"كفر
قاسم" لبرهان علوية: سبقٌ سينمائيّ في التجديد البصري
نديم جرجوره
لقرية كفر قاسم لحظة تاريخية راسخة في وجدان وعقل وتأمّل،
كفلسطين كلّها. ولفيلم "كفر قاسم" مكانة ثابتة في ذاكرة مخرج وتاريخ سينما
وحكايات أناس وبلدان وبيئات.
رغم المكانة الكبيرة والعميقة والأساسية لبيروت في سينماه،
لم يحصر برهان علوية (1941 ـ 2021) نفسه في جغرافيا واحدة وثابتة وجامدة،
لانشغاله -الثقافي والفكري والاجتماعي والأخلاقي- بهموم وتساؤلات عربيّة،
محاولاً عبرها إيجاد مشتركات مع هموم وتساؤلات لبنانية، تبقى السينما
أبرزها، لغةً وبناءً ومسارات درامية. ورغم انهماكه في تحويل تلك الهموم
والتساؤلات إلى أفلامٍ، روائية ووثائقية، تعاين وقائع، وتروي حالات
وحكايات، تنعكس فيها أحوال أناس وبيئات وتفاصيل يومية؛ يظلّ سؤال السينما،
وارتباطها بالواقع والذاكرة والتاريخ والاجتماع والناس والانفعالات،
أساسيّاً، مع أنّ غلبةَ النصّ على الصورة واضحةٌ في أفلامٍ عدّة.
ومع أنّ انشغال برهان علوية بهموم وتساؤلات عربيّة قليلٌ،
قياساً إلى موقع بيروت في ذاته وروحه ووعيه وأسئلته ونتاجه، تُعتبر "أفلامه
العربية" (إنْ يصحّ التعبير) مرجعاً في كيفية مقاربة الجماعيّ عبر أفرادٍ
وحكايات. انجذابه إلى مصر ظاهرٌ في "لا يكفي أنْ يكون الله مع الفقراء"
(1978) و"أسوان" (1991)، فالأول معنيّ بالعمارة، في حوار وثائقيّ مع حسن
فتحي؛ والثاني باحثٌ بصريّ في أحوال السدّ العالي، في التاريخ والجغرافيا
والراهن، كما في علاقته بالناس، والمتغيّرات الحاصلة في حياتهم، إمّا بفضله
(الإيجابيات) وإمّا بسببه (السلبيات).
غليان بيروت فلسطينيّ أيضاّ
لكن فلسطين أساسيةٌ في السيرة الحياتية والمهنية لعلوية،
دارس السينما في بلجيكا، والعائد منها إلى بيروت مطلع سبعينيات القرن
العشرين ومنصرفاً حينها إلى مواكبة الغليان متنوّع الأشكال والأساليب في
لحظة مصيرية، تشهد لاحقاً تبدّلات جوهرية في الحياة والعلاقات. ومع أنّه
ورفاقه، مارون بغدادي (1950 ـ 1993) ورندة الشهّال (1953 ـ 2008) وجان
شمعون (1944 ـ 2017) وجوسلين صعب (1948 ـ 2019) وغيرهم القليل، منهمكون
حينها في توثيق سيرة بيروت وناسها (مواطنون ومُقيمون)، في مرحلة نابضة
بأسئلة الهوية والآخر والانتماء والنزاع الاجتماعي الاقتصادي، يبرز السؤال
الفلسطينيّ كمنبع لتساؤلات أخرى، وكمصدر لعمل سينمائي يتوغّل في بيروت،
اجتماعاً وعلاقات ومصائر، بحثاً في حيوية ذلك الغليان وأسئلته، وفي
التزامات ومشاغل وصدامات.
عشية اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، يُنجز
برهان علوية "كفر قاسم" (1974)، مستعيداً فيه وقائع مجزرة إسرائيلية،
ارتكبها جنود الاحتلال في 29 أكتوبر/ تشرين الأول 1956، بحقّ 49 مدنياً من
أبناء قرية كفر قاسم (18 كلم شرق مدينة يافا)، بينهم 23 طفلاً ومراهقاً دون
الـ18 سنة. تاريخ المجزرة سيكون اليوم الأول لـ"العدوان الثلاثي" (فرنسا
وبريطانيا وإسرائيل) على مصر، المستمرّ لغاية 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 1956،
ردّاً على قرار تأميم قناة السويس، المُعلن في خطابٍ لجمال عبد الناصر، في
26 يوليو/ تموز 1956، يستمع إليه شباب كفر قاسم وشيوخها ونساؤها مباشرةً
عبر الإذاعة، في مشهدٍ في فيلم علوية، يعكِس نبض القرية وشخصيات ناسها،
وتفكيرهم وصراعاتهم وعيشهم والتزاماتهم وقناعاتهم في السياسة والفكر
والاجتماع.
