“المُوريتانيّ”..
الحقيقة التي غيَّبتها جُدران جوانتانامو
عبد المنعم أديب
فيلم
“The Mauritanian”
أو “الموريتانيّ” فيلم بريطانيّ أمريكيّ مشترك من نوعيَّة دراما
المُحاكمات. مأخوذ من كتاب “يوميَّات جوانتانامو” الذي ألَّفه “محمدو وِلد
الصلاحي”؛ الشخص الحقيقيّ الذي يتناول الفيلمُ قصتَه. قدَّم فيه صُنَّاعه
قضيَّة وقصَّة مَصوغتَيْن في بناء مُتماسك واضح المعالم والقسمات.
فيلم “الموريتاني” الذي أخرجه “كيفين ماكدونالد” يبدأ
باقتياد “محمدو وِلْد الصلاحي” (طاهر رحيم) -وِلد تعني ابن- من موطنه
موريتانيا من قِبَل رجال المَخفر المحليّ الذين طالبوا بإفادته في عدة
أسئلة ثمَّ يطلقون سراحه، وعلى هذا الأساس طمأن أمَّه وطلب منها إبقاء بعض
الطعام ليجده حين يعود. لكنَّه لم يعُد في تلك الليلة، ولا في ليالٍ أخرى
كثيرة. وقد تعفَّن الطعام، وماتت أمُّه دون رؤيته.
فالصلاحي تنقَّل من بلد إلى بلد حتى استقرّ به المقام في
مُعتقل جوانتانامو ليلبث هناك سنين عديدة. حيث اتهموه بالتدبير لحادث 11
سبتمبر 2001، على أساس مكالمة وردته من هاتف “بن لادن” المُتصل بالأقمار
الصناعيَّة. وكان ردُّه أن الاتصال من أحد أقاربه المُقرَّبين من “بن لادن”
ليطمئنَّ فيه عن أهله، وأنَّ كلَّ ما فعله هو استقبال مكالمة من هاتف غريب
لا يعرفه.
يظلّ أمر اختطاف -هذا هو الوصف القانونيّ لما حدث- الصلاحي
والاستجواب السريّ معه إلى عام 2005 حتى تنشر عنه جريدة ألمانيَّة تفيد
وجوده في هذا المعتقل، وتبدأ مطالبات مُحامٍ محليّ موريتانيّ تحرِّك آخر
أمريكيًّا، الذي بدوره يذهب لمُحامية حقوق الإنسان والمعتقلين “نانسي
هولاندر” (جودي فوستر) يطلب منها استخدام تصريح الأمن القوميّ الذي تمتلكه
للتأكُّد من وجود الصلاحي هناك. وتبدأ نانسي في الاهتمام بالقضيَّة شيئًا
فشيئًا، وتصرِّح بذلك لأعضاء مكتبها الذين يحذرونها من الإقدام على فعل
قانونيّ قِبَل أيّ شخص مُتعلِّق بالحادث لأنَّ المجتمع الأمريكيّ قد أصدر
حُكمًا شعبيًّا عليهم منذ البدء، وبالتبعة على كلّ مَن يحاول الاتصال معهم،
فضلاً عن الدفاع عنهم.
تصرُّ نانسي على المُضيّ في الأمر، مُصطحبةً معها المُحامية
الشابة “تيري” (شايلين وودلي) إلى جوانتانامو. في الوقت الذي أعدَّت فيه
قيادات رفيعة في الجيش الأمريكيّ رأسًا لقيادة الادعاء (والادعاء أو ما
يسمَّى عندنا النيابة هي الجهة التي مهمتها إثبات التهمة على المتهم،
والاقتصاص للمُجتمع منه بعقابه أقصى عقوبة ممكنة) هو العقيد البحريّ
“ستيوارت كوتش” (بيندكت كامبرباتش) الذي صُدم من قبل بموت صديقه ضحيةً
للحادث؛ لذا كان الاختيار الأمثل لهذه المهمة. ثمَّ تمضي أحداث الفيلم
مستعرضةً الأحداث داخل جوانتانامو وخارجها حتى خروج الصلاحي من معتقله بعد
أربعة عشر عامًا ويزيد.
