وحيد حامد | أحلام الفتى الكاتب وكوابيس الواقع المصري |
حاتم منصور
حاتم منصور
تلعب الصدف والأقدار دورًا محوريًا في حياة الكبار،
والراحل وحيد حامد لم يكن استثناء من هذه القاعدة، فقد حاول أولًا أن يبدأ
مسيرته بكتابة القصة القصيرة، قبل أن يغير رأيه ويتجه لكتابة الدراما بفضل
نصيحة من الأديب يوسف إدريس.
هل كان سينجح في الأدب لو تجاهل هذه النصيحة؟ لن نعرف إجابة
مؤكدة لهذا السؤال. لكن هناك حقيقة بسيطة يصعب إنكارها، وهي أن عدد مشاهدي
أي فيلم شهير من تأليفه مثل (الغول – البريء – الإرهاب والكباب – المنسي –
طيور الظلام) يفوق بمراحل عدد قراء أنجح قصة قصيرة في تاريخ الأدب
العربي.
تفسير هذا النجاح الجماهيري ووزن وحيد
حامد الاستثنائي
كمؤلف مصري يحتاج ربما للعودة قليلًا إلى الوراء.. تحديدًا إلى أواخر
الستينيات.
الهزيمة المريرة أمام إسرائيل عام 1967 تركت جروحًا لا
تندمل في ملايين الشباب المصري وقتها. لكن على عكس آلاف وآلاف غيره من هذا
الجيل المهزوم، لم يغادر وحيد حامد الأحلام والوعود الناصرية، ويهاجر إلى
أحضان التيارات الإسلامي، بل هجر كليهما لمزيد من المراجعات والحس النقدي.
أعماله الإذاعية الأولى، ومنها مسلسل قانون ساكسونيا الذي
تحول لاحقًا إلى فيلم الغول، والإنسان يعيش مرة واحدة الذي تحول لاحقا الى
فيلم بنفس الإسم، تعكس بوضوح هذا الطابع النقدي المبكر في مؤلفاته.
في قانون ساكسونيا قصة عن الطبقية وتأثير غياب العدالة،
وفي الإنسان يعيش مرة واحدة قصة لها أبعادها الفلسفية عن شاب مهزوم يائس
وفاقد الرغبة والهوية. وفي الاثنين يمكن أن نلمح الخيوط الدرامية التي ستظل
ملازمة لباقي مشوار وحيد حامد.
خيوط مثل:
التشابك بين الحالة المزاجية للمواطن المصري ومجريات
السياسة والسلطة حوله.
الصدام الوارد بين طبقات المجتمع بسبب غياب العدالة.
نقد الوعي العام المصري السائد بكل قناعاته وأفكاره، ومنها
الأفكار الدينية التي هيمنت تمامًا على هذا الوعي بحلول الثمانينيات
والتسعينيات.
تجاهل نظريات المؤامرة الشعبوية المنتشرة وتحميل الغرب كل
أسباب فشلنا، والتركيز على تفسير هذا الفشل من منطلق سلوكياتنا.
الضرر والصدام الذي يمكن أن يصنعه مواطنون يائسون ضد دولة
أو منظومة غير عادلة، تتجاهلهم وتسحقهم.
العقد الاجتماعي الفاسد الذي يمكن أن يخلقه مجتمع مريض
بالأفكار الرجعية، على ضوء غياب دور الدولة.
إذا تجاوزنا استثناءات محدودة جدًا في مشواره، يمكنك
تقريبًا أن تربط كل عمل كتبه وحيد حامد، بنقطة أو أكثر مما سبق، ولهذا يمكن
القول أنه صاحب مشروع فكري وفني مترابط.
محامي السلطة الاستغلالي الذكي الذي صعد سلم المجد بالفساد
والرشوة في طيور الظلام، هو امتداد للعبيط الهلفوت الذي استغل غياب مجرم في
منطقته العشوائية، ليطرح نفسه كبديل.
