ها هو الفتى الذي يصنع من خلاء البلاتوه الموحش مدناً وسفناً ومقاهي وحواري
وقصوراً وحانات". هكذا يصف سيد سعيد فنان المناظر السينمائية أنسي أبو سيف
في كتاب تكريمه الصادر عام 2004 مواكبا للمهرجان القومي للسينما المصرية،
وهي كلمات- كما يقول الناقد أحمد يوسف تذكرك على نحو ما ببعض من روح نجيب
محفوظ، لكن المهم أنها تصوغ فكرة الصراع بين الخلاء والبناء، بين العدم
والوجود، فالفنان في هذا الشأن خالق في مجاله، منشيء لواقع لم يكن موجوداً
أبداً.
كتب الناقد الراحل عن كتاب واحد من البنائين لسيد سعيد أنه وجد التكليف
بالكتابة - عن فنان المناظر أنسي أبو سيف طوق النجاة، حيث يمكن له أن يغوص
بكل حرية في عالم يجسد أكثر عناصر االفن السينمائي اعتماداً على الإحساس
البصري المجسد، وحيث يمكن له أن "يرى" ذاته من خلال "الآخر" سيد سعيد من
خلال أنسي أبو سيف، وفيما يشبه الفلاش باك الخاطف – تلك الأيام الخوالي
حينما تقابل – في حلقة شادي عبد السلام – وأنسي أبو سيف، الذي كان آنذاك
شابا أقرب إلى الخجل والانهماك في العمل. يواصل أحمد يوسف عرضه المختلف
للكتاب الذي كان فارقا عن كل كتب التكريم السائدة، أشبه بمحاورات في معاني
الأشياء وعوالم الفن صورة ومعنى وفلسلفة. فيقول أن "حبكة" الكتاب تولد
وتنمو كما لو كانت فيلماً يصنعه سيد سعيد، جاء "المشهد" الأول – بعد
"الأفان تتر" – في جلسة على مقهى ريش، "الذي أصبح خلفية بلا روح"، وهكذا
يصبح الديكور وكل عناصر "المنظر" – أو الواقع – البصرية خلفية محايدة،
منبتة الصلة بما يدور في مقدمة الكادر، وخلافا مع "الطريق" الصوفية في
توطيد العلاقة بين الذات والموضوع دون وسيط، يتدخل طرف ثالث هو داود عبد
السيد الذي يقوم بدور فاعل في تحفيز طرفي العلاقة، بما له من خبرة تؤهله
لكي يدفع الكتاب – كأنه فيلم – إلى الأمام: "لدينا الزمان والمكان، فلنبحث
عن الحدث "!
والحدث الحقيقي هنا هو الرغبة العميقة في اكتشاف أنفسنا في سياق الزمان
والمكان، والماضي والحاضر، وهكذا تتداخل الذكريات الماضية والتجارب
المعاصرة بين كوم أمبو أنسي أبو سيف، وبورسعيد سيد سعيد، وشبرا، وشوارع
القاهرة. إن حديث أنسي عن مدينته الجنوبية كوم أمبو، والتغيرات الفيزيقية
الاجتماعية فيها خلال العقود الماضية، يجعل سيد سعيد، وفي جملة واحدة وبلا
فاصلة تفصل بين العالمين، يقفز إلى مدينته الساحلية الشمالية بورسعيد،
يصنعها كلوحة سينمائية هادئة تحولت مع الأيام إلى كابوس ومتاهة !
وخلال رحلة أنسي أبوسيف في تذكر مدينته الجنوبية الصغيرة، نتعرف شيئاً
فشيئاً على معنى أن تكون "فناناً للمناظر السينمائية"، الذي نصفه خطأ
بمصطلح "مصمم الديكور"،
ودون كلمات متفلسفة يجسد لك أنسي الأماكن بعين الفنان، مثلما فعل عندما رسم
لنا – بالكلمات – معمار البيوت في المدن الجنوبية الصغيرة، وسوق كوم أمبو،
ويتلقف منه سيد سعيد الخيط ليكمل بنفس الطريقة – وهو الفنان السينمائي –
وصفه لشقة أنسي المعاصرة في الضاحية القاهرية
.
