مسلسل «التاج» في موسمه الرابع
يشهد صعود أشهر سيدتين في تاريخ بريطانيا المعاصر
حسام عاصي
لوس أنجليس – «القدس العربي»: بعد أن سبر الأحداث التاريخية
التي بلورت النظام البريطاني الملكي المعاصر، منذ اعتلاء الملكة اليزابيث
الثانية العرش عام 1952 حتى السبعينيات في ثلاث مواسم، يصل مسلسل «التاج»
في موسمه الرابع – الذي ينطلق هذا الأسبوع على شبكة «نتفليكس» – إلى حقبة
محورية في تاريخ المملكة وهي الثمانينيات، التي شهدت صعود أشهر سيدتين في
تاريخ بريطانيا المعاصر، وهما الأميرة ديانا سبنسر، التي تتزوج من ولي
العهد تشارلز عام 1981، ورئيسة الوزراء مارغريت تاتشر، التي تفوز
بالانتخابات عام 1979 وتبقى في منصبها حتى عام 1990.
لهذا يعتبر الموسم الرابع الأكثر ترقبا. لكن انطلاق أي موسم
من مسلسل «التاج» يعتبر حدثا بحد ذاته، وذلك بفضل الشهرة العالمية التي
اكتسبها منذ عرض موسمه الأول عام 2016 حيث قدم الأحداث التي قادت الأميرة
إليزابيث ابنة الـ 26 الى اعتلاء العرش بعد وفاة والدها الملك جورج السادس
عام 1952.
سيرة حياة الملكة
من المفارقات أن صناعة الأفلام والتلفزيون أُصيبا بالصدمة
عام 2015 عندما ورد في الإعلام أن «نتلفيكس» قررت استثمار ما يقارب 150
مليون دولار في إنتاج الموسم الأول لمسلسل تلفزيوني جديد يرصد سيرة حياة
الملكة البريطانية، اليزابيث الثانية وهو «التاج» ليصبح أكثر المسلسلات
التلفزيونية تكلفة في تاريخ صناعة التلفزيون بعد مسلسل «صراع العروش».
لكن تلك الصدمة تلاشت بعد إطلاق نتفليكس المسلسل عام 2016
إذ تصدر قائمة أكثر الأعمال السينمائية والتلفزيونية مشاهدة على شبكتها،
فضلا عن نيله العديد من الجوائز القيمة، مثل الإيمي والغولدن غلوب
والبافتا. وكرر تلك الإنجازات في موسمَيه اللاحقين الثاني والثالث، ليصبح
أحد أكثر مسلسلات نتفليكس نجاحا.
نجاح المسلسل عُزي لمؤلفه وصانعه، كاتب السيناريوهات الشهير بيتر مورغان،
المعروف بكتابة سيناريوهات أعمال سينمائية وتلفزيونية بارزة، مثل «الملكة»
و«فروست نيكسون» و«آخر ملوك سكتلند» و»بوهيميان رابسودي».
وفي حديث معه الأسبوع الماضي عبر خدمة «زوم» كشف لي أن السر وراء نجاح أي
عمل سردي درامي هو الصراع. «دائما أحاول إيجاد صراع غير اعتيادي أو متوقع.
فعندما أتذكر حدثاً تاريخياً أو لحظة ما، أتساءل كيف بدى الأمر في
الكواليس. ومن ثم عليك أن تقوم بدراسة وبحث الحدث لمدة ما. وبعدها عليك أن
تنسى البحث وتركز على جعل النص شريطاً دراميا.»
فعلًا «التاج» يسبر صراعات الملكة إليزابيث مع أفراد
عائلتها ورؤساء حكوماتها، منذ اعتلائها العرش في بداية الخمسينيات حتى حقبة
الثمانينيات التي شهدت أكثر الصراعات حدة وتأثيراً على مؤسسة التاج
البريطاني وأوقعتها في أزمات سياسية واجتماعية لا سابق لها، مجبرة إياها
على تغيير نهجها وبروتوكولاتها الرسمية من أجل إخمادها.