الإرهابي في دم الغزال الذي ارتمى في أحضان الجماعات
الارهابية، في محاولة لإضافة معنى ومغزى لحياته الفاشلة، هو امتداد للمحامي
الفقير الذي قرر الانضمام لنفس الجماعات في طيور الظلام، ليصعد سلم النجاح،
ويتذوق طعم الثراء والتفوق بعد سنوات من الإحباطات المادية والمهنية.
المنسي عامل السكة الحديد، الذي اضطر لممارسة العنف في
محاولة لإنقاذ امرأة استنجدت به، هو امتداد لعادل الذي يأس من القانون،
ولجأ للساطور ليحقق العدالة بيده في الغول.
حسن البهلول العاطل المحبط في اللعب مع الكبار، الذي يأس من
ذاته ويحاول أن يغير أي شيء في حياة الآخرين للأفضل، هو امتداد لهاني
اليائس بطل فيلم الإنسان يعيش مرة واحدة الذي استعاد حبه للحياة وللمحاولة،
عندما رأى إحباطات ومآسي آخرين.
المصور الفقير في اضحك الصورة تطلع حلوة، الذي يحاول انتشال
ابنته من آلام تجربة حب فشلت بسبب الطبقية، هو امتداد للمدرس في آخر الرجال
المحترمين الذي يبحث عن طفلة ضاعت منه.
عامل النظافة الفقير في قط وفار الذي اضطر للتصادم مع وزير
الداخلية، هو امتداد للعسكري المجند في الإرهاب والكباب الذي اختار
المشاركة في أى شيء وكل شيء يمكن أن يعكنن على رئيسه لواء الشرطة وأولاده،
على سبيل الانتقام من تعمدهم إذلاله.
والوزير السابق الذي تجاهله الكبار بمجرد خروجه من الخدمة،
فقرر أن يساعد المنسي في تنفيذ خطته ويناوله الولاعة، هو امتداد لنفس
العسكري السابق الراغب في عكننة الأجواء بأي شكل، لكنه النموذج الانتقامي
القادم من طبقة الكبار نفسها هذه المرة!
يمكنك بقليل من التركيز أن تكمل المسار السابق إلى مئات
السطور ونقاط الترابط، التي تذكرنا بشخصيات كتبها لها مصداقيتها وثقلها،
وتُحركها دوافع مفهومة حتى لو لم نتفق معها.
يميل وحيد حامد دومًا إلى الوضوح في معالجاته. الفاسد في
أعماله قد يكون وزيرًا أو عضوًا في الحزب الحاكم (طيور الظلام – معالي
الوزير). والإرهابي قد ينتمي مباشرة إلى تنظيم (طيور الظلام – دم الغزال).
والمواطن الشريف هو أب بسيط، لا يطلب أكثر من دخل يكفي تعليم أولاده والحد
الأدنى من المعاملة الآدمية (الإرهاب والكباب – طيور الظلام). والمجتمع
العاجز المحبط، فاشل وعاجز في أكثر أنشطة الحياة إحراجًا عند الفشل، وهو
ممارسة الجنس (النوم في العسل).
هذا الوضوح قد يعتبره البعض مباشرة معيوبة فنيًا، لكنه في
الحقيقة أهم ما ميز مشوار وحيد حامد، وجعل منه أنجح سيناريست مصري في آخر
40 سنة من الناحية الجماهيرية؛ السهولة وعدم التعالي على المتفرج، أو
الاعتماد على لغة سينمائية غير مفهومة وشطحات، تحت ادعاء العمق.
وباستثناء بعض أعماله السينمائية الأولى، يصعب أن تجد في
باقي مشواره جمل حوارية فلسفية محشورة على لسان الشخصيات، وغير منسجمة مع
مستواها الفكري والتعليمي.
يمكنك قراءة الفقرتين السابقتين مرة ثانية، وأنت تقارن ما
قدمه وحيد حامد بما قدمه يوسف شاهين مثلًا منذ الثمانينيات، وستجد الفرق
واضحًا. وحيد حامد نجح جماهيريًا وترك علامات سينمائية لا يمل منها ملايين
حتى اليوم بفضل بساطتها وصدقها.
