كل من يصادق فريد رمضان يدخل مملكة مهرة بنت عون، هكذا دخلت بيت فريد رمضان
وأصبحت أخوه وأخواته أصبحن أخواتي وأمه مهرة أصبحت أمي مهرة.
اشتملتني تلك المملكة الصغيرة مطلع الثمانينيات وكان قد مضى على عملي
صحافياً في اخبار الخليج حوالي سنتين على الاكثر، وكان فريد في ذلك الوقت
قد كتب بضعة نصوص أولى، قصص قصيرة فيها كل ما يدل على شاب مسكون بالقلق
وبحب وطموح وأحلام واحباط وغضب لابد منه. قال لي ان أحد نصوصه عن صديق من
الفريج وهو صديق مشترك بيننا رحل في حادث أليم، جعلت أهل الفريج يكتشفون ان
روائياً يعيش بينهم.
لا شيء استثنائي او خارق في تلك المملكة سوى الحب الذي تغدقه مهرة على
الجميع، ولأن الجميع هنا هم ابناؤها وبناتها يبدو الحب عنواناً طبيعياً
للأمومة، لكن الأمر يحتاج تفسيراً للكيفية التي يصبح فيها الأصدقاء مشمولين
بهذا الحب. ليست هناك أسرار، فالقانون عند الأمهات واضح للغاية: "صديق
إبني.. إبني" وأصدقاء فريد لا يحصون.
بمثل هذا الحب، ستتذكر كل التفاصيل حتى اليوم مهما كانت صغيرة. مثالاً وليس
حصراً: طعم سمك الصافي المقلي والأرز الأبيض المرشوش عليه مخلل الطماطم
ومسحوق الفلفل والثوم في غداء بحريني اعدته مهرة بنت عون بمحبة.
من تلك الحجرة الصغيرة التي يلتم فيها الجميع حول أمي مهرة متحلقاً حول
سفرة غداء او متباسطاً في أحاديث حلوة لا تنتهي مع اقداح الشاي الأحمر،
ستبدأ أولى فصول رحلتي مع من سيغدو صديقاً مقرباً جداً. ثمة بدايات دوماً،
ومن صورة بالأسود والأبيض معلقة على الجدار تظهر فيها فتاة جميلة الملامح
تعقد شعرها في ظفيرة طويلة تنسدل على كتفها تنظر الى البعيد وثغرها يفتر عن
أجمل إبتسامة، يبدأ خيط القصة الأول والأهم. قالت أمي مهرة وهي تنظر بطرف
عينها للصورة وتستدير سريعاً: "الله يرحمها" وقالت الأخوات "أختنا
الكبرى".. ونكس بعضهن الرأس حزناً واستعادت الصغيرة التي تشبهه مرح الجلسة
بسؤال غير دفة الموضوع تماماً.. ارتبكت وندمت على سؤالي عمن تكون، لقد
حسبتها لفرط جمالها ممثلة سينما، قريبة الشبه بكاميليا أو نعيمة عاكف.
هذه الأخت الجميلة التي لم يبق منها سوى صورة على جدار، لحقها أخ جميل
مثلها أسمه محمد، كان يبتسم في كل صوره المغيمة بالظلال، راح محمد وخلف في
قلب أمي مهرة خوفاً عظيماً على فريد وأخوه الصغير محمد (أسمي على محمد
الكبير الذي رحل ورحل هو الآخر شابا يافعاً) واخواته. هكذا رسم الموت أول
وأهم سطر في القصة. فكلما اشتملتنا تلك الغرفة الدافئة بالحب، شعرت بأن ثمة
شبحاً يترصد من في الغرفة ويحوم حولها ويتطلع إلينا من بابها المفتوح على
الحوش بعينين واسعتين مخيفتين يشع منها حقد عظيم لا حد له، حتى ليكاد صوت
الريح ان يفزعني ان هي صفرت من حولنا في ليلة شتوية. كان لغرفته على سطح
البيت نافذة كبيرة على الشارع، وكان صوت الريح في ليالي الشتاء يجعل ناظري
يلمحان ذلك الشبح يحوم حول تلك النافذة، فلا اعود قادرا على ان أميز ما اذا
كانت هي الغيوم التي تتحرك والغبار الذي تثيره الريح فيرسم اشكالاً لناظري
أم أن اللاوعي هو الذي يرسم هذه الصور في مخيلتي.
