مهرجان برلين السينمائي يحتفي بتحفة كلاسيكية
أمير العمري
فكرة فيلم "خزانة الدكتور كاليغاري" تدور حول "التحكم" أو
"السيطرة"، أي كيف يمكن لشخص يمتلك سلطة ما، أن يتحكم بمصائر الآخرين
(بالتنويم ثم الترويع والقتل).
من الطبيعي أن يحتفل مهرجان
برلين السينمائي في
دورته الـ70 المقامة حاليا، بمرور 100 عامٍ على ظهور تحفة السينما الصامتة
وأيقونة التعبيرية الألمانية، فيلم “خزانة الدكتور كاليغاري” الذي أخرجه
عام 1920 روبرت فينه
Robert Wiene
ودخل تاريخ السينما باعتباره أحد الكلاسيكيات الكبرى. وكان أرشيف الفيلم
الألماني قد تمكن قبل 6 سنوات من ترميم وطباعة نسخة رقمية عالية النقاء
والوضوح
k4
من الفيلم، وأعاد إليه ألوانه الأصلية الأحادية.
بمناسبة الاحتفال بمئوية الفيلم أقام مهرجان برلين معرضا
خاصا في “متحف السينما” تضمن عرض تاريخ إنتاج الفيلم مع بعض الرسوم
والتصميمات الأصلية التي صممها الفنانون التعبيريون الذين استعان بهم مخرج
الفيلم لتصميم الديكورات الغريبة الضيقة الخانقة التي اعتبرت بمثابة ثورة
في عالم السينما في ذلك الوقت حينما كان الفن السينمائي مازال في بداياته.
أشهر هؤلاء الفنانين وولتر ريمان وهيرمان فارم. والاثنان من الرسامين
التعبيريين. وقد قدما رسوما وتصميمات لرؤية فنية لا تعتمد على تجسيد الواقع
بل التعبير الذاتي عنه، من منظور الفرد المحبط المضطرب الذي يعاني من
الهواجس والتشكك وانعدام الثقة في الآخر، وتصور علاقة الفرد بالواقع، كيف
يراه ويتفاعل معه، من خلال صور “تعبيرية” تعكس الخوف والقلق والكوابيس
المرعبة، وتستخرج من الصور ما يدور داخل الذهن البشري، ولا يتجانس بالضرورة
مع “صورة الواقع” من الخارج.
كانت التعبيرية قد انتشرت في عشرينات القرن العشرين وشملت
الأدب والفن التشكيلي والمسرح والسينما. وفي ألمانيا تحديدا برزت النظرة
إلى السينما على اعتبار أنها فن له خصوصيته التي تميزه عن الأدب والمسرح.
وليس سلعة أو وسيلة تجارية أو أداة للتسلية، وأن الفيلم بالتالي مثل اللوحة
الفنية، لا يخضع للواقع بل لرؤية الفنان للواقع وإن تجاوز الواقع نفسه في
تصوير هواجسه الداخلية العميقة. وفي الوقت الذي برزت فيه التعبيرية في
ألمانيا، ظهرت السريالية في فرنسا. ولا شك في وجود الكثير من الصور
السريالية في الأفلام التعبيرية، لكن في سياق الملامح الخاصة للتعبيرية
التي ترتبط بتصوير غرف تبدو كمقابر، وشوارع مائلة، وسلالم صاعدة حادة
الزوايا. إلى جانب استخدام الإضاءة لتوليد الظلال القاتمة والتركيز على
الوجوه من خلال استخدام دوائر مغلقة تحبس الشخصيات، وتظهر الانفعالات على
الوجوه بطريقة مبالغ فيها، مع تضييق المساحات أو الفراغات داخل الصورة
كثيرا، وتصوير الجدران التي تمتلئ بالصور والرسوم الغريبة، والأسقف
المنخفضة التي تحلق فوق الرؤوس مباشرة.
إن العالم في هذه الأفلام يبدو سجنا، ولا تؤدي الشوارع
الملتوية الضيقة إلى شيء، وتظهر العمارات والمباني نحيفة مدببة، والمنازل
أقبية مليئة بالأسطح المدببة. هذه الصور وغيرها هي ما تشكل الرؤية البصرية
في فيلم “خزانة الدكتور كاليغاري” بحيث أصبح الفيلم نموذجا كلاسيكيا في
استخدام التعبيرية.
