"أنا
لم أعد هنا" و"شبح مدار".. رثاء ثقافة تموت واكتشاف مدينة في الليل
أمير العمري
فيلم "شبح مدار" المتوج بالهرم الفضي، يدور حول شخصية واحدة
لا نعرف عنها الكثير، في عمل سينمائي مصنوع برقة بالغة.
حصل الفيلم المكسيكي “أنا لم أعد هنا” للمخرج فيرناندو
فرايس على جائزة أفضل فيلم، أي “الهرم الذهبي”، من لجنة تحكيم المسابقة
الدولية لمهرجان القاهرة السينمائي الـ41، وهو ما بدا أنه جاء بدافع
التعاطف مع فكرة معاناة المهاجر الجنوبي القادم من المكسيك إلى أميركا،
وذلك أكثر من كونه تقديرا للمستوى الفني للفيلم، في حين ذهب الهرم الفضي
إلى الفيلم البلجيكي “شبح مدار” للمخرج باس لافوس، وهو تتويج مستحق لعمل
مصنوع برقة بالغة.
ربما لم يكن فيلم “أنا لم أعد هنا”
(I am No Longer Here)
على مستوى الفوز بالجائزة الكبرى لمهرجان القاهرة السينمائي. إنه ليس عملا
رديئا بالضرورة، بل هو فيلم من الأفلام التي تظهر وتختفي، فيه الكثير من
النوايا الطيبة والرغبة الحقيقية في التعبير عن واقع ثقافة توشك على الزوال
بعد أن طغت ثقافة أخرى رديئة هي ثقافة المخدرات وعصابات المخدرات، وسيطرت
على الشباب في تلك المنطقة الجبلية النائية من المكسيك (منتيري) التي تتميز
بموسيقاها الشعبية التي يرقص عليها الشباب والمعروفة باسم “موسيقى
الكولمبيانو”، وهي جزء من ثقافة “الشولو” المضادة للثقافة الرسمية والتي
تعكس نوعا من التمرّد على الثقافة السائدة “الرسمية”.
بطل الفيلم شاب في السابعة عشرة من عمره اسمه “يوليسيس”
قائد فرقة موسيقية تدعى “لوس تيركوس” يجد نفسه واقعا بين شقي الرحى عندما
تهاجم إحدى عصابات المخدرات رفاقه ويقع في أزمة مع زعيم العصابة المناوئة
الذي تعهد بحمايته وزملائه، بعد أن يُقتل عدد من أفراد تلك العصابة فيهاجر
رغما عنه إلى نيويورك، ويقطن حي “كوينز”، ويحاول التأقلم مع واقعه الجديد
إلاّ أنه لا ينجح، فالواقع يرفضه ويرفض وجوده.
ماذا سيحدث لهذا الفتى الصامت الذي يفشل في إقامة علاقة مع
فتاة من أصل صيني بسبب عجزه عن فهم اللغة الإنكليزية وانكفائه على ذاته
وتفكيره المستمر في انتمائه الأصلي وتحفظه مع الآخرين عموما. هو مهموم،
يشعر بحنين جارف إلى موطنه، يحاول أن يستعيد علاقته به عن طريق رقصة
الكولمبيانو، لكنه يطرد ويلفظ ويحظرون عليه الرقص في الساحات العامة أو
محطات القطارات. شعوره بعدم الانتماء للمكان يتصاعد.
الثيمة الأساسية في الفيلم ليست بالتحديد ثيمة الهجرة، وهو
ما يمكن أن يكون قد دفع لجنة التحكيم لمنحه الجائزة الكبرى، بل فكرة
الارتباط الشديد بالثقافة الأصلية التي أصبحت مهددة بالزوال.
والفيلم مصوّر بأسلوب السينما التسجيلية، مع استخدام بارع
للموسيقى والألوان وتجنب الطابع التقليدي مع استبعاد الكاميرا المحمولة
المهتزة، لكنه يخلو من حبكة مقنعة منسوجة جيدا، كما لا ينجح مخرجه في تطوير
الموضوع ليجعلنا نظل طوال الوقت أمام شخصية الشاب الصامت العاجز عن الفعل
وعن تحقيق الذات خارج وطنه، ممّا يدفعه في النهاية إلى العودة.
"أنا
لم أعد هنا" فيلم مكسيكي يعالج فكرة الارتباط الشديد بالثقافة الأصلية التي
أصبحت مهددة بالزوال
ولا أعتقد أيضا أن منح الممثل خوان مانويل غارسيا تريفينا،
بطل هذا الفيلم، جائزة أحسن ممثل، كان اختيارا موفقا، فتعبيرات وجهه ظلت
جامدة واتصف أداؤه بالبرود وغياب الحيوية. لكنّ لجان التحكيم لها حسابات
وتوازنات أخرى.
أما الفيلم الفائز بالهرم الفضي وهو الفيلم البلجيكي “شبح
مدار”
(Ghost Tropic)
للمخرج باس لافوس، فهو أحد الأفلام البسيطة (المنياتير)، أي لا يتضمن
شخصيات كثيرة ولا أحداثا متداخلة متشابكة، لكنه يدور حول شخصية واحدة لا
نعرف عنها أو عن ماضيها الكثير، تقضي ليلة تتجوّل في أنحاء مدينة بروكسل في
الشتاء.
