في منتصف ثمانينات القرن الماضي، كان الفنان الراحل علي
الغرير ضمن مجموعة من فناني المسرح الشبان الذين جاؤوا من المسرح المدرسي
الى نادي مدينة عيسى. هناك، بدأ هؤلاء الشبان العمل مع بعض الأسماء البارزة
في المسرح لدينا. لقد تتلمذ هؤلاء على ورش عبدالله السعداوي ومسرحياته
ومسرحيات جمال الصقر ومصطفى رشيد بكل اتجاهاتها الفنية، من التجريب و
الكلاسيكي الى الكوميديا. من هناك انطلق الغرير وزملاءه ليشكلوا فيما بعد
جيلاً جديداً من الفنانين الذين أثروا الحركة الفنية في البحرين بموجة
جديدة من الابداعات والتجارب في المسرح ولاحقا في السينما. في هذه الموجة
الجديدة، كان الغرير أحد وجوهها البارزة في ميدان الكوميديا.
لكن الى جانب المسرح، التزم هؤلاء الشبان تقليداً كان
سائداً في نادي مدينة عيسى وهو زيارة المستشفيات ودور الرعاية في ثاني ايام
العيد لمعايدة المرضى والنزلاء. كانوا يزورون دور رعاية المسنين ومراكز
رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة ونزلاء مستشفى الامرا ض النفسية. وثمة صورة
متكررة كانت تنشر في صفحات المجتمع في الصحف لهذه الزيارات يظهر فيها علي
الغرير وهو يعزف العود وابتسامة عريضة على محياه وهو محاط بزملائه الفنانين
والنزلاء.
قد تكون هذه أفضل بداية للحديث عن علي الغرير الذي رحل عن
دنيانا واخذ معه "إبتسامته/نا" و"ضحكته/نا". هذه كانت بدايته: "تعلم الفن
وحب الناس".
لعل هذه البداية تفسر لنا لماذا لم يكن الغرير من ذلك النوع
من الفنانين الذين يسعون للشهرة بأخبار النميمة والاستعراضات التافهة، فمن
تلك الصور الأولى مع نزلاء دور الرعاية الى السنوات القليلة الماضية وحتى
رحيله، لم يكن يظهر الا وسط الصغار الذين احبوا شخصية "طفاش" ورفيقه "جسوم"
التي يؤديها الفنان خليل الرميثي رفيق رحلته وصديقه وتوأمه الفني.
عرفته منذ تلك الأيام، وتلك كانت بداية تاريخ طويل سيأتي
لصداقة وأخوة ومودة. لا اذكر منه يوم لم يضحكني فيه.. لا اذكر فيه يوماً
سمعته يغتاب أحداً.. يوماً أو مرة يلقي بكلمة سوء بحق أحد.. بشتيمة، وجه لا
تذكره الا منبسطاً بإبتسامة وضحكة عذبة معدية، شخص لا تذكره الا بنكتة أو
حركة مضحكة او تعبير كوميدي.
عندما نلتقي في جمع من الاصدقاء، تشعر ان طاقة كوميديا
هائلة تشع منه، فلا شيء طبيعي لدى علي الغرير وسط الأصدقاء، يسلم على كل
واحد منا بحركة كوميدية يرتجلها في لحظتها فيطبع اللقاء بهذه البداية
الكوميدية المتبسطة الخالية من اي توتر. يتوالى تأثير افتتاحية الغرير
الكوميدية هذه احاديث على نفس النسق، فكل شيء في احاديثنا سيغدو كوميديا،
من مصاعب الحياة الى مشكلات الوسط الفني ونقائصه الى انعدام التشجيع
والنظرة السلبية، كل شيء يداوي بالكوميديا وكل الكوميديا هي علي الغرير،
أكان ذلك في مجلس او مكتبة الصديق ذو القلب الكبير علي الشرقاوي أم في صالة
مسرح او رحلة الى بستان او لقاء مصادفة في أي مكان.
لكن الاماكن والرحلات تعددت وليس لرحلة او رفقة لتخبرنا اي
نوع من الناس هو علي الغرير سوى تلك الرحلة التي اخذتنا وجمع من فناني
البحرين الى جزر حوار في تسعينيات القرن الماضي. الآن فقط، عندما استعيد
تفاصيل تلك الرحلة لم أجد من تسمية تليق بها سوى ان أطلق عليها "رحلة
الهذيان الكوميدي الذي لم يتوقف".
كانت رحلة امتدت يومين، لا اذكر اننا توقفنا فيها عن الضحك
للحظة. فما ان انطلق البانوش في عرض البحر، إلا وانطلق الهذيان الكوميدي
الذي استمر على مدى يومين متتالين لم نتوقف فيها عن الضحك. كان فنانو
المسرح هناك، كان الكوميديون هناك، المخرجون والمؤلفون، من كل هؤلاء كان
لعلي الغرير دور بطولة شاركه فيه الراحل العزيز سالم سلطان، وكنا نحن
الباقين ممثلين مساندين ومتفرجين.
عندما دشن الغرير مرحلة جديدة في مسيرته الفنية مع دور
"طفاش" في مسلسل "يوميات طفاش"، تأسست شراكة فنية وانسانية مع نجم كوميدي
آخر هو الفنان خليل الرميثي، فالإثنان سيغدوان ثنائياً فنيا وإنسانياً لا
مثيل له. وسواء تعلق الأمر بتحقيق رغبة طفل على سرير المرض في رؤية "طفاش"
و"جسوم"، أو افتتاح مشروع أو مهرجان، فإن كثرة ظهور الغرير والرميثي مع
الاطفال في احتفالات لا حصر لها في البحرين والسعودية وعمان تظهر ان الفاصل
بين "طفاش" وعلي الغرير يكاد يضيع، فالأول يضحك الاطفال ويضحكنا بسذاجته
المرسومة في نص مكتوب، أما الثاني الحقيقي فيبهج الأطفال وأهلهم بطيبته
وضحكه وتواصله الدافئ والتلقائي مع الصغار وكأنه واحد منهم.
الآن اصبح الجميع يعرف أن علي الغرير كان طاقة هائلة من
الكوميديا، كأن الله قد خلقه ليضحكنا ويرسم الابتسامة على وجوهنا ووجوه
الصغار، لكن من سيحوز كل هذا الحب من الناس، لم يفعل في الحقيقة سوى أن
اعطاهم هو الحب. الغرير فعل ذلك بتلقائية ودون افتعال ودون ضجيج وبتواضع
بحريني جم.
اكتب وانا أغالب حزني واكتمه.. فلدي منه كلمات بصوته بعثها
لي قبل ايام قليلة ردا على تحية مني ذكرته فيها بنكتة بيننا.. ستبقى كلماته
هذه تخنقني بضحكة وعبرة. |