مع فريد ستصادق الموت وتلاعبه لأنه كان يترصده طيلة حياته. ان سبحنا في
البحر قليلاً سرعان ما سنحمله الى قسم الطوارئ بالمستشفى. وان سهرنا عند
صديق، سننتهي من جديد في المستشفى وسط انابيب المغذيات والإبر والبطانيات
والمختبرات. وإن أكل عشاءً فيه ما سيهيج نوبة السكلر دون ان يعرف، ستكون هي
القصة نفسها. هناك على أسرة المستشفيات، لن ينسى وسط غابة انابيب البلاستيك
التي تنقل الادوية والمحاليل الى جسمه النحيل ان يقول للمتحلقين حول سريره
"سامحونا إختربت طلعتنا".
في تلك الغرفة الصغيرة أعلى سطح البيت، كنا نقضي جل وقتنا نتناقش ونهذي
ونضحك ويطلعني على آخر نصوصه أو نتحدث عن آخر فيلم سينمائي شاهدته او شاهده
هو رفقة اصدقاء آخرين في نشاط نادي سينما صغير بينهم. كلما كتب نصاً جديداً
اطلعني عليه وذات يوم دار بيننا حوار أقرب للهذيان عندما بادرته بملاحظة
ساخرة قليلاً عن تكرار مشاهد معينة في نصوصه مثل الاشخاص الذين يتقيأون أو
الروائح الكريهة او حتى تشبيه خروج الناس من مكان ما بأن المكان يتقيأهم.
ضحك ضحكته المكتومة المرسلة على شكل أنات متلاحقة، صفن قليلا وقال: "هذه
اجوائي.. أسرة المستشفيات والمرض.. نوبات السكلر المتكررة..
المختبرات". وجمت قليلا رغم الابتسامة التي طعم بها جوابه وتلبسني شعور
بالذنب لوهلة إذ اخذته ملاحظتي الى وجعه المقيم، لكنه غير اتجاه الحديث الى
مكان آخر حين تحدث عن مدارس الكتابة الأدبية وألقى بسؤال في وجهي: "أليست
هذه جزءاً من حياتنا.. فلماذا لا تظهر في قصصنا؟". ألحق عبارته تلك بتأكيد
جاد "هذه هي الواقعية". أراحني جوابه لأنه ازال مني مشاعر الذنب تلك ومال
مزاجي للمشاكسة فقلت له: "أظن هذه مدرسة الواقعية الفجة". ضحكنا معاً وقهقه
طويلاً للملاحظة المشاكسة. وفيما سيلي من الايام، كان لدينا فاصل كوميدي
متكرر كنت أتصنع فيه التأفف وأسأله مداعباً كلما سلمني نصاً او قصة جديدة
له: "هل فيها أناس يتقيأون أو مدرسة تتقيأ التلاميذ؟". يضحك مثل طفل صغير
ويوالي ضحكته المخنوقة على شكل أنات متتالية يختمها بتطمين: "لا حبيبي ما
فيها.. بتعجبك" ويواصل نوبة الضحك حتى يقطعها بسؤال مباغت: "متى ستهديني
روايتك.. ماذا تنتظر؟".