يشتعل الصراع الأول بين الملكة ورئيسة حكومتها تاتشر عندما
ترفض الأخيرة التوقيع على وثيقة الكومنولث لمقاطعة نظام «الأبارتهايد»
الجنوب أفريقي العنصري، التي بادرت بها ملكتها، ما يضع الملكة في أزمة
دستورية ودولية. فمن جهة، أُحرجت أمام زعماء دول الكومنولث البريطاني، الذي
ترأسه ومن جهة أخرى تثير الجدل في بريطانيا حول حيادية منصبها فهي لا تملك
صلاحيات تنفيذية ولا يمكنها أن تفرض قراراتها أو رأيها على رئيسة الحكومة
المنتخبة.
وفي لقاء عاصف بين السيدتين، تذّكر تاتشر ملكتها أنها لم
ترث منصبها مثلها، بل كان عليها أن تكد منذ طفولتها لكي تحقق حياة كريمة
وأنها اُنتخبت من قبل الشعب بدلاً من أن تفرض عليهم مثلها.
من المفارقات أن تاتشر، التي كانت تكنى بـ «المرأة
الحديدية» كانت أول امرأة تترأس الحكومة البريطانية، ومع ذلك كانت أول
رئيسة حكومة تتحدى الملكة.
لكن جيليان أندرسون، التي تجسد دورها ببراعة، لا تعتقد أن
ذلك التحدي نبع من غيرة نسائية. «تاتشر كانت شخصاً مليئاً بالتحديات» تقول
النجمة الأمريكية، المعروفة عن دورها في مسلسل الخيال العلمي الشهير،
(ملفات إكس). «أنا متأكدة أنها تحدت معظم الأشخاص الذين تعاملت معهم. فهي
لم تعرف كيف تتراجع. كانت تسير قدُما بشكل مذهل. ولا أعتقد أنها كانت تعرف
كيفية عدم تحدي المواقف. وبالتالي أتخيل أن ذلك كان معقداً في علاقتهما،
بالنظر إلى أن هذا يناقض تماماً تصرف الملكة، التي وظيفتها الجلوس
والمراقبة وعدم إبداء أي رد فعل. وتاتشر لا يمكنها إلا أن ترد».
أما الصراع المحوري الآخر فيشتعل بين ولي العهد، الأمير
تشارلز وزوجته اليافعة الأميرة ديانا، التي تتمرد عليه وتقيم علاقات مع
رجال آخرين، عندما يرفض قطع علاقته الرومانسية مع حبيبته كاميلا، ويزيد
عداؤه وعداء عائلته لها عندما تستحوذ على محبة الناس وتصبح أكثر شعبية منهم
بفضل استقلاليتها ورفضها الامتثال لقوانينهم الصلبة، المبنية على تصرفات
تظهرهم ككائنات بشرية أرقى من عامة الشعب.
«أعتقد أن شعبيتها حدثت بالصدفة» تقول ايما كورين، التي
تؤدي دور ديانا. «لم تحصل على الحب والدعم اللذين أرادتهما واحتاجتهما من
العائلة الملكية ومن ثم بدأ الشعب يحبها، ولكن ليس بشكل سطحي. فهم أحبوها
بطريقة جعلتها تشعر أنها محبوبة للغاية ومعترف بها بطريقة لم تختبرها من
قبل، ولهذا بدأت تجد عائلتها في الناس عوضاً عن العائلة الملكية.»
وهكذا تحولت ديانا الى «أميرة الشعب» فخسف نجم تشارلز، الذي
صار يتهمها بسرقة الأضواء منه من خلال تصرفاتها الطفولية، كما وصفها.
من المفارقات أن تشارلز نفسه تعرض لقوانين العائلة الملكية
الصارمة، التي حرمته من التعبير عن رأيه ومنعته من الزواج من حبيبته
كاميلا.
أعضاء عائلة آخرون أيضا دفعوا ثمنا باهظا بسبب تلك
القوانين؛ عمه الملك إدوارد الثامن أجبر على التنازل عن العرش والهجرة الى
فرنسا، بسبب إصراره على الزواج من سيدة أمريكية مطلقة، بينما حرمت خالته
الأميرة مارغريت من الزواج من حبيبها الأول، أيضا لأنه كان مطلقاً،
فاستسلمت للإدمان على الكحول.
