تكريم وحيد حامد «1»
د. جابر عصفور
أعتقد أن تكريم وحيد
حامد فى مهرجان
القاهرة السينمائى الدولى فى دورته الثانية
والأربعين، هو تكريم لكل المُبدعين الأُصَلاء الذين يعيشون على أرض النيل ،
يأخذون الخصب من طميه، ويستمدون الصيرورة وبذور الإبداع من فيضانه كل عام.
و وحيد
حامد كاتب
من أصل قروى، وُلِد فى إحدى القُرى المصرية التى أنجبت لنا سليمان
فياض ،
و أبو
المعاطى أبو النجا ،
و محمد
عفيفى مطر وعشرات
غيرهم فى تتابع أجيال الكتابة المصرية منذ مطالع القرن العشرين.
ولقد بدأ وحيد
حامد الكتابة
مع أقرانه من جيل الستينيات الذين أخذوا يرحلون واحدًا تلو الآخر، ولكن
إرادة الله, سبحانه وتعالى, قد شاءت أن تمد فى عُمر وحيد
حامد وبقيةٍ
قليلةٍ من أبناء جيله لنشهد على الإنجازات العظيمة والاستثنائية التى صنعها
جيل الستينيات فى الإبداع المصرى. ولا غرابة فى ذلك، فأبناء هذا الجيل قد
تفتحت عيونهم على شعارات الثورة المصرية فى 23 يوليو 1952 المُطالِبة
بالحرية للوطن والعدل الاجتماعى لكل المواطنين، والديمقراطية التى تجعل من
ابن أصغر فلاح مصرى موازيا لابن أكبر ثرى.
وأنا أتشرف بأننى من الجيل الذى ينتمى إليه وحيد
حامد ،
بل بيننا قرابة خاصة تميزنا نحن الاثنين معًا فكلانا مولود فى سنة واحدة هى
سنة 1944، أنا فى المحلة
الكبرى ،
وهو فى قرية بنى قريش فى مركز منيا القمح بمحافظة الشرقية. وكلانا تخرَّج
فى السنة نفسها فى كلية الآداب، أعنى سنة 1965. أما هو فقد مضى بعد تخرجه
من قسم الاجتماع فى طريق كتابة القصة القصيرة التى كانت (موضة) الكتابة
السائدة والمائزة لأبناء هذا الجيل على السواء. وأما أنا فمضيتُ فى طريق
البحث العلمى الذى جذبنى إليه تأثير طه حسين، ولم أتخلَّ عنه إلى اليوم.
وأذكرُ أننى كنتُ جالسًا مع وحيد
حامد فى
مطعم أمام البوابة الرئيسية لمبنى التليفزيون
المصرى ،
وشرق بنا الحديث وغرب، وكنتُ أعلم أن وحيد
حامد فعل
ما فعله أغلب كتّاب الستينيات من انجذاب إلى القصة القصيرة التى قادت بعضهم
إلى الرواية. وقد نشر بالفعل مجموعة قصصية يتيمة عنوانها: القمر يقتل
عاشقه، ولكنها لم تلقَ النجاح الذى تمناه أو الذى كان يتناسب مع طموحه.
وعندما وصلنا إلى خفوت صوت تلك المجموعة وعدم تأثيرها، أخبرنى وحيد
حامد بالقصة
التالية، وهى أنه كان يجلس مع يوسف إدريس فى هذا المطعم، وأنه ألح عليه فى
أن يُبدى رأيه فى مجموعته القصصية الأولى، وأن يساعده على اتخاذ قرار
بالاستمرار أو التوقف، فأخبره يوسف إدريس قائلًا: يا وحيد إن مستقبلك فى
هذا المبنى الذى تراه وراءكَ.
وكان يوسف إدريس يقصد بذلك مبنى التليفزيون
المصرى ،
كما كان يقصد إلى أن موهبة وحيد
حامد لن
تُبدع ما تحلم به فى مجال القصة القصيرة كبهاء طاهر، أو صنع الله إبراهيم،
أو عبدالحكيم قاسم، أو سليمان
فياض ،
أو غيرهم من أبناء هذا الجيل، وإنما ستُبدع فى مجال آخر لن يصل إلى الناس
إلا من خلال شاشة التليفزيون
المصرى .
