هناك من يولد بقدرٍ ضاحك. تحيطه مفارقة مرحة كأنها علامة
على مستقبل. هذا ما حدث مع القديرة سهير البابلي التي ودعتنا قبل ساعات.
في 14 شباط (فبراير) من عام 1935، كانت الأم في عرس عائلي
في مركز فارسكور في محافظة دمياط حين فاجأها المخاض ووضعتها أنثى، في بلد
غير بلدها "المنصورة".
إذا كان علي باشا مبارك (أبو التعليم) ولد في أرياف
المنصورة، وكذلك كوكب الشرق أم كلثوم... فنحن نتحدث عن مدينة كانت بحق
"عروس النيل"، ساهمت إسهامًا عظيمًا في الإبداع المصري، بمئات الأسماء التي
ولدت، أو تعود جذورها، إلى هذه المدينة الجميلة شمال الدلتا.
بنت من المنصورة
كانت المنصورة مجتمعًا كوزموبوليتانيًا- إسكندرية مصغرة-
بين فلاحين وتجار ومصريين ويونانيين وطليان، كما يضم نشاطًا إبداعيًا
وسياسيًا صاخبًا، مازال أثره ماثلًا إلى الآن. بل إن لقبها "البابلي" يوحي
بظلاله العراقية بهذا التنوع العرقي والثقافي.
نشأت سهير طفلة مدينية مبهجة، بارعة في الغناء وتقليد
الكبار، وبحكم أن والدها حلمي إبراهيم البابلي- مدرس الرياضيات- كان ابنًا
لهذا المجتمع، لم يجد حرجًا أن تلتحق ابنته بالمعهد العالي للفنون المسرحية
وكذلك معهد الموسيقى. على عكس ما كان يجري آنذاك في التجمعات الريفية
والصعيدية المحافظة. وهو تشجيع كانت تعارضه أمها بشدة بسبب نظرة الاحتقار
للفن وعدم أخلاقيته.
الملمح المنصوري "المديني"، ظل أساسيًا جدًا في وعي تجربتها
واختياراتها. وهي نادرًا ما تقدم دور صعيدية أو فلاحة، وإن فعلت لن تكون في
أحسن حالاتها.
أفلام ثورة يوليو
ثاني ملامح تجربة البابلي واكب ثورة يوليو، التي غيرت شكل
الحياة المصرية عمومًا، آنذاك كانت سهير على أعتاب الدراسة الجامعية. كانت
لحظة قدرية بين جيل شاب يبحث عن فرصة، وثوّار تولوا السلطة وأرادوا فنًا
جديدًا.
حصلت على فرص بسيطة في سينما ومسرح العهد الجديد، وبعضها
كان بمساعدة زوجها آنذاك الملحن منير مراد. كانت بداياتها متواضعة وبسيطة
كأنها تعلن اسمها على استحياء، كما في فيلم "صراع مع الحياة" (1957)، من
بطولة هند رستم التي تكبرها بخمس سنوات فقط، لكنها كانت نجمة، وامرأة
جميلة، بينما سهير ممثلة في خطواتها الأولى. هذا رغم أن فارق الموهبة
لمصلحة سهير قطعًا. وكانت فكرة الفيلم نفسها عن شاب يصل لابتكار علمي تحاول
(القوى الخارجية) الاستيلاء عليه، وهي فكرة تليق تمامًا بضباط يوليو.
آنذاك كانت سهير تشارك بأدوار صغيرة، مجرد وجه مصري خمري
الملامح، بمسحة فرعونية تشبه نساء الجداريات. تعبيراتها مزيج من الرومانسية
والبهجة والخجل. ولكن ليس هناك- على الأقل سينمائيًا- ما يُبشر بميلاد نجمة
كبيرة.
معظم تلك الأدوار كان حجمها أقل من الدور الثاني، مع عمر
الشريف وفاتن حمامة، أشهر نجوم جيلها، في "نهر الحب" التعريب الشهير لرواية
"أنا كارنينا". ثم كانت محظوظة أكثر مع عبد الحليم حافظ في "البنات والصيف"
و"يوم من عمري" وظهرت معه في أغنيته الشهيرة "ضحك ولعب وجد وحب"، وأظن أنه
من أطلق عليها اسم التدليل "سوسكا".
نجمة مسرح
بدا الأفق مغلقًا أمام سهير البابلي على شاشة السينما، ولا
يعد بالكثير، فهي تشبه نجمة خمرية أكثر جمالًا وشهرة هي لبنى عبد العزيز،
وروحها المضحكة المرحة، لا تناسب كي تكون وجهًا رومانسيًا في أفلام عبد
الحليم وفريد ومحمد فوزي.
في المقابل، وبحكم تخرجها من معهد المسرح، ومع اهتمام
الدولة بإطلاق الفرق المسرحية الرسمية، مثل فرقة مسرح التلفزيون، عثرت سهير
على فرص أفضل.
لم يكن ذلك بالأمر السهل، مع وجود قامات نسائية كبيرة. لكنّ
الساحة كانت رحبة، وهي كانت تلميذة لأساتذة المسرح الكبار آنذاك مثل زكي
طليمات وفتوح نشاطي.
