مفاجأة مدهشة أن يتواجد كل هذا الكم من الأفلام الجميلة في
دورة مهرجان "الجونة السينمائي" الرابع. الدهشة ليس مرجعها أي سبب آخر
باستثناء أنها دورة تُقام في ظروف استثنائية تتعلق بجائحة "كوفيد-١٩" الذي
بدأ مجددًا يُثير مخاوف الدول الأوروبية مع تصاعد الموجة الثانية حتى أن
عددًا من الدول بدأت في إغلاق حدودها.
شخصيًا استمتعت بمشاهدة العديد من الأفلام، وبأجواء
المهرجان المقام بمنتجع الجونة، تلك المدينة الساحرة المُحاطة بجمال البحر
الأحمر من ناحية ومن جانب آخر تحميها أحضان الجبل. شخصيًا أرى الدورة
الرابعة ناجحة بالمقاييس السينمائية والمهرجانية، دورة لم تخلُ من أربع تحف
سينمائية ستعيش معنا طويلًا، وهي «الروابط»، «لن تُثلج مجددا»، «ماتادوري
المذعور» «صائدو الكمأ».
إضافة إلى العديد من الأفلام المتنوعة بين روائي ووثائقي،
طويل وقصير، والمصنوعة بشكل جيد جدا سينمائيًا وفكريا وتناقش قضايا مهمة
مثل «بانكسي»، و«إلى أين تذهبين يا عايدة»، و«استمع»، «٢٠٠ متر»، «صبي
الحوت»، «واحة»، «أيام أكلة لحوم البشر»، «ليل» «مشع»، «امح التاريخ»،
جوزيب»، «سقوط».
شكوى فرح
حتى الأفلام القصيرة بها عدد كبير مصنوع بأسلوب سينمائي
مدهش وقوي البناء الفكري، وأبرزها -مما أُتيح لي مشاهدته- الفيلمان
اللبنانيان «شكوى» إخراج فرح شاعر، و«الحاجز»، للمخرجة داليا نمليش،
والفيلمان المصريان «الخد الآخر»، لساندرو كنعان، و«ستاشر» لسامح علاء الذي
سبق أن كتبنا عنه من موسكو عقب فوزه هناك.
في «شكوى» تأخذنا فرح -بلغة سينمائية شديدة البلاغة
والتكثيف المحمل بالمعاني والإيحاءات الخطيرة- مع بطلتها هدى المحجبة والتي
ترتدي إسدالًا وتهرب إلى مخفر الشرطة -في غياب زوجها- لتُقيم شكوى ضده؛
لأنه يغتصبها منذ أكثر من عام كامل، لكن المسؤول يرفض تقديم الشكوى؛ لأنه
يرى أنه لا شيء اسمه اغتصاب بالزواج، ويطلب منها تقريرًا من الطبيب الشرعي
الذي سيكلفها مبلغًا فوق طاقتها، تتوسل إليه وعندما لا يتراجع تفاجئنا -بل
تصعقنا- بنزع الإسدال عن جسدها النحيل لنرى آثار الضرب والكدمات على هيكلها
العظمي العاري.
مع ذلك لن يُبدل المسؤول موقفه، فيُصر على عدم انصرافها قبل
التأكد من أنها لم تمارس أي مخالفات، وحين يأتي الملف الأمني سنكتشف أن
هناك مخالفة قيادة، للسيارة المسجلة باسم هدى، سيارة اشتراها الزوج باسمها،
ولم تقودها مرة واحدة في حياتها، ولن يُسمح لها بالخروج قبل أن تسدد
أموالًا لا تملكها؛ لتكون أمام خيارين؛ سجن الشرطة أو سجن الزوج.
فيلم «شكوى» كتبته المخرجة بنفسها، في ١٤ دقيقة حمَلَّت
اللقطات البصرية العديد من المعاني والأفكار والمعاناة الواقعة على عاتق
المرأة من دون شعارات.
كذلك يأتي فيلم «الحاجز»، والذي يناقش فكرة الثورة بلبنان
وبينما تناقش المخرجة الأمور السياسية لا تفصلها عن التمييز بين الرجل
والمرأة، وفكرة الحرية التي يتشدق بها البعض -حتى مَنْ عاشوا بفرنسا- لكن
الشعار يسقط مع أول اختبار، ويظهر الوجه القبيح للديكتاتورية حتى من
الحبيب.
أما الفيلم المصري «الخد الآخر» فمنتجته كوثر يونس -التي
سبق وأخرجت فيلم «هدية من الماضي»- وقام ببطولته الفنان طارق عبدالعزيز
الذي قدم أداءً تلقائيًا صادقًا ومكثفًا، معبرًا عن كثير من معاني
الارتباك، الغضب، الحزن، ثم الانتقام لابنته التي ترقد بين أيدي القدر بسبب
كلب أحد المسؤولين.
عايدة وإدانة الأمم المتحدة
تميزت الأفلام بالتنوع الجغرافي، باختلاف الموضوعات، نخبة
من أرقى وأروع إنتاجات العام السينمائي، عشنا مع مشاكل وهموم وقضايا الناس،
من الشرق والغرب، الشمال والجنوب.
