إن كان لا بُدّ من تقديم نصيحةٍ لمن أراد مشاهدة “عائلة
غوتشي” فيُمكن أن تكون: تجنّب الشريط الدعائي للفيلم، إذ أنّه يشي بتفاصيل
كثيرة تُفسد القصّة، وإن بالإمكان إضافة نصيحة أخرى فقد يكون استبدال
“المبارزة الأخيرة” بـ”عائلة غوتشي” ذا نفع أيضًا.
إنّه ريدلي سكوت يعود مرّتين هذا العام، المخرج الإنكليزي
الثمانينيّ الذي تزدهر كاميراه لدى خيانات ذوي القُربى، والدم المتحوّل إلى
ماء، والقصة التي تضرب سقفَها بانغراسِ السكّين في لحمِ الإخوة والمحبين،
يقدم هذا العام فيلمين يربط بينهما هذا الجين السرديّ بالغ الصِغَر، ولا
يهم إن كان ذلك قبل 7 قرون بين جنود البلاط الفرنسيّ في ذروة الحروب
الصليبيّة، أو بين عائلة إيطاليّة لها مملكة من “ليكرا” وحرير تحلم بتلبيس
العالم.
اللافت للنظر أنّ ريدلي سكوت الذي قدّم، على الأقل، خمسة
أفلام ببطولات رجاليّة طافحة بالـ”تيستوستيرون”، أخرج أيضًا “ثيلما ولويز”
(1991)، وهو واحدٌ من أكثر الأفلام المفضلة لدى جمهور النسويات على مستوى
العالم تقريبًا.
يحكي “المبارزة الأخيرة” ثلاث وجهات نظر، رجلان وامرأة، عن
انتهاكٍ جنسيّ وقع في فرنسا القرن الرابع عشر، حادثة فارقة لدرجة استحقت أن
تُخلّد في كتاب من تأليف الناقد الأدبي إريك جاغر المتخصص في أدب القرون
الوسطى، أمّا “عائلة غوتشي” فيحكي عن نقطة تحول في تاريخ الأسرة التي خلقت
العلامة التجارية الشهيرة، والمصائر البائسة التي تلقّفت أفرادها، يعتمد
الفيلم على كتاب سارا غاي فوردِن المتخصصة في شؤون الموضة الإيطالية لأكثر
من 15 عامًا.
الفارق بين عرض الفيلميْن شهر ونصف تقريبًا، لكن ردود
الأفعال جاءت على غير المتوقع.
لا قصة رديئة في الواقع
يعرف كل مُخرج ألّا وجود للقصة الرديئة، وأنّ الفيلم قد
يكتسح بأرقامه ويخطف الجوائز لأسباب كثيرة: وجهة نظر السرد، طاقم التمثيل،
السيناريو المُحكم، طريقة عرض النهاية، التصوير، وغيرها من الأسباب، وقد لا
يكون هناك أسباب يُمكن الإمساك بها لهذا الاكتساح ولكن هذا موضوع آخر.
بالنسبة لـ”المبارزة الأخيرة” و”عائلة غوتشي” فكلا القصتين
حقيقيتان، وبالتالي لا يُمكن اتهام الواقع بالرداءة، لكن سيناريو الفيلم
الأوّل، وطريقة الثلاثة رواة، كان أكثر إصابةً للهدف من الخط الضيّق
المتوقع في “عائلة غوتشي”، لقد سمح سيناريو “المبارزة الأخيرة” للقصة بأن
تتكشّف ببطء، وأن تتقشّر الشخصيات كتماثيل تغدو أوضح وأدق بمرور الوقت
وبتكرار الكشط.
أمّا فيلم “عائلة غوتشي” فقد ذكرني بفيلم ستيف كَريل عن
الرجل الذي بلغ الأربعين دون أن يمارس الجنس، يقول أحد الأبطال بأنّه أُحبط
بعد دخول أحد العروض في المكسيك، إذ كُتب على أحد الأماكن بأنّ في الداخل
“فتاة تضاجع حصانًا” فظنّ أنّ الأمر رائعًا ومختلفًا، لكن حينما دخل وجد
فتاةً تضاجعُ حصانًا بالفعل!
