هل يصنع الحزن كل هذا الوهج؟ سؤالي يراوغني بينما أقرأ "فريد رمضان..
حكايتنا البحرينية"، الكتاب الذي أرسله لي الصديق الفنان البحريني عمار
زينل، وإن كانت شركة الشحن عذبتنا حتى وصل الكتاب من المنامة إلى يدي في
القاهرة، لكن هذه قصة أخرى نحكيها فيما بعد.
المهم أن الكتاب الصادر حديثًا عن دار
ورق للنشر، بدعم من "نوران بيكتشرز" في 277 صفحة من القطع المتوسط، يرسم ما
يشبه البورتريه المفعم بألوان متعددة للروائي والسيناريست البحريني فريد
رمضان (4 نوفمبر 1961 - 6 نوفمبر 2020)، ما بين نصوص وشهادات ودراسات
كتبها أصدقائه، من البحرين، سوريا، السعودية، قطر، الكويت، الأردن، تونس،
العراق، مصر، إضافة إلى 21 صفحة باللغة الانجليزية كتبها أصدقاء أخرون من
الغرب، هذا غير سيرة رمضان الإبداعية، أما مفتتح فكان مختارًا من كتابته
وسردع بعنوان:"سيرتي الناقصة والآخرون".
وكما أن سؤالي في البداية لا ينتظر إجابة، بقدر ما أنه يؤشر إلى حاجة كامنة
في الأعماق، أقرب إلى التلهف والنزوع نحو نوع من الألفة فى زمن الضجيج
والوحشة، فإن الكتاب الذي استلهم عنوانه من اسم فيلم "حكاية بحرينية"، كتبه
فريد رمضان وأخرجه بسام الذوادي في العام 2006، يصنع الكتاب هذه الحالة
الشجية التي جعلت كل كاتب يشمر عن عواطفه، ويحاولون ألا تفلت نصوصهم من
ضفافها أو بنائها، بينما القاريء سيتورط شاء أم أبى في مظاهر الضعف
الإنساني وتنويعاته التي تطل عبر سطور توزعت بين مشاهد جمالية وبين رؤية
تحليلية لمشوار فريد رمضان الإبداعي، بين الكلمة والصورة.
هنا يسعى هذا الكتاب إلى ترميم الذاكرة بشكل أو بأخر، الذاكرة المحرومة من
الغضب، وهو ما وفره الفيلم بدرجة ما تتسع فيه المخيلة لتشمل جيلًا بأكمله،
حاصروه منذ طفولته وجروه إلى كوارث متوالية، فقدم صورة من صور المجتمع
البحريني في نسق زمني قديم ( من 1967: 1970) من هزيمة وطن بأكمله إثر نكسة
1967وما تبعها من هزائم إنسانية صغيرة متتالية، كما حدث مع بطل الفيلم
العاشق المهزوم، الدائرة تضيق ثم تفتح على أفق مشرع على خيبات، تكشف شيئًا
من نبض بلد وثقافة وسلوك، وقائع ومسارات وأنماط تفكير وعيش، بتكثيف درامي
وجماليات مبسطة، تعبر عن الهم العام الذي تسلل إلى القصص الاجتماعية
الخاصة، فتتلاقى الهزائم بتنويعاتها وتتصاعد حتى يموت جمال عبد الناصر،
فتتناثر الأحلام المبتورة ويعم الوجع الأكبر.
المرة الوحيدة التي إلتقيت فيها فريد رمضان كانت في إحدى دورات مهرجان
الإسكندرية لسينما دول البحر المتوسط، بصحبة الصديق حميد كريمي الذي كان
حينها رئيسًا لنادي سينما البحرين، استعدت معه التفاصيل فيلمه وتوقفت
كثيرًا عند مشهد جنازة عبد الناصر وشخصية الأم التي تعاني من قسوة زوجها،
وتعجز عن تغيير واقعها، ومع ذلك تتماهى مع الأحلام القومية الكبيرة وتحرص
على الاستماع لإذاعة صوت العرب، أتذكر جيدًا كيف رواغتني صورته بادية
الحزن، وصورة "حمد" في الفيلم.
