخصيات
الفيلم. يعد الفيلم آخر سيناريو من تأليف الكاتبة الراحلة نادين
شمس، وإخراج تامر
عزت في
ثاني تجاربه الإخراجية الروائية الطويلة بعد فيلمه الروائي الأول
"الطريق
الدائري"
2010،
كما قدّم فيلم "مكان اسمه الوطن" السابق ذكره.
شرع تامر في تصوير فيلم "لما بنتولد" قبل عامين،
وتحديدًا في نوفمبر ٢٠١٧، والفيلم من بطولة عمرو عابد، وسلمى حسن،
والمطرب أمير عيد عضو فرقة
"كايروكي"
في أول مشاركة سينمائية له، وابتهال الصريطي، ومحمد حاتم، ودانا
حمدان، وبسنت شوقي، ودعاء عريقات، وحنان سليمان، وسامح الصريطي
ومدير تصوير راضي ستامنكوفيتش، ومونتاج ميشيل يوسف، ومنتج منفذ
معتز عبد الوهاب، وموسيقى تصويرية شريف الهواري، وكلمات وألحان
الأغاني من تأليف أمير عيد وسيناريو وحوار نادين شمس وإخراج تامر
عزت.
وعُرض الفيلم مؤخرًا في قسم أفلام خارج المسابقة
ضمن فعاليات الدورة الثالثة من مهرجان الجونة السينمائي، وبدأ عرضه
التجاري في 23 أكتوبر.
يبقى الحال على ما هو عليه
يتناول فيلم "لما بنتولد" قصة ثلاثة شباب، وهم أمين
الذي لعب دوره عمرو عابد، وأحمد الذي لعب دوره أمير عيد، وفرح التي
لعبت دورها سلمى حسن. ونعيش في هذا الفيلم مع هؤلاء الشباب
مشكلاتهم الاجتماعية والاقتصادية والوجودية في مصر، في هذه اللحظة
بعد ثماني سنوات من ثورة 2011، التي لم تحسّن حياة الشباب في مصر،
رغم كل التضحيات التي قدموها وأثرها عليهم، فهناك من فقد حياته أو
أصيب بعاهة، أو حتى عانى من اﻷزمات الاقتصادية المتتالية.
ووسط هذه الحكايات الثلاث لهؤلاء الشباب، ومشكلاتهم
مع الحاجة إلى المال أو الاستقلالية وتحقيق الذات، أو الحب
المستحيل بسبب اختلاف الدين، نعيش أيضًا مع حكايات ثانوية تتشابك
مع قصص أبطال الفيلم، من شابة تعيش في علاقة متأزمة مع زوجها بسبب
مشكلاتهما الاقتصادية، وأيضًا ضيق مساحة الحرية الشخصية في حياتها،
وعدم تحقق الحب المبتغى لدى شابة أخرى بسبب انشغال الحبيب بنفسه
وتحقيق ذاته، والثورة على أبيه وموروث الآباء، وشاب آخر يقرر
الهجرة خارج مصر إلى غير رجعة بسبب فشله في الزواج من حبيبته التي
تعتنق دينًا مختلفًا عن دينه.
هي مشكلات نراها ونشهدها كل يوم من حولنا، تعبّر
تمامًا عن الطبقى الوسطى المصرية في هذا الوقت الراهن، الذي لا ترى
فيه أي حل ناجع أو مؤقت للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي
يعيشها الشباب. هذه المشكلات هي التي تدفع الشباب إما إلى الهجرة
إلى الخارج أو النكوص داخل الذات أو التأقلم مع الوضع الآني تحت
شعار "يبقى الحال على ما هو عليه".
أمير عيد: صوت الشباب
في شكل غنائي يقدم لنا المخرج تامر عزت فيلمه
الجديد، وكأن الحياة في مصر الآن هي أغنية متصلة حزينة أو موال
طويل عن انتكاسات الشباب في مصر في الوقت الراهن.
قصص حقيقية
في حوار مع المنصّة يؤكد عزت أن شخصيات فيلمه مبنية
على الشخصيات الحقيقية التي حكى قصتها في فيلمه التسجيلي "مكان
اسمه الوطن"، مشيرًا إلى أن فيلمه يتحدث عن شباب اليوم، ولذا اختار
مجموعة من الممثلين الشباب وعلى رأسهم عمرو عابد وأمير عيد،
القريبين من المشاهدين الشباب ليتفاعلوا معهم أكثر عبر الحدوتة
التي تمس حياتهم، ومن خلال الممثلين الشباب، حيث يرون فيهم أنفسهم
وذواتهم.
بينما يشهد أبطال الفيلم الكثير من الأحداث
الميلودرامية، تأتي الأغاني لتُجمّل الفيلم وتحميه من الظهور كفيلم
مأساوي، ﻷنها خففت وقع هذه الميلودراما إلى حد كبير.
هذا نفس ما أكده نجم كايروكي أمير
عيد للمنصّة حينما قال إن أغاني الفيلم التي كتبها ولحّنها لم تَلق
أي خلاف بينه وبين المخرج، ﻷن اﻷغاني متوافقة تمامًا مع الفيلم، من
حيث التعبير عن مشكلات هذه الشريحة من الشباب، التي ترمز إلى
غالبية شباب مصر الآن. ولهذا كان التعاون بينهما مثمرًا وسلسًا إلى
حد كبير.