“عائلة
غوتشي” فيلم شديد المباشرة عن جريمة قتل عائليّة، وهو أمر يبدو جليًا حتى
من شريطه الدعائي كما ذُكر أعلاه، بل قد يُخمن المشاهد الحصيف بأنّ جموح
المشهد الجنسي بين باتريزيا وموريتزيو علامة على أنّ العلاقة ستنتهي في
منضدة التشريح وكرسي الإعدام، إنّه قصة رومانسية متوسطة الجودة، سلطت الضوء
على الزوجين متجاهلةً كل شيء آخر، حتى الظروف المُحيطة بـ”غوتشي” كعلامة
تجارية رائدة في بلد يُصدّر الجمال بالأطنان، كأن عائلة “غوتشي” تسير
منفردة على الـ”رَنواي”، لا منافسين، لا تحديّات مهنيّة وجماليّة، لا قصص
عن دور أخرى، وحتى لو قبلنا بالتركيز على العلاقة الملتهبة بين باتريزيا
وموريتزيو فقد اختفت من الفيلم تلك الحرارة التي تشع من هكذا أفلام، فبدا
كأنّه فيلم وثائقي بلا مميزات الفيلم الوثائقي أيضًا.
جُثّتان لآدم درايفر
وجوه الممثلين في “عائلة غوتشي” تم اختيارها بعناية فائقة،
الإنكليزي جيرمي آيرونز كان كخنجرٍ أثري بين لفائف الأقمشة الفاخرة، آل
باتشينو معشوق الكاميرا كالعادة، ولم نتعرّف على جارِد ليتو إلا بعينيه
الزرقاوين إذ اختفت ملامحه عبر طبقات من السليكون والماكياج، ولايدي غاغا
فخير من يمثّل الجمال منخفض السعر.
في “المبارزة الأخيرة” وجهان تحبهما الجماهير كثيرًا، مات
دايمون وبِن آفلك، الأوّل في دور المُقاتل جان دي كاروج، والثاني في دور
الملك تشارلز السادس، والبطولة النسائية من نصيب جودي كومر في دور مارغريت
دي كاروج التي قرّرت البوح بما حصل بين جدران قصرها فدخلت التاريخ.
أمّا آدم درايفر الذي يُمثّل في الفيلميْن، فهو يمتلك
واحدًا من أجمل الأعناق الرجاليّة في جيله، يستقرّ فوقه وجه ذو عيب واضح في
تناسق السيمترية، تحت كل هذا قامة بالغة الطول (أقل من مترين بـ 11سم)،
وهذه التوليفة الشاذة بالمعنى الإيجابي للكلمة جعلته مناسبًا لدزينة من
الأدوار.
شخصيات “عائلة غوتشي” تسرق العين: الملابس، والماكياج،
والألوان، تلك الجاذبية التي تميزت بها على الملصق الدعائي، تبخرت بقدرٍ لا
بأس به أثناء الفيلم، لم يتعمق السيناريو شبرًا واحدًا في تكوين الشخصيات،
في دار السينما كان الجمهور يضحك حتى غطى على صوت الممثلين في أكثر المشاهد
تراجيدية، مثل اللحظة التي منحت فيها باتريزيا ألبوم الصور لزوجها متوسلةً
إياه تحت إضاءة المصابيح!
الجهدُ المسكوبُ على المظهر الخارجي لشخصية بابلو غوتشي
(جارِد ليتو) لم يُثمر كثيرًا في خلق التأثير الدرامي له، لايدي غاغا كانت
تمثل في المسرح المدرسيّ، خاصة في النصف الثاني من الفيلم.
أمّا “المبارزة الأخيرة” فقد كان محظوظًا بما يكفي ليخدمه
المنهجُ السرديّ، إذ اعتمد سكوت على نوعين منه: النسق الدائريّ ونسق
التكرار، الأول دعم التشويق، والثاني عزّز تطوير الشخصيات التي كان حضورها
طاغيًا، بدون نظرة زائدة أو ناقصة.
إنّ عنوان “عائلة غوتشي” مضللٌ، لأنّه ليس عن العائلة، بل
عن قصة باتريزيا وموريتزيو، وقد ترهّل السرد فيها كأنّ ساعات إعلانية طويلة
تتخللها، لم يكن هناك إي إعلانات بالطبع، إنّه فقط قصورُ القصةِ عن اللحاق
بالحبكةِ، تلك الشبكة السحريّة التي تربطُ جزيئاتِ الفيلمِ ببعضها فتمنحها
سلاسةً، ومنطقيةً، وتأثيرًا لم تكن موجودة.