هذه الشخصية هي “خديجة” (سعدية بنطيب) وهي عاملة نظافة من
أصل مغربي، تعمل لدى إحدى الشركات. وبعد انقضاء نوبة العمل في وقت متأخر من
مساء يوم من الأيام، تستقل قطار الأنفاق للعودة إلى منزلها، لكنها تستسلم
للنعاس ولا تستفيق سوى في نهاية الخط لتكتشف أن جميع القطارات قد أنهت
خدمتها لتلك الليلة.
تحاول اللحاق بحافلة من حافلات الليل لكنها أيضا توقفت عن
العمل. ليس مع خديجة نقود كافية لكي تستقل سيارة تاكسي. لذلك تقرّر أن تقطع
الطريق سيرا على قدميها.
خلال سيرها تلتقي خديجة بشخصيات متعددة، تتعرّف على ملامح
من المدينة لا تعرفها، تبدو في لحظة ما أنها لم تعد تتعجل العودة إلى بيتها
بعد أن أغوتها فكرة الاكتشاف: اكتشاف المكان الذي تعيش فيه منذ سنوات لكنها
لا تعرفه معرفة جيدة، فالعمل يستغرقها تماما، فهي نموذج للاستلاب.
إنها تعود إلى مكان المنزل الذي كانت تعمل فيه في الماضي.
تتأمله. لقد أصبح مغلقا الآن بعد أن هجره أصحابه. يستوقفها رجل. يسألها
عمّا تفعله هنا، وعندما يعرف طبيعة عملها يعرض عليها العمل لدى أسرته لكنها
تعتذر لأنها مرتبطة بالعمل في الشركة.
رجل مشرّد يرقد على الأرض يوشك أن يفارق الحياة. إلى جواره
كلبه. تتطلع إليهما ثم تسرع لإحضار رجلي شرطة كانا على مقربة. تحضر سيارة
الإسعاف تحمل الرجل لكن الكلب يبقى وحيدا مربوطا في البرد، تتطلع إليه
خديجة في ألم وحزن لكنها عاجزة عن أن تفعل شيئا. في نفس الليلة ستذهب خديجة
إلى المستشفى للاطمئنان على الرجل لكنها ستجده قد فارق الحياة.
الفيلم مصنوع بتحكّم يصل إلى مستوى الصرامة. ليس هذا فيلما
عن المشاعر المتدفقة، ولا من أفلام التعليق الاجتماعي النقدي المباشر
الصارخ، بل تكمن قوته فيما يكشف لنا عنه من تحت جلد الصورة. إن بطلته ليست
غاضبة ولا راضية، إنها فقط تسير كما لو كانت منومة. راضية بما تفعله، معتزة
بنفسها، تعرف ما تقوم به، تسير في هدوء إلى مصيرها.
لقد جاءت من حيث لا نعرف، وهي الآن ذاهبة إلى بيتها ولا بد
أنها ستصل إليه ولكي تستأنف في اليوم التالي دورة الحياة الرتيبة في تلك
المدينة الغريبة. كل ما نعرفه أن زوجها “منير” توفّي منذ سنوات، وأن لديها
ابنة تشاهدها صدفة من نافذة القطار، والواضح أنها اختارت لنفسها طريقا خشنا
للعيش، كما تتحدث لصاحبة المحل، التي سمحت لها بالمكوث لبعض الوقت، عن
ابنها الذي ترك البيت ولا تعرف عنه شيئا.
خديجة لا تنظر إلى ما تقابله في غضب أو احتجاج بل تبدو كما
لو كانت تشعر بكل من تقابلهم، وتتعاطف معهم. إنهم عالمها، وعالم المدينة
التي تعيش فيها وكانت منعزلة عنها وفي هذه الليلة الباردة تخوض تلك
المغامرة الليلية في شجاعة دون خوف أو وجل. تسير وحدها، معتزة بكرامتها.
إلى جانب أنه مصنوع برقة بالغة هو أيضا فيلم تمثيل، فلولا الأداء البليغ من
جانب الممثلة سعدية بنطيب، لم يكن الفيلم ليكتسب كل هذه الجاذبية. وبوجه
عام هذا فيلم بسيط لكنه معبّر ومحكم ولا يوجد فيه ما يفيض عن الضرورة، فكل
لقطة في مكانها، وإيقاع الحركة بطيء بطء تلك الليلة التي تبدو كما لو كانت
قد امتدت لتصبح عالما بأسره.
المخرج يتعمّد أن يفتتح فيلمه بلقطة ثابتة لغرفة معيشة داخل
أحد المنازل تستغرق وقتا طويلا على الشاشة، دون أيّ حركة، هذه اللقطة
تتكرّر قرب النهاية، لكنه ينهي الفيلم بلقطة تفوح بالأمل والتفاؤل.
بالاحتفال بالحياة، بالتطلع في أمل إلى المستقبل.
كاتب وناقد سينمائي مصري |