السيناريو الذي قاده اقتباسًا ثلاثة مؤلفين: إم ترافين،
روري هينز، سهراب نوشيرفاني بدا مُتماسكًا وواضحًا، بل يكاد الوضوح يكون
سمته الأبرز. فرغم تعدُّد الفصول التي من الممكن تقسيمها شعوريًّا إلى فصل
بداية الأحداث ودخول الشخصيَّات، فصل التوجه إلى المُحاكمة، فصل من الشكّ
في أمر الصلاحي منذ بداية المحاكمة، ثمَّ فصل من الثبات والمكاشفة حتى
نهاية العمل؛ أقول رغم تعدُّد الفصول، ورغم تعدُّد السرد من حيث الزمن لمْ
يشعر المُشاهد بأيّ اضطراب أو حيرة عن اللحظة الزمنيَّة التي تُعرض أمامه.
وهذا اختيار تأليفيّ منذ البدء، ونجاح في تنفيذه. وهنا ننوِّه أنَّ الفيلم
ألَّف بناء دراميًّا -زمنيًّا- بين أزمنة الثمانينيَّات والتسعينيَّات
والألفيَّة في عقدها الأوَّل والثاني في نسق مُوحَّد ميسور الفهم والتحديد.
والأفضل أنَّ التأليف استطاع أنْ يبثَّ الرُّوح في قصَّة
حقيقيَّة معروفة النهاية من قِبَل المُشاهد عن طريق طرح عدد من المعاني،
وتقديم عدد من الدلالات، والحفاظ شعوريًّا على حالة الشكّ في أمر الصلاحيّ
من قِبَل المُدافعين عنه حتى الثلث الأخير من الفيلم، وكذلك التأرجح
الشعوريّ من قِبَل الجلَّاد -وهو هنا المُدَّعي- تُجاه ضحيته بين الكراهة
البالغة والحسم في أمر إيصاله إلى منصة الإعدام حتى التعاطف شبه الكامل
والتراجع الكامل عن موقفه. كلا العُنصرين السابقين وقفا بثبات أمام الصلاحي
وشخصيته والتفاعلات الشعوريَّة التي مرَّت بها، والتي تمثِّل العنصر الرئيس
في الفيلم بطبيعة السياق. وقد أكمل هذه التوليفة التأليفيَّة النجاح في بثّ
الكوميديا في لحظات حواريَّة ليست نادرةً في فيلم جادّ كهذا.
وعليه فيتضح أمامنا أنَّ الارتكاز الرئيس في الفيلم كان على
دور الشخصيَّات والتي استخدمها التأليف ليُصدِّر كلَّ ما يريد تصديره من
مشاعر، وردود أفعال، وتوجيه للمعاني، وتطوير في الحدث الفيلميّ. وهنا
تتمركز لدينا الشخصيَّات الأربع؛ التي أوَّلها الموريتاني نفسه وهو شخص
قويّ للغاية نفسيًّا كما صوَّره الفيلم، استطاع أنْ يقف بثبات أمام ضغوط
ساحقة لا يمكن الخروج منها إلا مجنونًا أو مُصابًا باختلال نفسيّ بيِّن.
فقد ظلَّت شخصيَّاتنا هادئة مُتأملة مُتماشية مع كافة صنوف القهر النفسيّ
والجسديّ والمُماطلة في الإفراج أو في إيجاد أيَّة امتيازات (امتيازات هنا
تعني أبسط الحقوق التي من الممكن تصورها للعيش الإنسانيّ). وكذا صوَّره
الفيلم شخصيَّةً مُتفائلة مُغلِّبةً للتفاؤل، بل باعثةً إيَّاه في نفوس
الآخرين من السجناء. وهو شخصيَّة تكتسب ثباتها وثقتها من إيمانها القويّ
وإسلامها العميق لله الذي تثق به، كما بدا طوال الفيلم ذكيًّا سريع
التعلُّم مُتطلِّعًا نحو الإيجابيَّات من أقصى المواقف السلبيَّة.
الشخصيَّة الأخرى هي نانسي التي صوَّرها الفيلم شخصًا
مُتحديًا جسورًا مُقبلاً على ما يدبر عنه الآخرون، كما صوَّرها الفيلم
شخصًا عقلانيًّا وربط بين هذا العنصر وبين كونها مُلحدةً بإشارات عديدة!