سوء الختام وحسنه
لو نجا “عائلة غوتشي” من كل ما سبق لا يُمكن أن ينجو من
مشاهده الختامية، نهاية مُطفأة، طفولية للغاية، امتداد للعاديّة التي ميّزت
هذا العمل، نهاية تمنح المشاهد جرعتها العاطفية الأخيرة كمن يُسلم فاتورة
الكهرباء، في قاعة المحكمة يُنادي القاضي باتريزيا فترد مُعترضة على ذكر
لقبها الحقيقي: يُمكنك أن تناديني بالسيدة غوتشي!
بينما كل ما في “المبارزة الأخيرة” يُحفّز المشاهد للتأمّل،
ولتقليب الحقائق التي عُرضت من جميع زواياها، الجموع الهمجية تحتفل بالبطل
جان دي كاروج بينما مارغريت، الفارسة الحقيقية لما حدث، مقصيةً في الوراء،
وكل ذلك معه حفنة من الأسئلة التي لا تقف عند عتبةِ الفيلم، بل تتجاوزه نحو
السياسةِ، والمشاكلِ الاجتماعية، والدين، والأعمق: تذهب إلى ذات المشاهدِ
نفسِه!
لماذا فاز “المبارزة” بالمبارزةِ
“المبارزة
الأخيرة” فيلم متماسك، إيقاعه متّزن، بانوراما شاملة لتلك الفترة المظلمة
من تاريخ أوروبا: شكل الدولة، الفضيلة والرذيلة، الجنس والعنف، العلاقة بين
النساء والرجال، والعلاقة بين الرجال أنفسهم.
إنّ
“المبارزة الأخيرة”، أريكة مُريحة لريدلي سكوت، الاقتتال، والسيوف
المشحوذة، والمشاعر البدائية الخام موضوعه الذي جرّبه من أوّله لآخره،
ويعرف تمامًا أين يضع يده، حيث تتحول الجثث، والأحشاء، والرؤوس المفصولة
بين يديه إلى لوحة فنيّة، وريدلي سكوت، مثل المُخرج سام مِنديز، جواهرجي
جثث، مُبتكر، في فيلمه الشهير “إليان” يحاول أحد الابطال خنق غريمته بحشر
مجلة إباحية في حلقها!
بل حتى الإشكاليات التي تحف مفهوم الاغتصاب قدّمه ريدلي
سكوت في “ثيلما ولويز” قبل ثلاثين عامًا، مُكثفًا ذلك في عبارة لويز (سوزان
سارندون) الشهيرة: لا يُمكن لامرأة أن تبكي هكذا وهي مُستمتعة!
قد يتهم البعض “المبارزة الأخيرة” بأنّه ركوبٌ بشكلٍ ما
لموجة “أنا أيضًا” النسويّة، وإن صح ذلك فهذا أفضل ركوب على الإطلاق، بجانب
فيلم “شابة واعدة” الذي صدر العام الماضي.
“عائلة
غوتشي” فيلم مصنوع بأطرافِ الأصابع، فوّت الكثير ليُصبح دراما تختم أثرَها
بالنار، فلا تفاصيل الخيانة، ولا الإخلاص، ولا الولع الجنسيّ، وجدت متسعًا
في وجدانِ المشاهد.
لكن من جانبٍ آخر لم يخلُ “عائلة غوتشي” من الإيجابيات
أيضًا، متعة بصريّة، كعادة الأفلام التي تدور في إيطاليا، ألوان الفيلم هي
الألوان العلامة/الميزة لـ”غوتشي”: الذهبي، مع تدرجات الأخضر والأحمر مع
البني والأسود، وبجانب الألوان تجيء اللغة الإيطالية الفاتنة التي تصلح
للشعر، والبذاءة، والغرام، والهجاء بنفسِ القدرة على السحر!
التمثيل يستحق إشادة أيضًا، من أفضل الأداءات في الفيلم جاك
هيوستن في دور دومينيكو دي سولي، بالإضافة إلى جيرمي آيرونز وآل باتشينو
بالطبع.
يبلغ طول الفيلميْن ساعتين ونصف تقريبًا بزيادة ست دقائق
لـ”عائلة غوتشي”، لكن في ميزان الدراما، فقد تفوق “المبارزة الأخيرة” في
المبارزة فعلًا، قال المُخرج ريدلي سكوت ذات يوم بأنّه يستطيع إعادة تصوير
مَمرٍّ ما بـ 13 طريقة مُختلفة، بحيث لا يُمكن التخمين أنّ اللقطات جميعها
لنفس المكان، إنّها عبارة من أجمل ما قيل عن صنعِ الأفلام، لكن يبدو أنّ
المرةَ الرابعة عشر كانت من نصيبِ “عائلة غوتشي”. |