بينما يشهد أبطال الفيلم الكثير من الأحداث
الميلودرامية، تأتي الأغاني لتُجمّل الفيلم وتحميه من الظهور كفيلم
مأساوي، ﻷنها خففت وقع هذه الميلودراما إلى حد كبير، لتجعل المشاهد
يتعايش مع الأغانى وكلماتها وألحانها، ويتأمل فيها وانعكاسها على
حياته الشخصية.
ولعبت شعبية أمير عيد بين الشباب دورًا في تأسيس
حالة من الربط بين المشاهد الشاب والأبطال الشباب الذين يراهم
المشاهد أمامه على الشاشة.
هذه الفكرة هي واحدة من أهم الأفكار التي تحتاجها
السينما المصرية، وأعني فكرة التحايل على المشاهد من أجل تقمص
الشخصيات، فالسينما أولًا وأخيرًا هي فن الإيحاء والتقمص، بمعنى أن
صُنّاع السينما يحاولون أن يوحوا إلى المشاهد بأن ما يشاهده واقعي،
وأن يدفعوا المشاهد ليتقمص البطل تمامًا، من أجل أن يشعر بمشاعره
ويتبنى أهدافه وآماله، ما يجعل المشاهد يشعر بنشوة تستمر معه طويلا
حتى بعد انتهاء الفيلم ومغادرته دار العرض وعودته لبيته.
ويتجلّى الاهتمام بفكرة "من الشباب إلى الشباب" في
اختيار شخصية أحمد (أمير عيد) كراوٍ منذ البداية، الذي يروي حكايات
الشخصيات الأخرى ليتحول فجأة إلى شخصية من الشخصيات فنكتشف أنه هو
الآخر له حكاية مثله كمثل أي شاب مصري، فانتقال الراوي إلى شخصية
ضمن الشخصيات يجعلنا نتذكر دائمًا أن صُناع الفيلم أنفسهم هم شباب
لديهم نفس المشكلات التي يعيشها أبطال فيلم "لما بنتولد"، وهو ما
يخلق حالة من الاتصال بين صناع الفيلم والمشاهدين.
حجر جديد في بناء سينما الشباب
أوقات فراغ
ومثلما لا يمكننا فصل فيلم "لما بنتولد" عن فيلم
"مكان اسمه الوطن" فإننا أيضا لا يمكننا فصله عن فيلم
"أوقات
فراغ"
الذي عُرض في نفس العام الذي عرض فيه "مكان اسمه الوطن". وأيضًا
فرقة كايروكي الغنائية التي ظهرت تقريبًا بنفس الفترة.
فيلم "أوقات فراغ" هو الذي خلق نجومية عمرو
عابد الذي
يمثل أيضًا في فيلم "لما بنتولد" وأيضا ناقش مشكلات الشباب في هذه
الفترة، بسبب المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، وهو الفيلم الذي
لاقي نجاحًا لم يتوقعه أحدًا بين الشباب حيث تحول إلى فيلم
Cult
حيث يحب الشباب مشاهدته حتى اليوم عبر الطرق المختلفة من تليفزيون
أو على الإنترنت، لأنه يعبر عنهم وعن مشكلاتهم التي يعيشونها كل
يوم.
أما فرقة كايروكي وعلى رأسها أمير عيد الذي يمثل
أيضًا في فيلم "لما بنتولد"، فهي خير تعبير عن الشباب المصري من
الطبقة الوسطى في الخمس عشرة سنة الماضية، حيث كانت كلمات أغانيهم
تعالج موضوعات اجتماعية ورومانسية وأيضًا سياسية خاصة في مرحلة ما
بعد ثورة 2011، حيث كان السطوع الأكبر لنجم هذه الفرقة الموسيقية
التي تحولت إلى صوت شباب الثورة أثناء وبعد ثورة 2011 مباشرة.
مخرج يعرف جمهوره
ومن هذه المنطلقات المختلفة، جاء ذكاء مخرج فيلم
"لما بنتولد" تامر عزت، الذي استعان واستغل هؤلاء النجوم المحبوبين
من الشباب ليكونوا أبطال فيلمه الجديد. هذا الاختيار والانتقاء
أعتبره اختيارًا في غاية الذكاء من المخرج، الذي يعي جيدًا مَن هو
المُشاهد الذي يستهدفه عبر فيلمه الجديد. وهو أمر أيضًا يجب على كل
صانع سينما أن يدركه جيدًا قبل البدء في صناعة فيلمه، حيث يجب أن
يحدد بمنتهى الدقة الجمهور المستهدف من فيلمه.
فيلم "لما بنتولد" هو انعكاس للمجتمع المصري في هذه
اللحظة الآنية، خاصة عبر مناقشته لمشكلات الشباب المختلفة. هؤلاء
الشباب الذين كانوا فتيل الثورة ووقودها وجمرها الذي احترق، وأيضًا
هم مستقبل هذه البلاد التي لا تستطيع أن تحيا بدون شباب يعيشون في
حالة اجتماعية وشعورية صحية، تساعدهم وتدفعهم على بناء مستقبلهم
ومستقبل الوطن. |