وشاهين لم يصل للجمهور، ونجح فقط في عالم الندوات وأساطير
النقاد، بفضل سينما سخيفة تدعي العمق، وتستقطب شريحة لا تقل تصنعًا
وافتعالًا عنه، تستخدم هذه السينما كشهادة إثبات على امتلاكها حسًا فنيًا
رفيعًا، ومختلفًا عن الباقين!
طبقًا لحديث تليفزيوني لوحيد حامد، فنقطة الميلاد جماهيريًا
تحققت بفضل مسلسله أحلام الفتى الطائر، الذي قام ببطولته عادل إمام أواخر
السبعينات.
والمُرجح أنه أحب طعم هذا النجاح الجماهيري، ولم يرض عنه
بديلًا حتى نهاية مشواره، وهذا من حسن حظنا وحظه بالتأكيد.
موسيقى ولقطات من مسلسل أحلام الفتى الطائر
تظل العلامة الأهم في مشوار وحيد حامد هي أنه قدم في
الثمانينيات والتسعينيات، دروسًا وقراءات سياسية واجتماعية، لم نعرف قيمتها
إلا في وقت متأخر للأسف، وبعد تجارب عملية مريرة وسط طوفان الربيع العربي.
دروسًا مثل:
التيارات الإسلامية طاعون حقيقي وليست فزاعة وهمية تستخدمها
الحكومات والأنظمة العربية.
عند درجة معينة من تجاهل السلطة للواقع المشحون، سيميل
الملايين إلى أي إجراء غاضب من شأنه إذلال وإهانة هذه السلطة.
البديل الوحيد صاحب الشعبية والقبول للسلطة المعيوبة التي
نعرفها، على أرض الواقع، هو السلطة الفاشية الدينية، وهي أسوأ بمراحل.
لم يكن غريبًا على ضوء ما سبق، أن تتحول مشاهد وجمل من فيلم
مثل طيور الظلام يعود تاريخ عرضه في 1995 إلى فيديوهات ومنشورات تتصدر
السوشال ميديا في 2011 حتى اليوم. وأن يصبح وحيد حامد المولود في
الأربعينيات، ضيفًا دائمًا في عالم فيسبوك وتويتر، الذي يخص جيل أحفاده.
ولم يكن غريبًا أيضًا أن يظهر بعد خبر وفاته المحزن،
منشورات تهاجمه من فئتين يتسابقان دومًا إلى صدارة أي شيء مرتبط بالضحالة.
فئة الإسلامجية وطيور الظلام التي أفسدت الحياة على
مجتمعاتنا، ولا ترى في وحيد حامد حتى اليوم إلا مفتريا يشوههم في أعماله،
رغم أنه في الحقيقة لم يقدم إلا نبذة بسيطة عن عيوبهم وتشوهاتهم الحقيقية،
وخطورة توليهم السلطة. وهو ما يمكنك أن تجد له مثالًا بسيطًا في منشور
كهذا:
وفئة اليسار المصري، التوأم المتماثل للفئة السابقة، الذي
توقف نموه العقلي وتجمد به الزمن عند 2011، ولا يزال تعريفه للشرف والنبل
في البشر، مرتبط بدرجة مساندتهم للثورات. أما تعريفه للخسة والنذالة فهو
مرتبط بدرجة مساندتهم لبقاء الدولة، ورفضهم لتكرار هذه التجارب العبثية.
وهو ما يمكنك أن تجد له مثالًا بسيطًا في منشور كهذا:
المثالان السابقان، وهما نقطة في بحر سخافات مماثلة انتشرت
على السوشال ميديا من الفئتين بعد وفاة وحيد حامد دافع اضافي لشكر واحترام
الراحل، وشهادة اثبات أنه حتى عند وفاته كان قادرًا أن يكشف لنا الكثير
والكثير في مجتمعاتنا، وأن يمنحنا قراءة أكثر وضوحًا وأقل ضبابية، لواقع
سياسي واجتماعي مأزوم، وأيدلوجيات لا يمكن بأي حال أن تؤسس لمستقبل أفضل،
أو أن تساهم في بناء أوطان. |