[المرض والكتابة]
كان فريد يخوض معركة مفتوحة مع المرض، يطرحه أحيانا ويقعده في المستشفى او
البيت ينهض منها ويواصل حياته واحلامه وشغفه باندفاع يكبر كل يوم ومع كل
جولة جديدة مع المرض. ومن القصص والرواية الى السينما التي بدأت من شغف
المشاهدة والإطلاع وصولا الى تجربة أولى بكاميرا فيديو أنجز فيها فيلماً
قصيراً في الثمانينيات مع بعض من رفاقه الأقربين، فيها نفس ملامح نصوصه
الأولى: اللهاث والرغبة في الخروج عن المألوف.
الآن فحسب عرفنا أنه قدر لمعركة الإبداع والموت هذه ان تستمر اكثر من
ثلاثين عاماً، انطلقت فيها خيول فريد رمضان في ساحة الرواية ولعبت فيها
ببراعة. لقد كان من الطبيعي أن يأخذ فريد شغفه الى السينما، فهو لم يفعل
سوى أن غير الوسيلة، فالأفلام ليست إلا روايات بصرية في المقام الأول.
من نصوص أولى ممهورة بالقلق الوجودي والأمل كتب بعضها في غرف المستشفيات،
الى روايات أخذت تتوالى وتثري ذائقتنا ومكتبتنا، كان فريد يوالي بدأب
ومثابرة طريقة نحو انجازاته الأهم في الرواية المكتوبة والبصرية في فواصل
ما بين المرض والعودة من جديد للحياة. وفي كل عودة، كان يبدو اكثر تصميماً
وعزماً على تقديم منجز أفضل من سابقه.
عندما قرأت روايته "السوافح – ماء النعيم"، شعرت بأني اقرأ لفريد جديد،
شعور جميل أن ترقب صديقك في أطواره المستجدة متألقاً في إبداعه يجتاز
المراحل بسلاسة وجمال. هكذا ومع كل عمل جديد لفريد، كنت أشعر انه انتصر
مجدداً في معركته فيصبح فرحي مضاعفاً.
لقد قرأت "السوافح – ماء النعيم" بشعف مستمتعاً بكل كلمة وفقرة على مهل في
يوم وليلة. لم انتظر طويلاً لكي اهاتفه وأهنئه بفرح غامر على هذا العمل
الجميل. هنأته وشكرني "مشكور حبيبي" وسرعان ما ضحك مثل طفل ضحكته المكتومة
التي يرسلها على شك أنات متقطعة مستعيداً ملاحظاتي المشاكسة القديمة تلك
لنغرق نحن الاثنان في الضحك. سيتكرر الأمر مع كل عمل وسيصبح الفاصل
الكوميدي ذاك فاصل متكرر مع كل عمل جديد.
مع روايته "المحيط الإنجليزي"، بلغ فريد ذروة إبداعه في مسيرته الروائية،
ولكل من يعرفه، فإن تلك الذروة لم تكن سوى بداية أخرى لنتاجات اكثر تطوراً
كنا نعرف يقيناً أن فريد يخطط لها. لكن يبدو ان انتصاراته على المرض
أسكرتنا وجعلتنا ننسى ان الجسد الناحل قد أنهكه المرض كثيراً وان الموت
الذي نهرب منه ليس سوى موعد مؤجل.
كان يحثني دوما على الشروع في الكتابة وان لا أتأخر وان اتخفف من قيود
الصحافة واستنزافها لكي اتفرغ قليلا لكتابة القصص والروايات. في حفل توقيع
مجموعة "كردم" في مشق للفنون في ديسمبر 2018، كان هناك مع الاصدقاء
والصديقات الذين حضروا. كنت ألمس فرحاً غير اعتيادي في وجهه وابتسامته وهو
يضع امامي الكتاب لتوقيعه.. "مبروك حبيبي.. وأخيراً" قالها وكررها غير مرة
مستبشراً.
مؤلم هذا الرحيل يا فريد.. مؤلم ان يباغتنا رحيلك وانت في ذروة انتصاراتك
على المرض.. لقد اسكرتنا انتصاراتك ونسينا موعدك المؤجل هذا... مؤلم اكثر
ان لا أودعك ولا امنحك صلاة أخيرة.
|