أفراد العائلة يكررون الخطأ مراراً
«هذا جزء كبير من المسلسل، حيث يرتكب أفراد العائلة الخطأ
ذاته مراراً وتكراراً» يقول جوش أوكانار، الذي يجسد دور تشارلز للمرة
الثانية «ذلك حدث مع عمه وخالته من قبل. أما تشارلز فقد غُرس في داخله أن
واجبه هو فعل ما يُملى عليه وكان يتوقع من ديانا أن تضحي بحريتها مثله.»
وحسب المسلسل، تشارلز يواجه أيضا صراعاً مع والده الأمير
فيليب، الذي يغار منه لأنه ارتقى إلى منصب أعلى منه، كما فعلت أمه قبله
عندما اعتلت العرش.
لكن توباياس مينديس، الذي يجسد دور فيليب، يقر بأنه متأكد
أن فيليب سينكر ذلك ويُدبر عنه.
«على أن أكرر هنا: إن هذا إسقاط بيتر وإسقاطنا نحن على ما
نفهمه من تلك العلاقة. لكن من المؤكد أن علاقتهما تبدو معقدة» يضيف الممثل.
معظم الصراعات التي يقدمها المسلسل مستلهمة من السجلات
الرسمية أو عناوين الصحف، لكن كواليسها ومجرياتها هي تخمينات أو إسقاطات
اختلقها مورغان، دون أن يقابل أياً من أطرافها للتأكد من صحتها. «نحن نعلم
بالضبط أين كانوا في أي يوم من أي عام من السجلات الرسمية» يقول مورغان.
«ما نجهله هو ما كانوا يفكرون ويشعرون به وكيف كان مزاجهم وما كانت هواجسهم
الخاصة، وما الذي كان يغضبهم. وهذا بحاجة الى كاتب درامي ليبتكره من خياله.
ومهمتي هي أن أجعله دقيقا ومعقولاً قدر الإمكان والإبقاء عليه ترفيهيا.»
مثل «التاج» الذي يسبر حدثاً تاريخياً في كل حلقة من
حلقاته، معظم أعمال مورغان التلفزيونية والسينمائية تتناول أحداثاً
وشخصياتٍ بارزةً ومؤثرةً من الماضي البريطاني البعيد والقريب وباتت المصدر
الأول للجماهير لمعرفة وفهم تاريخ وحاضر بريطانيا بدلاً من الكتب والوثائق
الأكاديمية. لكنه يصر على أن غايته هي الترفيه وليس طرح التاريخ.«هذه
مسؤولية كبيرة لي وأشعر بعدم ارتياح كبير حيالها. فالكتب هي مصدر التاريخ»
يقول مورغان. «أوافقك الرأي لكن لم يكن لدينا في الماضي حواسيب حولنا
تمكننا من البحث سريعاً عن أي شيء أو أخذ ملاحظات لنقوم بذلك في وقت لاحق.
إنها طريقة مختلفة للاستهلاك وإذا نظرت إلى أطفالنا فإنهم
في الغالب يشاهدون الأفلام على منصتين أو ثلاث في آن معاً وهكذا يحصلون على
تعليمهم. لهذا آمل أن يكون «التاج» عتبة انطلاق نحو أمور أخرى للناس وأن
يشاهدونه مع «ويكيبيديا» فيمكنهم من فهم النصف الثاني من القرن العشرين،
لأن الملكة والعائلة الملكية لديهم نفوذ دولي من خلال الكومنولث وما إلى
ذلك، فيمكن لذلك أن يكون له وقع على نطاق دولي بطريقة جعلتها «نتفليكس»
فريدة حقا».
بغض النظر عن صحة حقائق «التاج» فإن حبكته الدرامية تجعلنا
نتصلب أمام الشاشة ويستحوذ علينا بفضل أماكن التصوير الفاخرة وأداءات
الممثلين الرائعة والسرد التشويقي.
ونظراً لشعبية المسلسل الواسعة، قررت «نتفليكس» إنتاج
موسمين آخرين مع طاقم جديد من الممثلين لطرح أحداث حقبتي التسعينيات
والألفية الثالثة. |