اختيارات ستيفن سبيلبرغ من المشاريع التي يقفز لتحقيقها، في
السنوات العشرين الأخيرة، تبدو غريبة بعض الشيء. غريبة حسب عرفي الإجادة
والتنويع. مستوياتها العليا تتقابل مع إخفاقات فنية وتجارية.
أسئلة واختيارات
ما بين 2001 و2002 كان له فيلمان جيدان بارزان هما «ذكاء
اصطناعي» و«تقرير الأقلية» وكلاهما كان من نوع الخيال العلمي. أتبعهما
سبيلبرغ بفيلمين خفيفين (وإن كانا على درجة من الحذق) هما «أقبض علي لو
استطعت» و«ذَا ترمينال». ثم عاد إلى نوع الخيال العلمي، سنة 2005، بفيلم
«حرب العوالم»
(War of the World)
الذي حمل هنات رغم حسنات عدة. في العام ذاته انتقل من الترفيه إلى الموضوع
الجاد في «ميونيخ» الذي واجه انتقادات فنية وسياسية.
لكن «ميونيخ» كان أفضل بمرات عدة من «إنديانا جونز ومملكة
الجمجمة الكريستال»
(Indiana Jones and the Kingdom of the Crystal Skull)
سنة 2008 «مغامرات تنتن»
(The Adventures of Tintin)
سنة 2011 «حصان الحرب» (2011) ماثل «مغامرات تنتن» في مستواه و«لينكولن»
(2012) جاء متوسط القيمة. الأفضل منه «جسر الجواسيس« (2015) وهذا كان أفضل
من فيلمه اللاحق
BFG
سنة 2016.
في العام 2018 قدم فيلماً جيداً (وإن لم يكن من أفضل
أعماله) وهو «ذَ بوست» تبعه بفيلم ميكانيكي الصنعة بعنوان
Ready Player One
لم يشهد نجاحاً جماهيرياً يُذكر كحال أكثر من فيلم ورد في هذه الفترة.
انتقاله الدائم ما بين الفيلم الجاد «ذكاء اصطناعي»
و«ميونيخ»، و«جسر الجواسيس»، وبين أفلام ترفيهية على شاكلة «مغامرات تنتن»
و«إنديانا جونز…» و«ريدي بلاير وَن») هو أحد جانبين مثيرين للاهتمام في
خياراته. الجانب الثاني هو صعود وهبوط مستوى أعماله كما لو أن العاطفة تحتل
المقدمة التي كان من المفترض بها أن تقود. لذلك يأتي اختياره تحقيق إعادة
صنع لفيلم روبرت وايز وجيروم روبنز «وست سايد ستوري» مثيراً للتساؤل. هل
كان هدفه إحياء عمل كلاسيكي وإضافة مستلزمات التنفيذ الحديثة عليه؟ هل أراد
إلقاء تحية على المسرحية التي تم اقتباس فيلم 1961 عنها؟ أو هو أراد إنجاز
فيلم ميوزيكال يضعه بجانب أفلام الخيال العلمي وأفلام المغامرات والسير
الذاتية والتاريخية التي قام بها؟
ما هو مؤكد أن المخرج يلوح بيده للأوسكار لعله يحظى به عن
هذا الفيلم كما كان حظي به عندما أخرج «شيندلر ليست» سنة 1993.
وهناك تقسيم آخر يمكن اللجوء إليه حين النظر إلى سينما
سبيلبرغ. هو مدى علاقته الشخصية بالمواضيع المثارة وحبه لدخول مناطق تشكل
تحدياً. هذا حدث مع أفلام سابقة له مثل «ذا كولور بيربل» (1985) وفي
«أميستاد» (1997) وفيهما عاين مواضيع تخص الأفرو - أميركيين. وكان سبق له
أن حقق عملاً رائعاً من بطولة كريستيان بايل حين كان هذا الممثل ولداً في
نحو الرابعة عشر عاما هو «إمبراطورية الشمس»
(1987).
هذا يكشف عن مخرج يريد - ولو من حين لآخر - معالجة قضايا
جادة، ولو أنه يقع في المشكلة الدائمة وهي تناوله العاطفي الواضح لتلك
القضايا. هو مخرج لا يفصل بين مشاعره العميقة وبين مادته المؤفلمة في مثل
هذه الأفلام ولا في تلك الترفيهية كحال سلسلة «إنديانا جونز» على سبيل
المثال.
ما بين فيلمين
هي الحكاية الشكسبيرية العاطفية «روميو وجولييت»، التي تم
نشرها أول مرة سنة 1562 بعدما تم نقل العداوة ما بين عائلات فيرونا في
إيطاليا إلى عصابات شوارع أحد أحياء مدينة نيويورك. وفي حين أن تراجيديا
روميو وجولييت تقع في رحى عائلتين أرستقراطيين، فإن نسخة 1961 المتحورة من
تلك التراجيديا توفر أحداثاً تقع بين عصابتين واحدة لاتينية (بيورتو ريكان)
والأخرى بيضاء (كلاهما ينتسبان إلى الطبقة الأدنى) تتقاسمان طرفي الحي
ويرتفع سقف التنافس عندما تقع ماريا اللاتينية في حب توني الأبيض. في
مسرحية شكسبير (التي تم اقتباسها مباشرة في العديد من المرات سابقاً وإلى
اليوم) ينتهي الصراع بموت العاشقين على عكس ما يحدث في نسخة روبرت وايز
وجيروم روبنز حيث يُقتل توني وتبقى ماريا حية. لكن كما المسرحية يؤدي القتل
إلى تراجع العداوة بين العائلتين / العصابتين وإحلال السلام.