ستمرّ ساعة واحدة تقريباً (مدّة الفيلم 90 دقيقة بحسب
النسخة الموجودة على "يوتيوب"، ونسخة "دي. في. دي." الصادرة عن "نادي لكل
الناس" في بيروت) قبل بدء المجزرة. ساعة تكشف تفاصيل أساسية في حالة
وعلاقات وتفكير وصدامات بين أبناء القرية، وهذا حاصلٌ في قرى فلسطينية
كثيرة، بعد إعلان قيام الكيان الإسرائيلي كـ"دولة" (14 مايو/ أيار 1948)
مُحتلّة لفلسطين، لأنّ فلسطينيين عديدين يرون في التعامل مع المحتلّ فائدة
لهم، بحجّة تهدئة الأجواء بين الفلسطينيين والحاكم العسكري، أو للاستفادة
من مال ووجاهة وسلطة. تفاصيل ترسم، بوضوح وشفافية، يوميات أناس، لبعضهم
قناعات ناصرية، ولبعضهم الآخر عقائد يسارية مختلفة. عمّال يجهدون نهاراً
كاملاً في أي عمل لدى أي "صهيوني" من أجل لقمة عيش، وقلّة تحصل على مال
وفير من دون تعب. النزاع الطبقي يظهر في لقطة معبِّرة، إذْ يسأل ابن تاجر
فلسطينيّ والده السماح له بالذهاب معه إلى العمل، فيجيبه الأب أنّ الوقت
باكرٌ بالنسبة إليه للعمل، ما يحرِّض أحد العمّال على انتقاد هذا بلؤم
وقهر: "ولماذا يعمل، طالما أنّ لوالده أموالاً كثيرة يجمعها من دون جهد".
التزام ثقافي وأخلاقي
تفاصيل كهذه أساسية. فرغم فلسطينيّتها، يسردها برهان علوية
انطلاقاً من التزام بهاجس ثقافي وفكري واجتماعي، تعرفه بيروت في النصف
الأول من سبعينيات القرن العشرين ويعتبرها جوهر كل اجتماع، مع إضافةٍ
تتمثّل بالاحتلال الإسرائيلي. هذا يعكس حيوية النبض الثقافي العام لعلوية،
وقدرته السينمائية على إيجاد مساحات لها في حكاية قرية فلسطينية تشهد مجزرة
إسرائيلية، من دون الانتقاص من وقائع حقيقية، فالانشقاقات والنزاعات
الحياتية والاجتماعية واليومية حاصلةٌ في القرية نفسها، و"جينيريك" البداية
يُشدّد على أنّ "كلّ مُطابقة أو مُشابهة مع أشخاص أو أحداث حقيقية ليست
صدفة، لأنّ كلّ ما يعرضه هذا الفيلم مأخوذٌ من الوثائق التاريخية الأصلية".
"الانبهار" بالإسرائيلي، خوفاً أو تحايلاً أو فساداً في
العقل والسلوك، يتمثّل أيضاً بشخصيةِ شابٍ يُصرّ على الانتقال إلى تل أبيب
للعيش والعمل فيها، بعيداً عن فقر القرية ومستقبلها المعطَّل. لكن زيارته
صديقاً يعمل في مقهى، يكشف له استحالة ذلك، خصوصاً أنّ الصديق مُجبر على
اختيار اسم يهودي كي يعمل، وعلى تقبّل كلّ شيءٍ يُقال على ألسنة المحتلّين
من دون نقاش. الصورة "البهيّة" تتحطّم، بينما تَعَامُل القلّةِ مع الصهيوني
مستمرّ، ففيه فائدةٌ كبيرة لهذه القلّة المتملّقة، التي يحتقرها المحتلّ
الإسرائيلي، إمّا بجعلها عميلة له (أحدهم ينقل أخبار الناس إلى الحاكم
العسكري)، وإمّا بالكذب عليها، إذْ يؤكّد ضابطٌ لمختار كفر قاسم أنّ
العاملين خارج القرية، الذين يعودون من عملهم بعد الساعة الخامسة، موعد بدء
تنفيذ "القرار المفاجئ" بمنع التجوّل، سيُحافَظ عليهم، وسيُمنحون الإذن
بالعودة إلى منازلهم، وهذا لن يحصل.