وكان يعنى بذلك أن مستقبل وحيد
حامد ليس
فى كتابة القصة القصيرة كما فعل جيل الستينيات، وإنما فى كتابة المسلسلات
والتمثيليات التى تجذب الانتباه بطابعها البصرى، وحيوية حواراتها، ودرامية
مواقفها.
وكانت هذه الكلمات ذات تأثيرٍ بالغ الأثر فى وعى وحيد
حامد الذى
قرر من يومها أن يجرب حظه فى الكتابة للتليفزيون مثلما فعل أسامة أنور
عكاشة، وسليمــان فيـــاض، ومحفــوظ عبد الرحمن، وإذا به ينجح تدريجيًّا من
خلال مجموعة أعماله الأولى التى كتبها والتى لفتت الأنظار فى الدراما
التليفزيونية التى كان من أشهرها: البشاير، ثم مسلسل العائلة الذى تميز
بجرأة استثنائية فى مهاجمة الإرهاب الدينى وزعمائه، وربما كانت تلك هى
المرة الأولى التى يُهاجِم فيها مسلسل، فى التليفزيون
المصرى ،
الإرهابَ الدينى والتمسح فى الدين الذى غرر بالكثير من الشبان، وهو الأمر
نفسه الذى فعله أسامة أنور عكاشة فى جزءٍ مواز من أجزاء ليالى الحلمية
الأخيرة.
وكان لنجاح البشاير والعائلة ما أكد فى وجدان وحيد
حامد صحة
حدس يوسف إدريس، وقدرته على تحديد اتجاه الموهبة السردية فى إبداع وحيد
حامد ،
ومن ثم توالت المسلسلات إلى أن وصلت إلى ذروتها فى ثلاثية الجماعة التى
شاهدنا منها الجُزءين الأول والثانى، وما زلنا بانتظار الجزء الثالث الذى
لا بد أن تكتمل به الدائرة الدرامية فى دورتها الحتمية.
وقد كشفت هذه المسلسلات عن القدرات الدرامية ل وحيد
حامد ،
كما كشفت أيضًا عن شجاعته ووطنيته فى آن، فهو مصرى أصيل ينتمى إلى تراب هذا
الوطن، ويدافع عن أُناسه الفقراء الذين نشأ بينهم فى القرية، وعاش معهم
طالبًا فى كلية الآداب، وفى قِسم الاجتماع على وجه التحديد.
ولعل دراسته الاجتماعية ساعدته فى اختيار النماذج الاجتماعية الدالة،
وإجادة التحليل الطبقى والاجتماعى لها، وكلاهما مدخل للبُعد السياسى الذى
أخذ يظهر لديه منذ وقت مُبكِّر. وهكذا سرعان ما انتقل وحيد
حامد من
المسلسل التليفزيونى إلى السينما، وتتابعت أفلامه من طائر الليل الحزين إلى
فتوات بولاق إلى البرىء إلى أرزاق يا دنيا إلى الراقصة والسياسى.
وبدأت رؤية عالم وحيد
حامد الإبداعية
تتشكل فيما يشبه المربع بزواياه الأربع حيث تتقابل وتتجاور وتتفاعل:
الأبعاد السياسية، والاجتماعية، والدينية، والإنسانية على السواء.
أما الأبعاد السياسية فهى واضحة فى أعمال مؤثرة مثل: اللعب مع الكبار
والإرهاب والكباب وغيرهما، على نحوٍ بارز، وقد كان شأن وحيد
حامد فى
ذلك شأن أبناء جيله الذين ما كاد يكتمل وعيهم السياسى ويتنفسون الصعداء من
أزمة المعتقلات الناصرية الرهيبة التى جمعت أنبه أبناء اليسار المصرى فى
الفترة مــن 59 إلــى 64 حتى داهمتهـم كارثـة العـام السابع والستيــن التى
مـا كـادوا يفيقــون منهــا حتى توفــى عبد الناصر، فجاء بعده السادات
ليُغرق البلد فى انفتاح سداح مداح، وهو الأمر الذى أبرز المشكلة الاجتماعية
للمجتمع المصرى على السطح، وجعل الفقراء أشد فقرًا والأغنياء أكثر غنى.
(وللحديث بقية) |