عن عمر 59 عاما، ترجّل عن صهوة الحياة والكتابة، يوم الجمعة الماضي (6
نوفمبر)، الرّوائي البحريني، فريد رمضان. وإنْ هي إلا لحظات على وفاته
الموجعة، حتى ضجّت صفحات منصّات التواصل بعبارة: "وداعا فريد رمضان". ولعلي
لن أجد أخفّ من هذه العبارة لتوديعي له بها؛ فهي أرحم بنفسيتي التي هزّها
رحيله، وأوجعها أيّما وجع.
على جدار صفحتها، كتبت الكاتبة الكويتية أفراح الهندال، ملخصة، في كلمات
زهيدة، حزمة من صفاته وإبداعه: "في اللقاءات هادئ متأمل.. قليل الكلام. وفي
الروايات ترك الموت يستفحل بالتفاصيل. كأنه كان يجمعنا لهذا الوداع الحزين.
تعازيّ لكل الأحبة والأصدقاء. وداعاً
فريد
رمضان".
كانت لفريد الذي جمعتني به علاقة طويلة نكهة خاصة وصوت سردي يتميز به.
وشكّلت البيئة والتاريخ والإثنوغرافية العُمانية فضاءً وخلفية لعدد من
رواياته، ومنها آخر رواياته "المحيط الإنجليزي" (2018) التي تدور أحداثها
في مدينة مطرح السّاحلية العريقة. عالج فيها، بطريقة استقصائية، موضوع
الهجرة. وهو الموضوع ذاته (الهويات الثقافية) الذي تناوله في أولى رواياته
"التنور" (1994) التي أعطاها عنوانا ثانيا يحمل دلالةً على ما أسلفت حول
استلهامه من أماكن السلطنة وأجوائها، هو "غيمة لباب البحرين". وكذلك فعل في
"البرزخ" (2000). والحق أن موضوع تنوع الهويات والمرجعيات الثقافية في
البحرين يثير إشكالات عديدة في بلد يطبع التنوع هوياته الثقافية.
وكانت قد حضرت، في مجموعته القصصية الأولى "البياض" (1984)، مؤشّرات مبدع
متوله بالتجريب ومزاولة أساليب وطرائق جديدة في السرد، حيث كل اقتراب بنيوي
من تجربته السردية، قصصيا وروائيا، سيكتشف أن لعبة الدوال والتجريب اللغوي
تشكل مسندا أساسيا في شكل إبداعه السردي. وبالنسبة للمواضيع ومواد الحكي،
كان البحث في الهويات والمشترك الإنساني ديدن المشروع السردي لفريد رمضان،
ففي لقاء أجراه معه نادر كاظم وفهد حسين، يجيب فريد ردا على أحد الأسئلة:
"ربما لأنني أبحث عن ذاكرة مشتركة مع الآخر، ذاكرة تؤسّس لفهم أوسع، اشتباك
أعمق، وانزياح نحو "الأنا" في ذاتها وذوبانها. مذهبها، ودينها. إيمانها، في
حقها وحقوقها. فيما لها وما عليها".
كان فريد يدعو إلى فهم الآخر فهماً "حضاريا"، فلم يعد معقولا بالنسبة إليه
أن نواصل "التغنّي" بالقبيلة وبأصالتنا ونقائنا العِرقي، بينما ليس هناك أي
حقّ للإنسان العربي في مواطنة كاملة؛ وكأننا خارج التاريخ، ونحنُ في القرن
الحادي والعشرين، والعالمُ صار فعلا قريةً صغيرة.
كما كان للسينما والدراما والصحافة الثقافية والمسرح نصيب من اهتمامات فريد
رمضان، حيث كتب حوالي 16 فيلماً روائياً. ومن أهم مسرحياته "درب المصل"
التي حصلت على الجائزة الأولى في مسابقة التأليف المسرحي لوزارة الإعلام في
البحرين (2005). وكتب المسلسل الإذاعي الدرامي (الغلام القتيل.. طرفة بن
العبد)، كما ساهم في تحرير مجلة "كلمات" الثقافية الرائدة، إلى جانب إشرافه
على الصفحات الثقافية في صحف بحرينية، مثل صحيفة الأيام التي كنت، في
التسعينيات، أرسل إليه بعض المساهمات، لينشرها.
أحتفظ برسالة طويلة كان قد بعث بها إليّ الراحل، تدلّ على عمق ارتباطه
روحياً بالتراب العماني، وشغَفه بكل شبر فيه، فكان طبيعيا أن تكون عُمان
مصدرَ إلهام بالنسبة إليه لإبداع مزيد من الرّوايات. ومما في الرسالة:
"أدمنتُ عُمان منذ الثمانينيات، أبهرتني، وربما أقول سحرتني. وظللتُ بين
مسقط ومطرح والمدن والقرى المحيطة، في رحلات اكتشاف ومتعة. وجاءت رواية
"البرزخ" بعد "التنور" بشكل طبيعي. أما في "المحيط" فكانت نتيجة السفر
والبحث واكتشاف الأماكن والوثائق والمخطوطات والمقابلات والمتاحف والبيوتات
ومكتبة لندن ومكتبة "سواس" في جامعة لندن، وزيارة الأصدقاء الشّعراء
والباحثين في عُمان، وإمدادهم لي بالمعلومات الشفهية والمطبوعة والمترجمة".
جمعتني بفريد علاقة صداقة منذ التسعينيات، حين كنت أمكث في المنامة خلال
الإجازات الجامعية التي أقضيها هناك، قادما من المغرب، وزرته في بيته فيها
مرات. بل إني، في كل زيارة للبحرين، وتحديدا في ضيافة صديقي المحامي علي
الجبل، كنت أتصل بفريد بالضرورة وألتقيه إن كان موجودا هناك.. حرصٌ لم يكن
ليقطعه سوى الموت، وكذلك كان.
اتّصف الراحل بأخلاق رفيعة ودماثة ولطف وبساطة عُرف بها البحرينيون، وكانت
لدي أبرز مثال. رحم الله فريد رمضان بواسع رحمته، وألهم عائلته الرائعة
الصبر والسلوان. |