أبلت سهير بلاء حسنًا في مسرحيات مصرية، أو مترجمة، مثل
"الصفقة" لتوفيق الحكيم في دور مغنية وغازية، بينما البطولة لسميحة أيوب،
حيث انتمت رسميًا للمسرح القومي بعد تخرجها. وكذلك "القضية" للكاتب اليساري
لطفي الخولي، ورائعة يوسف إدريس "الفرافير"، ومن الأعمال الأجنبية المترجمة
"بيت بيرنارد ألبا" و"الخال فانيا".
كأنّ القدر وجّه حياتها في مسارين، مشاركات سينمائية
متفاوتة تؤمن لها الدخل، والشهرة الأوسع، مقابل مشاركات مسرحية قيمة حيث
وجدت عشقها على خشبة المسرح، في ندية تامة مع ممثلات قديرات، إبان العصر
الذهبي للمسرح المصري.
ملكة الكوميديا
كان لسهير حضورها، لكنها كانت تدرك صعوبة المقارنة مع قامة
مثل سناء جميل، أو أن تؤدي عروضًا بالفصحى بفخامة سميحة أيوب، بهذا الصوت
المبحوح الهش. علاوة على أن المسرح كان ذكوريًا قائمًا على أسماء من وزن
يوسف وهبي (التراجيديا) والكوميديا (الريحاني وإسماعيل يس).
مع ظهور فرقة "ساعة لقلبك" والثنائي فؤاد المهندس وعبد
المنعم مدبولي، ظهرت موهبة وقدرات ممثلتين كبيرتين في "الكوميديا" هما
شويكار التي حظيت بدعم زوجها، وسهير البابلي.
أدركت البابلي أنها قادرة أن تصبح ملكة متوجة في المسرح
الكوميدي بلا منافسة. اشتغلت مع المهندس سينمائيًا في أدوار بسيطة منها
"أخطر رجل في العالم" وفي مسرحية "جوزين وفرد"، حيث لعبت دور زوجة مدبولي.
ولأنه يصعب أن تكون هي وشويكار معًا على خشبة واحدة، حققت
نقلة مغايرة بالعمل مع "الفنانين المتحدين" مع سمير خفاجي وعادل إمام، وقدم
هذا الفريق المسرحية الكوميدية الأشهر في آخر أربعين سنة وهي "مدرسة
المشاغبين" (1973).
يعتبر عقدي السبعينات والثمانينات هما ذروة عطائها المسرحي،
في أعمال تتأرجح بين الكوميديا والتراجيديا والهجاء السياسي، وشاركت
بطولتها مع ممثلين كبار مثل حسن عابدين وأبو بكر عزت، مثل "نرجس" (1975)،
التي يمكن اعتبارها شهادة ميلادها كنجمة مسرح كبيرة. وتعد أول ممثلة مصرية
وعربية نافست الرجال في الكوميديا وفرضت نفسها بطلة مطلقة تُباع المسرحيات
على اسمها.
من بعدها قدمت "يا حلوة ما تلعبيش بالكبريت"، و"الدخول
بالملابس الرسمية" (1979)، و"ريا وسكينة" (1982)، مع مدبولي وشادية لأول
مرة على خشبة المسرح، و"ع الرصيف" وهي هجاء سياسي لاذع لتحولات المجتمع
المصري، و "نص أنا نص أنتي" ثم "العالمة باشا" (1991)، واستعلمت فيها اسم
التدليل الخاص بها "سوسكا"، وأخيرًا "عطية الإرهابية".
توازيًا مع المسرح، لم ينقطع حضورها عن الأفلام والمسلسلات
والأعمال الإذاعية، وربما كان أشهرها وأكثرها بقاء في وجدان الجمهور العربي
شخصية "بكيزة" في مسلسل "بكيزة وزغول" (1988).
اعتزال بتأثير الشعراوي
قبل أن تبدأ سهير البابلي الموسم الثالث من "عطية
الإرهابية" ومع اقترابها من الستين، أعلنت اعتزال التمثيل، وارتدت الحجاب،
واضطر المخرج جلال الشرقاوي لاستكمال العروض بابنته الممثلة عبير الشرقاوي.
جرت محاولات لأن تبقى سهير في مجال التمثيل، مع الالتزام
بالحجاب، لكنها آثرت الانسحاب، وكان من الواضح أنها مع أخريات وقعن تحت
تأثير الشيخ الشعراوي، ومنهن زميلتها في "ريا وسكينة" الفنانة الراحلة
شادية.
الفرق أن شادية التزمت حتى النهاية، ورفضت حتى الظهور لمجرد
التكريم، أما سهير فعاودت الظهور ومثلت بالحجاب بعد غياب عشر سنوات.
لم يكن لديها أعمال ذات قيمة كبيرة قدمتها في مرحلة الحجاب،
لعل أشهرها "قلب حبيبة" (2005)، وهذا طبيعي بحكم القيود التي فرضتها على
نفسها من الناحية الشرعية، وتقدم السن، وتغير المزاج العام. فعمليًا ماتت
سهير البابلي الفنانة مع إسدال الستار على مسرحيتها "عطية الإرهابية"، وإن
استمرت لثلاثين عامًا إنسانة محبوبة، على ذكرى الفنانة التي انتهت.
أحب الجمهور عودتها وظهورها في البرامج بالحجاب، اتكاء على
رصيدها الكبير في الوجدان، والضحك النابع من القلب في ذكريات الملايين
معها. لكن سهير نفسها كانت فقدت- مع عودتها المرتبكة جدًا- أهم ما ميز
موهبتها. تلك الطلة الضاحكة التي كانت تملأ وجهها كله. |