على الجانب الآخر نجد المُدَّعي وهو شخص يكاد يتضاد مع نانسي، عاطفيّ قليل
الكلام، انفعاليّ، وافق كُليًّا عندما قِيل له: اصعد بأحدهم إلى منصة
الإعدام، وأدبر كُليًّا عندما اطَّلع على العار الذي تعرَّض له المُعتقلون
في جوانتانامو، وهو أيضًا شخص مُتديِّن كالصلاحي مسيحي مُخلص لمسيحيَّته
تمحورت نقطة الانحناء في شخصيَّته في عِظة كنسيَّة. وأخيرًا هناك تيري
المُحامية الشابة ذات الشخصيَّة العاطفيَّة، التي تسعى للتضحية في سبيل
الحقيقة لكنَّها ليست شجاعة مِقدامة كنانسي.
نقل هذه الخطة التأليفيَّة المخرج من خلال ثلاث من السمات
أرى أنها أبرز ما في الفيلم إخراجيًّا. الأولى أنَّ الإخراج في الفيلم عمد
إلى عنصر الوضوح بشكل حاسم وتامّ؛ فقد بدت رغبة المُخرج في عرض كلّ شيء
أمام المُشاهد دون أن يُتعب هذا المُشاهدَ في أيَّة عمليَّة تأمُّليَّة في
الصورة السينمائيَّة، ولعلَّ هذه السمة آتية من السيناريو أو مُصدَّرة منه.
كلُّ شيء مقدَّم أمامك على طبق من ذهب -كما يقولون-، حتى اللحظات التي
توالت فيها الأزمان المُتقاربة حرص المُخرج على تمييزها حتى لا توقع
المُشاهد في أدنى اضطراب. ولعلَّ استخدامه للقطات مُقرَّبة كثيرًا آتٍ من
حرصه على أنْ يكون كلُّ شيء مهما صغر مُركَّزًا واضحًا.
السمة الثانية أنَّ الإخراج لمْ يخلُ من مشاهد أو لقطات
رمزيَّة؛ لعلَّ أبرزها مشهد محادثة من الجوَّال للمُحامية نانسي تحاول فيها
الوصول إلى بعض المعلومات التي تحتاجها ومُقابلتها لصعوبة وضبابيَّة في
عمليَّة الوصول وهي تقود سيارتها في مِرآب (جراج) مُلتفّ بعضه على بعض
وكأنَّها في دوَّامة حقيقيَّة. ومنها بعض اللقطات المُعبِّرة مثل الزيارة
الأولى لنانسي وتيري لجوانتانامو حيث نرى لقطات لذقن الضابط العسكريّ
المُتجهِّم وفي الخلفيَّة نانسي مرةً وتيري أخرى.
السمة الأخيرة هي اعتماد المُخرج على تضييق الشاشة في مشاهد
كثيرة، وقد يظنُّ بعض المُشاهدين أنَّها مشاهد جوانتانامو، لكنَّ الأمر ليس
كذلك فهناك الكثير من المشاهد في المعتقل بحجم الشاشة الكامل. أمَّا تلك
المشاهد التي تضيق فيها الشاشة فهي المشاهد التي تُروى من جهة الموريتانيّ
نفسه؛ أيْ يكون هو فيها جهة الرؤية أو الرواية. ولعلَّها من عناصر الإخراج
الناجحة في الفيلم؛ فلها أثر في بثّ الضيق لدى المُشاهد من حيث لا يشعر -قد
لا ينتبه المُشاهد أثناء استرساله في المُشاهدة أنَّ الشاشة قد ضاقت-، كما
أنَّ هذه المَشاهد داخَلَها بعض التشويش أو قلَّة الجودة في نقاء الصورة عن
الصورة السينمائيَّة في الفيلم لمُناسبة الغرض كذلك.
ولا شكَّ أنَّ الأداء التمثيليّ المُستحق لكامل الإشادة من
المُمثل طاهر رحيم في دور الموريتانيّ كان له الدور الأبرز في إحياء كامل
الترتيبَيْن التأليفيّ والإخراجيّ. فالمُمثل قام بمُعايشة صادقة للشخصية
وتدرُّجاتها الشعوريَّة والفكريَّة اتضح أثرها في تنفيذه لكلّ مرحلة مطلوبة
منه. كما أنَّ المُمثل كان مُقنعًا في دوره للمُشاهد وهذا راجع لقوَّة
شخصيَّته التمثيليَّة. وكذلك بقيَّة الشخوص الثلاثة الذين ارتكز عليهم
الفيلم.