إعادة تشكيل قرية كفر قاسم سينمائياً، في قرية الشيخ سعد
"التي ستلعب دور كفر قاسم في هذا الفيلم" (كما في الـ"جينيريك")، خيار فني
وجمالي، يخدم التوثيق الذي يُشكِّل أساس فيلمٍ يؤرّخ وقائع مجزرة بالصورة
والصوت والتوليف. كأنّ المطلوب، فنياً ودرامياً وجمالياً، من إعادة تشكيل
المشهد برمّته، يكمن في إلغاء كلّ حدّ بين الوثائقي التسجيلي والروائي
المتخيّل. فالثاني مُكتفٍ بممثلين وممثلاتٍ يؤدّون أدوار أناسٍ حقيقيين، في
فيلمٍ يُحوِّل القصّة (عاصم الجندي) إلى صُورٍ، ويجعل التوثيق متتاليات
بصرية تزخر بنبض وغليان وحيوية وتحدّيات وموت وجُرم، يُحاكَم مرتكبوه
الإسرائيليون فيُسجنون لوقتٍ قليلٍ، لأنّ "صدى الحدث يُجبر الصهيونية على
تقديم منفّذي مجزرة كفر قاسم إلى المحكمة". لكنّ الأحكام القضائية مُخالفة
لعرفٍ صهيوني "سائد عام 1956، يحكم على قاتل شخص واحدٍ بالسجن المؤبّد"
(كما يُكتب في سياق السرد)، بينما أطول مدّة حُكمٍ على هؤلاء غير متجاوزةٍ
الأعوام الثلاثة.
تجديد مُبْتَكَر
سينمائياً، يسبق "كفر قاسم"، بأعوامٍ مديدة، نمطاً وثائقياً
يُعرف لاحقاً: "دوكيو دراما"، أو الوثائقي الروائي، إذْ تتداخل أنواع
سينمائية في فيلم واحد، يتناول موضوعاً أو شخصية أو حالة، بالاستناد إلى
مستندات ووثائق مكتوبة ومسجّلة ومُصوّرة، مُضيفاً إليها فقرات تمثيلية
مختلفة. هذا نوع من تجديد الاشتغال السينمائي الوثائقي لدى علوية، بالإضافة
إلى اعتماد "جينيريك" مختلف، فأسماء العاملين في "كفر قاسم" تُكتب على
الشاشة بشكلٍ متقطّع، بين مشهدٍ وآخر. بينما بعض أسماء شهداء المجزرة يُذكر
عند تنفيذ القتل (كلّ اسم على لقطة لشهيد يؤدّي دوره ممثلٌ) في مشاهد
متخيّلة سينمائياً، وبعضها الآخر يُذكر في نهاية الفيلم، المعقودة على
مقاطع من قصيدة "مغنّي الدم" (عن كفر قاسم) لمحمود درويش.
ميزة أخرى لـ"كفر قاسم": إنّه صنيع إنتاج مشترك بين
"المؤسّسة العامة للسينما" في دمشق و"المؤسّسة العربية للسينما" في بيروت،
مع فنانين وتقنيين أجانب، كهنري مورِلّ (هندسة الصوت) وإليان دو بُوا
(سكريبت مونتاج)، علماً أنّ السيناريو لبرهان علوية والحوار لعصام محفوظ
والموسيقى لوليد غلمية. الإنتاج العربيّ المشترك نادرٌ، حينها وفي كلّ حين.
لكنّ التجربة تقول بإمكانيته، إنْ تتوفَّر معطيات أساسية، أبرزها انفتاح
الجهة المُنتجة، وقناعتها بأولوية المشروع وأهميته، لا بحسابات جغرافية
ومناطقية ضيّقة.
أهمية "كفر قاسم" تكمن في توثيقه السينمائيّ لحدثٍ أساسيّ
في سيرة الفلسطيني، وفي حكاية السينما العربية مع الهمّ الفلسطيني، كأناسٍ
قبل القضية، أو معها. فيلم برهان علوية يقول إنّ القضايا مهمّة، لكن
الأفراد أهمّ، أو أنّ التفريق بين الطرفين (القضية والناس) غير جائزٍ
إطلاقاً. هذا ما سيفعله علوية لاحقاً، في "بيروت اللقاء" (1982): قصّة حبّ
(لها في "كفر قاسم" حيّزٌ، وإنْ يكن متواضعاً للغاية) في لحظة اشتعال بيروت
بحرب وخراب وانشقاقات وموت. قصّة يتسلّل منها علوية إلى مسام مدينة ونبضها
القاتل، ويذهب رفقة حبيبين -يعجزان عن اللقاء، بسبب طائفة كلّ واحد منهما،
فيستعينان بتسجيلاتٍ على أشرطة "كاسيت" لتواصلٍ متقطّع- إلى حياة معطوبة،
وخيبات قاسية، وآلام مُثقلة بأسئلة وقلاقل.
لقرية كفر قاسم لحظة تاريخية راسخة في وجدان وعقل وتأمّل،
كفلسطين كلّها. ولفيلم "كفر قاسم" مكانة ثابتة في ذاكرة مخرج وتاريخ سينما
وحكايات أناس وبلدان وبيئات.
ناقد سينمائي من لبنان |