عانينا معهم من تهدم العلاقات العائلية وآثارها خصوصًا
عندما يحاول البعض التضحية بسعادته لأجل إنقاذها، عشنا مع الأبطال لحظات من
العنف وخرابه، تأملنا آثار الكوارث البشرية والقتل والحروب كما في «مشع»،
و«إلي أين تذهبين يا عايدة»، ومقاومة الديكتاتوريات كما في «ماتادوري
المذعور»، وإن بشكل مغاير وبديع سينمائيا -حيث تلتقي المثلية الجنسية
بالنضال السياسي في مزيج رومانسي كوميدي نادر- والذي يستحق وحده مقالا
تحليليًا.
كذلك استمتعنا بشغف كبير بفكرة التمرد على الرأسمالية
والنظام العالمي الجديد بذكاء حاد كما في «بانكسي أكثر المطلوبين»، فهو
شريط سينمائي وثائقي منسوج بغلالة من الإثارة والتشويق، والإعجاب بشخصية
بانكسي وتمرده، وسبل مقاومته التي استجاب لها مختلف أطياف الناس في شتى
البلدان. وأثناء ذلك تعاطفنا، أيضًا، مع كثير من علاقات الحب، وأنعشنا
الغناء الإيقاعي المبهج، أو تلك الموسيقى التأملية التي تُخاطب أرواحنا،
كما ضحكنا من قلوبنا طويلًا مع العديد من المشاهد الساخرة المفعمة بالحيوية
والمقاومة.
بالفيلم البوسني «إلى أين تذهبين يا عايدة» والمأخوذ عن
كتاب أصدرته المترجمة البوسنية التي عملت مع فريق الأمم المتحدة وقت
الإبادة الصربية لشعب البوسنة وقُتل زوجها وولداها، في رأيي إن أكثر وأقوى
نقطة إضاءة بالفيلم -والاختلاف عن أي فيلم سابق- هي الإدانة الواضحة
المباشرة لمنظمة الأمم المتحدة وتواطؤها أو استسلامها للديكتاتور الصربي
والقتلة من رجاله، ففي ثلاثة لقطات يتم الكشف عن ضعف هذه المنظمة، مرة
بالتأكيد على أنها ستُوجه ضربة جوية للصرب إن لم يتوقفوا عن انتهاكاتهم،
وفي لقطة ثانية يعترف المسؤول الأممي أنه مجرد «بيانست»، ولا يملك تقديم
ضمانات تُؤكد حماية شعب البوسنة، ثم في اللقطة الثالثة حينما يطالب رؤساءه
بالتدخل لحماية رجال وأطفال البوسنة من عمليات الإبادة نكتشف معه أن جميع
الموظفين بالأمم المتحدة قد تقدموا بإجازة؟! فهل كان ذلك حتى يغسلوا أيديهم
من دماء الشعب البوسني؟!.
روابط الخراب والتعاسة بالفيلم الإيطالي «الروابط» -للمخرج
داني لوكيتي- معالجة سينمائية بديعة للتضحيات الأسرية من أجل إنقاذ الأبناء
من فشل الزواج. هنا رجل وامرأة التقيا، ظنًا أنهما مغرمان ببعضهما، تزوجا،
أنجبا ولدًا وبنتًا اللذين كانا مغرمين بوالدهما المذيع الرقيق، العطوف. ثم
بعد عدة سنوات وأثناء طفولة الأبناء يقع الزوج في غرام زميلته، يعترف
لزوجته، يتشاجران، وينفصلان، فيعيش الزوج حياة سعيدة مع حبيبته.
تحاول الزوجة الانتحار وتنجو، الابنة تتضرر نفسيًا وجسديًا،
لكنها تظل وفية لأمها، ثم بعد فترة يعود الأب بسبب شعور بالذنب، وتأنيب
الضمير؛ لأنه يخشى على ابنته التي مرضت.
نبع القوة بالفيلم، أنه يقدم جميع وجهات النظر، من الأعماق،
في البداية ندين الزوج، ننحاز للمرأة المخدوعة، ثم تدريجيًا، نصبح في وضعية
لا يمكننا معها إدانة أي طرف، بل نتعاطف مع الزوج خصوصًا حين تعترف الابنة
بمشاعرها الدفينة تجاه حبيبته -التي أعجبتها وتمنت أن تكون مثلها - وكيف
أنها لم تكن ترغب أن تكون مثل أمها، لكن شعور الذنب جعلها تخفي الحقيقة.
المخرج يجعلنا بسلالة نتعاطف مع كل شخص، فالجميع كانوا
ضحايا، لكن المفاجأة الأكثر براعة هي إثبات أن هذه التضحية التي قام بها
الزوج لم تكن في صالح أي فرد، حتى الأبناء، فقد خرَّبت حياتهم جميعًا، وهو
ما يكشفه المخرج بوضوح، بقوة، وجرأة غير معتادة في مشهده الأخير.
اليوم تُعلن جوائز الأفلام، جميع الأفلام برأيي نالت حظها
من الجوائز، فأن يجد أي فيلم منصة للعرض، للتفاعل مع الجمهور، هذا في حد
ذاته جائزة كبرى، بل الجائزة الأهم. لن يُسدل الستار اليوم على فعاليات
المهرجان، فغدا سيجد البعض فرصة لمشاهدة ما فاته من أفلام، فالأعمال
الفائزة بجوائز المسابقات المختلفة -وكما هو متبع في فينسيا، وبرلين وكان-
سيتم عرضها غدًا السبت بعد تسعة أيام من البهجة السينمائية التي نثرها
مهرجان "الجونة السينمائي" في دورته الرابعة، فتحية تقدير لفريق العمل
وللمؤسسين. |