كما أنَّ عنصر التزيين (المكياج) الذي بدا واضحًا في دعم
مراحل شخصيَّة الموريتانيّ في حياته العادية، وفي لحظات اكتآبه، وفي لحظات
تعذيبه الهيِّن، وفي لحظات تعذيبه البالغ كان له دور في إقناع المُشاهد
وإدخاله في حيِّز الشخصيَّة تفاعُلاً. وقد تمَّ استخدام الموسيقى بترشيد
وذكاء ومن الملحوظ عليها مُحاولتها الاستقاء والتغذية الثقافيَّة من أغاني
وثقافة موريتانيا نفسها في الموسيقى المُؤلَّفة.
إنَّ فيلم الموريتانيّ يشير إلى دلالات عديدة منها
جمهوريَّة الضباب الأمريكيَّة؛ حيث نجد مجهودات كثيرة قامت بها المُحامية
الأمريكيَّة في سبيل السؤال والتقصِّي عن أحوال مُوكِّلها أو أحوال غيره من
سجناء جوانتانامو، بل عن مُجرَّد وجودهم من الأساس. وكذلك يطلعنا الفيلم
على مدى التكتُّم المعلوماتيّ البالغ في الولايات المتحدة؛ في الحين الذي
تصدِّر فيه أمريكا عن نفسها فكرة شفافيَّة كلّ شيء، وتصفعنا دومًا بشعارات
حقّ المعرفة والاطلاع على المعلومات. وهنا نتذكَّر السخرية اللاذعة التي
كانت توجهها أمريكا للاتحاد السوفيتيّ من جهة سريَّة المعلومات فيه ومدى
حجبها عن الآخرين!
ومن دلالات الفيلم ذلك الانقسام النفسيّ الذي يمثل مرضًا في
الذات الأمريكيَّة؛ حيث في إحدى اللقطات نرى مُلصقًا توجيهيًّا على جُدران
معتقل جوانتانامو يحذر من إيذاء أحد أنواع الحيوانات الطليقة هناك، ويوجِّه
بضرورة الحفاظ على حياة الحيوانات والبيئة! في حين نسمع أخبار انتحار
الصديق “مارسيليا” في زنزانته الفرديَّة نتيجة اليأس من الحياة الذي
سبَّبته المعاملة الوحشيَّة التي يمارسها مَن ألصق هذا المُلصقَ نفسه.
وقد وقف الفيلم على الحياد، بل على درجة قصوى من الحياد.
فأقصى ما تدلُّ عليه رواية الفيلم هو أنَّ الجسد الأمريكيّ به “بعض
الأخطاء” التي ما كان يجب أن نقع فيها. أمَّا ثوب أمريكا نفسه فهو سليم
بالغ النصاعة لذلك لا يجب أن تشوب نصاعته تلك الأخطاء التي ارتكبها “بعض
الأشخاص”. ولا نجد في الفيلم اتهامًا عنيفًا أو قسوة في توجيه العار الذي
ارتكبته أمريكا في أعوام فقط، وفي جانب واحد فقط. بل نجد في الفيلم عتابًا
ولومًا من ذلك الجسد الذي لمْ يحاسب أيُّ مسئول فيه عن جوانتانامو
وجرائمها، ولا حُوكم أحد عليها. ونجد كذلك عتابًا على اقتياد أناس لا دخل
لهم في “الإرهاب” ليعتقلوا دون مُحاكمة طوال أعوام.
وفي الوقت الذي يسمع فيه المُشاهِد عبارة المُحامية نانسي:
“لقد أخطأنا في تحديد الهدف من اختيار الحكومة لجوانتانامو مكانًا
للاعتقال؛ فلمْ يكنْ من أجل إخفاء المُعتقلين، بل من أجل التستُّر على
الجُناة” قد يُطرح في ذهن المُشاهد سؤال: إذا كانت مُمارسات معينة قد وُصمت
من قِبَل أناس بالإرهاب؛ أليس اقتياد 800 معتقل من كافة بقاع العالَم لا
يجمعهم إلا دينهم، وصناعة مُعتقل لهم هو الأسوأ سُمعةً في تاريخ الألفيَّة
الجديدة، وتعذيبهم سنوات تلو سنوات، في الوقت الذي تمَّت إدانة خمسة فقط
منهم باتهامات -حسب قضاء الدولة نفسها- أليس هذا كلّه ضربًا من أبشع
المُمارسات الإرهابيَّة؟! |