يتم استخدام هذه الصور في الفيلم، ليس من أجل تصوير الواقع،
بل التعبير عما يكمن داخل “الذات” أي نقل المشاعر الداخلية عند الإنسان-
الفرد، إلى الشاشة وتجسيدها في صور مبالغ كثيرا في تصميمها من حيث الديكور
وزوايا الكاميرا وحركة الممثلين، لتوليد تأثير مقصود على المتفرج، وخلق
علاقة بينه وبين ما يشاهده من شخصيات، أي علاقة بين هواجسه الداخلية،
والصور المقبضة المخيفة التي تستدعي مخاوفه الخاصة وتستخرجها كما لو كان
يمر بإحدى جلسات التحليل النفسي. فالتعبيرية حركة مضادة للواقعية، بل وتعكس
التشكك في الواقع نفسه، في مصداقيته واستقامته ووعوده بعد أن أصبح مشوشا
مضطربا قاتما مزيفا.
تقول الكاتبة والباحثة الألمانية أليسا دارسا
Alissa Darsa
إن “اعتبار السينما فنا مستقلا عن غيره من الفنون أصبح من المفاهيم التي
ستمتد إلى الكثير من صانعي الأفلام في القرن العشرين أمثال الفريد هيتشكوك
وفيرنر هيرتزوغ وتيم بيرتون، وسيمتد تأثير فنانين تعبيريين مثل إريك هيكل
وفاسيلي أندنسكي وإميل نولد، ويساهم في إعادة التفسير السينمائي للعالم
طبقا للظروف الثقافية في فترة زمنية محددة”.
معنى عنوان الفيلم
كثيرون ترجموا عنوان الفيلم
Das Cabinet Des Dr. Caligari
إلى”عيادة الدكتور كاليغاري”، و”كابينة الدكتور كاليغاري”، ولكني بحثت
ودققت وتوصلت إلى أن المعنى الأقرب إلى كلمة
cabinet
الألمانية (والإنجليزية) هو “خزانة”. والمقصود تلك الخزانة الضيقة للغاية
في بيت الدكتور كاليغاري التي يحفظ في داخلها جسد “سيزار” الشاب الذي قام
بتنويمه ويستخدمه في ارتكاب الجرائم المنسوبة إليه في الفيلم. وهي خزانة
تشبه “التابوت” أو “النعش” الخشبي. وليس في الفيلم “عيادة” بل إننا سننتقل
من منزل الدكتور كاليغاري الذي لا يزيد في الحقيقة عن غرفة واحدة ضيقة
كئيبة لا تحتوي سوى على نافذة واحدة مسدودة، إلى المستشفى في الفصول
الأخيرة من الفيلم (المكون من ستة فصول). وهو مستشفى للأمراض العقلية يعمل
كاليغاري مديرا له.
فكرة الفيلم تدور حول “التحكم” أو “السيطرة”، أي كيف يمكن لشخص يمتلك سلطة
ما، أن يتحكم في مصائر الآخرين (بالتنويم ثم الترويع والقتل). وفي وقت ظهور
الفيلم عام 1920، كانت ألمانيا قد خرجت تعاني من هزيمة ساحقة في الحرب
العالمية الأولى. وكان هناك خوف من القادم المجهول، من قوى عاتية يمكن أن
تتحكم في مصير الفرد. ومن داخل هذا المناخ من الخوف والترقب والرعب، برزت
النازية كبديل قومي متطرف وأمكن استخدامها كأيديولوجية تستنهض الروح
الألمانية لمواجهة القوى الكبرى التي تريد تركيع الشعب الألماني. ومن داخل
هذا المناخ جاء سيناريو الفيلم الذي كتبه كارل ماير وهانز جانوفيتز،
مستلهمين الفكرة والموضوع من تجاربهما الخاصة خلال الحرب. وأُسند إخراج
الفيلم في البداية إلى المخرج المرموق فريتز لانغ إلا أن الوقت الذي حددته
شركة الإنتاج لإنجاز الفيلم جعل لانغ ينسحب من المشروع فأسند إخراجه إلى
روبرت فينه (1873- 1938) وكان معروفا بغزارة إنتاجه (في عام 1920 وحده أخرج
فينه ستة أفلام).