إن "المناظر" تكتسب حياة مع رؤية الفنان، أو أن الأماكن حية بطبيعتها،
وقدرة الفنان الموهوب تتجلى في الإمساك بها في لحظة من لحظات حياتها، بدلا
من تحويلها إلى "ديكور" مكون من قطع أثاث ميتة. وبكلمات بسيطة بليغة يوضح
أنسي كيف أن للأماكن أو لعناصر المنظر، علاقة تفاعل لا تنتهي مع الإنسان
الذي يسكن فيها. نرى العلاقة الحية بين عناصر النمط المعماري، والجوانب
المناخية والاجتماعية: الفرق بين المشربية والشيش، وفتح النافذة أو غلقها،
وبين الحارات الضيقة ذات البيوت المتقابلة دون مسافة تفصل بينها والفضاءات
الممتدة إلى المجهول والوحشة. تأمل على سبيل المثال وصف أنسي أبوسيف لمدينة
كوم أمبو، من خلال الصورة والمعمار والاكسسوار، حيث يتلاحم البناء المعماري
مع البناء الاجتماعي والاقتصادي، وحيث لكل شيء في "المنظر" علاقة لا تنفصم
بين ما هو جمالي وما هو وظيفي.
هذا التفاعل الحيوي بين المكان/ المنظر، والإنسان/ الوظيفة الحيوية يعطي له
أنسي أبو سيف مثالاً كاشفاً إلى درجة هائلة: الفرق بين معمار السوق ومعمار
"المول"، والفرق بين العلاقات الاجتماعية في كل منهما،
يقول أنسي: "المكان الذي نراه على الشاشة يخص الشاشة وحدها، وفيلماً معيناً
بالذات، حتى لوكانت ملامحه تشبه الواقع، فأنا أخلق، المكان مرتبطاً
بالخصائص الذاتية للسينما، والمكان في الفيلم يدخل في علاقات مع عناصر
الفيلم الأخرى".
ويستمر الناقد موضحا ما لفن السينما من علاقة وثيقة مع التجارب الصوفية
زأنه بمعنى ما كل تجربة فنية بها قدر من الصوفية، فهي ذوبان الكل في واحد،
وليس تصميم المناظر إلا جزءا من هذا الكل. إنك تجد تأكيد وجهة النظر تلك في
صفحات الكتاب، على نحو صوفي صاف وشفاف.
ويستمر أنسي أبو سيف ويقااطع معه داود عبد السيد، لكي يجسد لك هذا الفن:
"عندما تنتهي من كتابة سيناريو وتبدأ رحلة تحقيقه، ستجد ثلاثة فراغات كبيرة
عليك أن تملأها، الأول هو اختيار الممثلين.. أما الثاني فهو الجانب المرئي
أو التشكيلي، يجب أن تبحث عن الشمس التي ستضيء هذا الفيلم، شدة الضوء ولونه
ومساحة الظلال ودرجاتها، ولحظات أو مراحل اليوم من الفجر حتى الغسق والليل،
وألوان الحوائط والأثاث والاكسسوار والملابس، ثم الطرز المستخدمة والمختارة
سواء في الملابس والإكسسوار والعمارة والديكور، وهذا الجانب من أصعب جوانب
تحقيق الأفلام، خاصة في ظل الإنتاج المصري. والثالث هو التكوين الصوتي".
يخبرنا داود عبد السيد بصفات ومواهب فنان المناظر السينمائية كما يجب أن
يكون، مجسداً في أنسي أبو سيف أهمها: ذاكرة بصرية تاريخية حضارية شاملة،
وجذور تضرب في الواقع الراهن، إدراك العلاقة بين المعماري والتشكيلي من
جانب، والاجتماعي والنفسي من جانب آخر، إدراك العلاقة بين الجمالي والنفعي،
وبين الإنسان والمكان، وبين الواقع المادي والخيال الجامح !وهي شروط يجب
توافرها في كل فنان مثقف.
هناك مبدع لفن المناظر في السينما المصرية هو أنسي أبو سيف، يكتب عنه بندية
المخرج والباحث عن نظرية نقدية سيد سعيد ويكتب عن تجربة هذه التجربة ناقد
أكاديمي يتبع منهجا صعبا في نقد النقد. حاولت جاهدة أن أوجز هذه العلاقة
الثلاثية الشائكة التي أثارها تكريم أنسي أبو سيف في دورة مهرجان الجونة
الرابعة. تكريم يجعلنا نقترب أكثر من فن هذا الفرع من فروع الفيلم والتي
تبقى في عمق الصورة لا تدرك الا بالحس السليم ولا يتمكن من توصيفها الا
مثقف كبير وفنان موسوعي مثلهم هؤلاء البنائيين والمحللين والمفككين العظام
سعيد ويوسف وأنسي أبو سيف.
* المقال عن دراسة للناقد أحمد يوسف عن كتاب سيد سعيد بمناسبة تكريمه
بجمعية نقاد السينما المصريين احتفالا بالكتاب. |