مصر تودّع ملكة الكوميديا وسيدة الارتجال المسرحي سهير
البابلي
فنانة استعاضت عن الجمال بطاقة فنية برعت في توظيفها على
خشبة المسرح.
بعد رحلة طويلة على خشبة المسرح، غيّب الموت مساء الأحد
الفنانة المصرية سهير البابلي بعد صراع مرير مع المرض عن سن ناهز الستة
وثمانين عاما، لتبقى شخصية “أبلة عفت” التي جسّدتها في مسرحية “مدرسة
المشاغبين” محفورة في ذاكرة الملايين من عشاقها بطابعها الكوميدي والجاد في
الآن ذاته.
القاهرة
- نجحت
الفنانة المصرية سهير البابلي التي شيّعت جنازتها في القاهرة الاثنين، في
أن تستغل موهبتها في المسرح ولم تنجذب كثيرا إلى السينما مثل فنانات جيلها،
وهو ما اعتبره نقاد مصريون نوعا من الذكاء الفني، فقد أدركت مبكرا أن
موهبتها على المسرح تصنع لها شهرة لن تستطيع الوصول إليها إذا قرّرت منح
السينما جل اهتمامها، فقد كانت السينما آنذاك حافلة بفنانات لن تتمكّن
البابلي من منافستهنّ جمالا ورشاقة وجاذبية وحضورا أمام شاشتها العملاقة.
وأدركت البابلي أن المنافسة ستكون صعبة مع نادية لطفي
وزبيدة ثروت وفاتن حمامة وسعاد حسني ومريم فخرالدين وميرفت أمين ونجلاء
فتحي، وغيرهنّ ممّن لمعن في الفترة التي ظهرت فيها، لهذا اختارت حضورا
مسرحيا طاغيا على حضور سينمائي هامشي.
سهير البابلي مثّلت المعادل الأنثوي للفنان المصري نجيب
الريحاني الذي لقب بـ"الضاحك الباكي" في عالم الممثلين الرجال
بين الهزل والجد
لاذت بخشبة المسرح وأبدعت في عدد من المسرحيات التي لعبت
دورا في تشكيل وجدان شريحة كبيرة من الجمهور، خاصة الشباب، فلا تزال مسرحية
“مدرسة المشاغبين” التي قُدّمت منذ حوالي نصف قرن، وشاركها بطولتها عادل
إمام وسعيد صالح وحسن مصطفى، يتردّد اسمها حتى الآن بقوة، كما أن دور “أبلة
عفت” لا يزال عالقا بأذهان المصريين، لما انطوى عليه من مفارقات متعدّدة.
أصبح دور الأستاذة الجادة وسط مجموعة من الطلبة المشاغبين
نموذجا يضرب به المثل في العلاقة بين المعلم/ المعلمة والتلاميذ، حيث تدور
بين الجانبين صراعات في ظاهرها كوميدي، وفي جوهرها عكست طابعا جديا كبيرا،
وهي المسرحية التي يعتبرها البعض سببا في انهيار التعليم وربما الإساءة إلى
صورة المعلم، بينما يراها آخرون أنها دقّت ناقوس الخطر منذ زمن، حيث انتهى
عرض المسرحية ولم تنته عروض المشاغبين في المدارس المصرية حتى يومنا هذا.
وفي كل مرة يبثّ التلفزيون المصري أو إحدى الفضائيات هذا
العرض يشعر المشاهد كأنه يُقدّم صورة حديثة العهد، فالقضايا التي ناقشتها
المسرحية وكانت على سبيل السخرية تحوّل عدد منها إلى واقع، ما يؤكّد أن
البابلي ورفاقها اختاروا نصا للمستقبل.
وقال المخرج والممثل المصري عمر زهران، وهو صديق شخصي
للراحلة سهير البابلي، إنها اكتشفت موهبتها في فن المسرح، وكانت في سنّ
صغيرة، وركّزت معظم أعمالها على مخاطبة الجمهور مباشرة حتى حصلت على لقب
سيدة المسرح.
وكشف لـ”العرب” أنها دخلت السينما من بوابة الهواية
والتجربة ليس أكثر، لكن موهبتها انصبت على المسرح، ولم يمنعها جمالها من أن
تكون نجمة سينمائية، فهي التي تزوّجت منير مراد وأشرف السرجاني، وكلاهما
كانا وسيمين للغاية.
حضور مسرحي كبير
تنوّعت أدوار الراحلة المسرحية، حيث قدّمت كوميديا سوداء في
مسرحية “ريا وسكينة” فجّرت فيها طاقة كبيرة من السخرية مع رفيقتها الفنانة
الراحلة شادية، وهي المسرحية التي ظلت تعرض على المسرح فترة طويلة
بالقاهرة، ما أكّد شدّة الإقبال عليها واستحسانها فنيا، وأن اختيارها طريق
المسرح كان صائبا.
ومن بين المسرحيات الشهيرة التي قدّمتها البابلي، المسرحية
السياسية الساخرة “ع الرصيف” عام 1987 وأخرجها مدير المسرح القومي في مصر
آنذاك جلال الشرقاوي، وأثارت جدلا واسعا، ومنعت من العرض سنوات عديدة
لأسباب سياسية.