الشخصية الرئيسية في الفيلم، شخصية شاب يدعى “فرانسيس”،
يبحث في مقتل صديقه الحميم “آلان” بعد حضور عرض قدمه الدكتور كاليغاري
للتنويم في معرض مقام في البلدة، حيث استخدم شابا أطلق عليه “سيزار”.
وسيزار هذا هو الذي سيتنبأ لآلان بالموت مع بزوغ فجر اليوم التالي. ويُقتل
آلان بالفعل. وينتشر الفزع في البلدة. يعقب ذلك اختطاف الفتاة الجميلة
“جين” التي يحبها كل من آلان وفرانسيس. ويعتقد فرانسيس أن الدكتور كاليغاري
الذي يحتفظ بجسد سيزار داخل صندوق خشبي في غرفته، يسخره ويستخدمه في ارتكاب
جرائم القتل. والفيلم يُروى من خلال العودة إلى الوراء أو الاستدعاء من
الذاكرة، أي من ذاكرة فرانسيس، لكننا سنكتشف في النهاية أن ما نراه كله
هلوسات تنبع من عقل رجل مجنون، أو أحد نزلاء مستشفى الأمراض العقلية التي
يديرها الدكتور كاليغاري نفسه، وأن الحقيقة ليست هي ما تُروى لنا دائما.
القصة بسيطة، مصاغة في سياق الرعب، مع صور مضخمة كثيرا
لردود أفعال الناس على الجرائم التي تقع في البلدة. وفي الفيلم مشهد
لمطاردة طويلة بين عدد من الرجال منهم فرانسيس ووالد حبيبته جين، يطاردون
سيزار بعد أن اختطف جين وأخذ يجرها على أرضيات الشوارع الضيقة ويصعد بها
سلالم مخيفة مدببة.
ملامح الصورة
في الحبكة التواءات تصنع الإثارة. وموسيقى تبدو أحيانا كما
لو كانت صراخا حادا أو حشرجات عالية النبرة تستخدم فيها آلة الكمان، مع
دقات الطبول التي تنذر بالخطر، واستخدام خاص للماكياج وهو أحد الأدوات
الرئيسية في السينما التعبيرية: إعادة رسم ملامح الوجوه لإبراز التأثير
المراد توصيله للمتفرج: الرعب، الشعور بالضعف، بالموت.
نلاحظ هنا بوجه خاص، شحوب الموت على وجه سيزار النحيل
والكحل الأسود الذي رسمت به حدقتا عيناه مع الصبغة السوداء تحت جفنيه،
وكأننا نرى جثة عادت من عالم الأموات. أما وجه “جين” بعينيها المكحلتين
بطريقة مبالغ فيها وفمها المرسوم الصغير فهو يتناقض مع الواقع، مع المبالغة
في إبراز ملامح وجه الدكتور كاليغاري، المنتفخ، مع نظاراته المستديرة وشعره
الطويل الأصفر الذي يتدلى من تحت قبعته العالية، ونظرات عينيه اللتين
تنذران بالشر، كلها تخلق جوا من الرعب.. مع الكثير من الصور والرسوم
المتناثرة فوق الجدران والتي تجعل صورة الواقع “السينمائي” منفصلة تماما عن
الواقع الحقيقي.
من أكثر تصميمات الفيلم غرابة، تصميم غرفة المكتب الذي يجلس
فيه رجلا الشرطة ويتكرر ظهورهما في الفيلم: إنهما يجلسان على مقاعد مرتفعة
لا صلة لها بالواقع. سقف الغرفة منخفض كثيرا، وهناك مقعد صغير فارغ ومنضدة
عالية، الضوء أصفر شاحب، مع ورقة تبدو كما لو كانت معلقة في الفراغ. ويتميز
مظهر الشرطيين، بالنحول واللحى الطويلة والعيون الحادة النظرات وقبعاتهما
العالية وملابسهما الفضفاضة الغريبة كما لو كانا ينتميان إلى القرون
الغابرة.