الرابط بينهما ليست في الفروسية المهزومة فقط، بل عبر هذا الحزن الصريح،
ثم أن الحزن في بلدنا أصيل، لا يقف عند مظهريته فقط كحالة من حالات الأسى
الناتجة عن الخسارة، بل إنه مركزي في الثقافة العربية، الحزن راسخ في
المزاج العربي، إنه نفق طويل مظلم لا يفصح عن منتهى، كما قالت زوجته القاصة
البحرينية أمل عبد الوهاب، إنه ذلك الألم الروحي الذي يجعلني أفهم الآن ما
كتبه فريد رمضان وورد في هذا الكتاب:" القليل من الألم ضروري لمعرفة القليل
من الحياة"، هذه المقولة تصوغ فلسفته التي لا تنغمس في السوداوية، إنما في
رأيي أنه حاول من خلالها أن يرسم دربًا للنجاة، ويصنع أفقًا فنيًا ينشد
الجمال والأمل.
إلى حد كبير حاول الكتاب أن ينتهج نفس النظرية، بأن يخرج من المرثيات إلى
فضاء اليقظة والأمل، كخيار ضروري يتوهج في الذاكرة، حسب تعبير قاسم حداد في
شهادته، حتى وإن كان الموت حاضرًا على نحو مستبد في معظم أعمال فريد، كما
يقول الناقد أمين صالح، لكنه عاش حياته بمزيج من المشاعر والموت كان مادة
للتفكير والتأمل، بما ساعده ليدافع بقوة عن أسرار وشغف العيشفي بلده
الصغير، حسبما ورد في شهادة الروائي السوري خالد خليفة، فيبدو كما تصفه د.
بروين حبيب:" يستحيل ألا يُرى الصبي الأسمر ذو العينين الضاحكتين وهو يركض
خفيفًا مثل غزال صغير خرج من أسطورة قديمة".. خرج بسرعة حتى أنه لم يلحق
نشر يومياته مع الناقد حسن حداد، أو العمل على فيديو ترويجي
لروايتيه:"البرزخ" و"السوافح" مع المخرج عمار زينل، وإن ظل كما كتبت
الناقدة منصورة الجمري مواصلًا مشروعه الإبداعي رغم حالته الصحية المزمنة،
وحاضرًا بدعمه وتشجيعه في كل المشاريع الشبابية.
تعددت الشهادات وتعاقبت النصوص لأسماء متنوعة من أجيال مختلفة، حاولت كل
منها الإضاءة على تركة فريد رمضان الثقافية والنضالية، وهو بالطبع إذ يستحق
أكثر من دراسة، فإن الكتاب الذي احتوى هذا الكم من التقدير والوفاء لكاتب
طليعي، مرفق بمقتطفات من أقواله أيضًا، وبطاقات تعريفية مختصرة بأفلامه
الروائية القصيرة والطويلة، إحتوى كذلك على بعض الدراسات التي قدمت قراءة
في رواياته ومسرحيته "درب المصل"، لكنه إفتقد دراسات تقدم قراءة لأفلامه
منها:"زائر" (2003)، "حكاية بحرينية" (2006) والفيلمان من إخراج بسام
الذوادي، والفيلم القصير "بالأمس" (2009) إخراج عمار الكوهجي، "الشجرة
النائمة" إخراج محمد بوعلي.
وهذا لا يعني شيئًا أكثر من رغبة في أن تكون الصورة مكتملة إلى حد كبير،
خصوصًا وأن الكتاب يعكس الكثير من هموم فريد رمضات وهواجسه وتساؤلاته
وانشغالاته، كما أنه يسهّل على القاريء الاطلاع على إنجازاته وتأملها على
مهل، واختزانها في ذاكرة جديدة تتحمل المقاومة وتتسع لفضاء أكبر من الخيال،
ذاكرة تحمي ولا تنجرف وراء مقولته القاسية رغم رهافتها الظاهرية:" لذا وجب
علي أن أموت مع جميع أشيائي.. الذكريات مثلًا". |