مع أن طبيعة البابلي تبدو هزلية، غير أن المضامين التي
تضمنتها المسرحيات التي قدّمتها حملت محتوى هادفا في هزله أو جديته، الأمر
الذي مكّنها من أن تتبوّأ مكانة متقدّمة في المجال المسرحي، وعندما وجدت أن
طاقتها غير قادرة على الاستمرار، اختارت الاعتزال، وكانت تستطيع تقديم
المزيد من الأدوار، ومع ذلك لم تبتعد كثيرا عن متابعة الفن وشغفها بالمسرح،
وكانت تطل من وقت إلى آخر كمشاهدة وليست ممثلة.
استمدّت البابلي جزءا كبيرا من شهرتها من مسرحياتها وليس من
خلال السينما أو الدراما، فمع أنها شاركت في عدد من الأعمال في المجالين،
لكن ظل المسرح هو أبوالفنون بالنسبة إليها، والذي حقّقت منه شهرتها
الواسعة، ونجحت في تسخير طاقتها الفنية بصورة لم تنافسها فنانة أخرى
تقريبا، ورسّخت قدميها بشكل جعل الجمهور يتذكّرها باسمها في أعمالها قبل
اسمها الحقيقي.
وأوضحت الناقدة ماجدة خيرالله لـ”العرب” أن اهتمامها
بالتركيز على البطولة المسرحية مرتبط بكونها ممثلة مسرح في الأصل، وعندما
خاضت تجارب البطولة السينمائية تمّ منحها أدوارا لم تصنع منها نجمة شباك
فلم تستسلم لذلك، وصنعت نفسها بنفسها على طريقتها، وكان المسرح مجالها
الحيوي بعيدا عن الاقتراب من الكاميرا.
"مدرسة
المشاغبين" مثلت علامة فارقة في مسيرتها الفنية
مدرسة مستقلة
صنعت سهير البابلي التي وافتها المنية بأحد مستشفيات
القاهرة عن عمر يناهز الستة وثمانين عاما، مدرسة فريدة من نوعها في فن
المسرح لها علاقة قوية بشخصيتها وموهبتها فيه، فالتواصل مع الجمهور بشكل
مباشر يحتاج إلى صفات محدّدة لا تتوافر في كل النجوم أو النجمات، وهو ما
جعلها متميزة في كل أعمالها المسرحية، وقد استعاضت عن الجمال بطاقة فنية
برعت في توظيفها على خشبة المسرح.
وأكّدت خيرالله أن العنصر الجمالي وحده لا يصنع النجومية،
بل الموهبة هي من تفرض نفسها على الساحة، لكن المشكلة في حالة البابلي أبعد
من صعوبة منافستها للجميلات أو أن أدوارها السينمائية كانت ضعيفة، فهذا ليس
بسببها، لكن لطبيعة العمل والدور والسيناريو والقصة، وهذا ما كان عنصرا
حاسما.
وذكر الناقد الفني إلهامي سمير لـ”العرب” أنها امتلكت
أسلوبا فريدا يعتمد على كوميديا الموقف دون الاعتماد على الحركة أو البهرجة
في الإكسسوارات كغيرها من فنانات المسرح اللاتي اتجّهن للكوميديا، ما
حوّلها إلى مدرسة متفرّدة عن الفنانة شويكار وهي ممثلة مسرحية كانت تعتمد
على الاستعراض المبالغ فيه.
الراحلة امتلكت أسلوبا فريدا يعتمد على كوميديا الموقف دون
المبالغة في الحركة أو الاتكاء على البهرجة في الإكسسوارات
وأكّد سمير أنها لا تتحرّك على المسرح إلاّ في نطاق محدود
وتعتمد على قدراتها في الإضحاك والتنقل بين الحالات النفسية بسلاسة، ففي
“ريا وسكينة” تمكّنت من إظهار الحزن والبكاء معا في مونولوج تبرير قتل زوجة
أبيها حتى تعاطف الجمهور معها.
وقد وصف البعض من النقاد المصريين البابلي بأنها المعادل
الأنثوي للفنان نجيب الريحاني الذي لقب بـ”الضاحك الباكي” في عالم الممثلين
الرجال، وكان من أكثر الفنانين حضورا وتأثيرا على خشبة المسرح.
ورأى سمير أن سهير البابلي عبّرت عن السيدة المصرية مسرحيا
وبدت كأنها شخصا من العائلة، مع قدرتها العالية على الارتجال التي كانت
المحور الرئيسي لعملها الدرامي الشهير “بكيزة وزغلول”، وهي مخاطرة تخشى بعض
الممثلات الاقتراب منها، مع جمهور مصري معروف أن الاشتباك معه في النكات
يتطلب قدرات عالية لمجاراته.
وتمكّنت الممثلة الراحلة أن تضيف الكثير من الجرأة السياسية
على أعمالها، وأدركت أن البشر يتعلقون دائما بالممثل الذي يعبّر عنهم
ويتحدّث بلسانهم ويرون أنفسهم فيه، فالجمهور يريد الاستمتاع، لكن يبحث في
الوقت ذاته عمّن يعبّر عن مشكلاته وهمومه، وهي مشكلة تواجه بعض الأعمال
الحالية التي قد لا يشعر المشاهدون أنها تعبّر عنهم. |