يستخدم المصور اللون الأصفر أو الصبغة البنية المختلطة
بالأصفر في مشاهد النهار، والصبغة الزرقاء في مشاهد الليل، والأزرق الخفيف
الشاحب في مطلع النهار. كما يستخدم كثيرا زوايا التصوير المنخفضة التي
تساهم في تغريب الصورة، وتكثف الطرق المائلة الصاعدة الضيقة وتزيد من
الشعور بالرهبة. وفي مشهد قتل آلان في البداية لا نرى القاتل بل نرى ظل
القاتل كما ينعكس على الجدار ثم آلان وهو ينهض من فراشه مذعورا ويقاوم
الشبح الذي يطعنه بالسكين.
يختلف الفصل الأخير في طابعه وأسلوبه عن الطابع السائد في
سائر فصول الفيلم، فالضوء يبدو فيه معتدلا، والجدران مستويةـ إنه الفصل
الذي يدور في المستشفى وفيه نكتشف الحقيقة، أي أن “فرانسيس” ما هو سوى أحد
نزلاء المستشفى من المختلين عقليا، يجتمع عليه الأطباء ويقيدونه داخل قميص
المجانين ويعزلونه، في صورة معكوسة تماما لما سبق أن تخيله هو يحدث مع
الدكتور كاليغاري نفسه الذي لابد أن اسمه الحقيقي ليس كاليغاري فهذا الاسم
مستمد من قصة وقعت فصولها في عام 1783 اطلع عليها “فرانسيس” وأخذ يقرأها في
مشهد سابق من كتاب قديم في مكتب الدكتور كاليغاري في المستشفى، وكيف أن
كاليغاري استمد فكرة تنويم “سيزار” منها، وقام بتدوين أفكاره في دفتر
يومياته!
في المشهد الأخير، سيظهر الدكتور “كاليغاري” في صورة رجل
“طبيعي”كمدير مستشفى يتمتع بالمصداقية والاحترام من جانب فريق الأطباء
العاملين، أي نقيضا لصورته السابقة التي رأيناها من خيال فرنسيس طوال
الفصول الخمسة السابقة.
الفيلم والتحليل النفسي
في دراسة ممتعة بعنوان “الدكتور كاليغاري: التاريخ والتحليل
النفسي والسينما” (1997) يتوقف الباحث فرانك توماسولو أمام شخصيات الفيلم
ويسلط الأضواء عليها من زاوية التحليل النفسي. وهو يشير مثلا إلى أن جريمة
قتل آلان وقعت مباشرة بعد مشهد اعتراف آلان وفرنسيس بحبهما لجين. وربما
يكون “فرانسيس” بالتالي هو الذي قتل آلان لكي ينفرد بحب جين. ويمكن هنا أن
أضيف في ضوء هذا التفسير الفرويدي، أن فرانسيس قد أصبح بالتالي يعاني من
الشعور بالذنب.
وقد أراد أن يتخلص من هذا الشعور عن طريق إلقاء اللوم على
كاليغاري. لكن توماسولو يرى أيضا أن “سيزار” يتمرد على “الأب- البطريرك”،
أي كاليغاري الذي سيطر عليه، حينما يختطف جين ويريدها لنفسه، لذلك فهو ينال
العقاب بالموت. أما عندما نراه في المشهد الأخير وهو يمسك وردة ويبدو
مسالما ناعما رقيقا أي نقيضا لصورته الشريرة، فإنه يجسد هنا التناقض بين
صورة (الجندي) أثناء الحرب أي “الشرير”، وصورته في الحياة المدنية. ويشير
توماسولو إلى أن فرويد كان قد نشر بحثه عن “عصاب الحرب” بهذا المعنى في نفس
عام صنع الفيلم، وشرح فيه كيف ساهمت الحرب في تكريس شرخ نفسي خطير عند من
شاركوا فيها وعادوا منها.
وأخيرا فميزة فيلم “خزانة الدكتور كاليغاري” أنه لا يزال
بعد مئة عام من عرضه، يثير الكثير من التساؤلات، ويظل قابلا للكثير من
التفسيرات.
كاتب وناقد سينمائي مصري |