خلف الستائر المسدلة حين بدأ التصوير، هناك حقيقة أن «وست
سايد ستوري» الأول ينتمي إلى روبرت وايز أكثر مما ينتمي إلى جيرومي روبينز
الذي ما زالت الكثير من المواقع والمراجع تريد زج اسمه. الذي حدث أن وايز،
كونه سينمائيا محترفا لم يستطع قبول روبينز المسرحي المحترف وأوعز لشركة
يونايتد آرتستس بذلك. هذا ما أدى بروبنز إلى ترك المشروع ما يجعل من
الطبيعي إسناد الفيلم إلى وايز أساساً. أول ما يطالعنا في الفيلم الجديد أن
نسخة سبيلبرغ الحالية تختلف في المنهج والأسلوب عن تلك الكلاسيكية. معظم
النقاد الأميركيين بارك هذا الاختلاف على أساس أنه تحديث معاصر. في واقعه
هو تحديث معاصر بالفعل لكن المشكلة هي أن الفيلم يبدو آلياً في تنفيذه من
دون التمتع بروح ذاتية.
على سبيل المثال، يأتي تصوير يانوش كامينسكي غريباً في
انتقائه اللون البني المتدرج كخامة توفر نعومة في الصورة إنما من دون ما
تفرزه الألوان الأخرى من تنويع تنفع في محاكاة المضمون الصدامي المفترض بين
العصبتين.
إلى ذلك، فإن هذا التحديث لا يجاوره شعور ذاتي بالنص. ما
يقوم التصوير عليه هو حركة كاميرا دؤوبة قد تصلح لفيلم تسجيلي من تلك التي
قام بتحقيقها مارتن سكورسيزي لحفلات رولينغ ستونز الموسيقية وليس لفيلم
عليه أن يتمتع برفع مستوى المضمون مع تنفيذ يوازي الحبكة في مداراتها ولا
يتعارض.
قوميات
هذا لا يعني أن الفيلم الجديد خال من الجهد في عموم عناصره
(من الكتابة إلى الإخراج وتصميم المناظر والتوليف حتى لناحية التصوير) لكنه
الجهد الذي يؤدي إلى فيلم غير الذي ورد في النسخة السابقة مع رقصاتها
واستعراضاتها التي التهمتها الكاميرا من دون وثوب ولهاث وبتصاميم رقص بديعة
لا تسرق الضوء من الحكاية في الوقت ذاته.
يحرص السيناريست توني كوشنر، ثالث عمل بينه وبين سبيلبرغ
بعد «ميونيخ» و«لينكولن»، على مراعاة شعور البيض واللاتينيين وما جاورهما.
هناك حذر من التفضيل أو تقديم شخص أو أشخاص بمنظور مسيء.
هناك تلميحات (مثل القول بأن على البيض أن يقتنصوا الفرصة
للتخلي عن حياة العصابات) وهناك التحري العنصري (هو أحد اثنين، الثاني لا
يكن بغضاء لأحد) لكن المفاد هو أن الفيلم يحاول (لا ينجح دائماً) في ممارسة
توازن صحيح.
ما ينجح أكثر من سواه إدارة سبيلبرغ ومعاونيه للرقصات من
حيث تصاميمها وحركاتها وبالطبع في غنائها. هذه تغطي على بعض المشاكل في
الإداء خصوصاً حين البحث عن الكيمياء شبه المفقودة بين بطلي الفيلم. كذلك
من حسنات العمل تصميم المناظر (ما يُعرف بتصاميم الإنتاج) التي تشارك
عملياً في إحياء الشعور بالانتماء إلى البيئة التي تقع فيها الأحداث.
لكن في حين أن الفيلم هو كناية عن قوميات متعددة (في
مقدمتها البيض واللاتينيين لكنها تحتوي على بولنديي الأصل وعلى شخصية شاب
مصري تقع حكايته في «الباك ستوري» لشخصية توني، إلا أن التمدد تجاه الموضع
الجنسي لذلك «الرجل في ثوب امرأة» كما يقول «أنيبودي» واصفاً نفسه، يوصم
التجربة بأسرها بأن سبيلبرغ وكاتبه كوشنر أرادا التبرع بإرضاء كل الفئات
وتوزيع الشخصيات تبعاً لذلك.
هناك عشرة أفلام أخرى، على الأقل، تقدم شخصيات بطولية مثلية
أو توحي، بقوة، بمثليتها توالى عرضها هذا العام من بينها «كرويللا»
و«بنديتا» و«قوة الكلب». آخرها «ذا فلاش» الذي وُصف بأنه أول سوبرهيرو مثلي.
وجود شخصيات من هذا النوع في أفلام معينة ينقل واقعاً أو
يوفر تنوعاً، لكن الترويج لها هو ما يجب على المجتمعات أن تحذره... |