تشير تقارير إلى أن عدد مشاهدي حفلة الأوسكار الـ 94 تجاوز
خمسة عشر مليون متفرج بزيادة خمسة ملايين عن العام الماضي. وكانت نسب
المشاهدة تراجعت في السنوات الأخيرة بسبب جائحة كورونا.
ولأن العالم كله بات تحت هيمنة "السوشيال ميديا"، نسي
الجميع أن ويل سميث حصل للمرة الأولى على أوسكار أفضل ممثل، وانشغلوا بصفعه
مقدم الحفل كريس روك. وكأنها الحدث الكوني الأبرز، ولو بضع ساعات. فكيف
تفاعل "الوعي العربي" مع الواقعة؟
تمثيلية متفق عليها
هناك جانب مهم في الوعي العربي بأن كل ما يجري في الكون ليس
محض صدفة، بل وليد مؤامرات تُدبر بليل. فلا يقع أي حدث -جليلاً كان أو
هزلاً- إلا ثمة مؤامرة وراءه. لو تم ضبط ممثلة في وضع مخلٍ، فهي نظرية "بص
العصفورة" للتغطية على رفع سعر المحروقات.
نظرية ليست رديئة دائماً، فبالنظر إلى أن سميث ضحك على مزحة
روك، بدا أن صعوده مفتعل، ثم عودته وهو يصيح: "ابقِ اسم زوجتي بعيداً من
فمك القذر".
وإذا كان قبل المزحة ثم قلّبها في عقله فرآها غير حسنة،
وتعد تنمراً بإصابة زوجته الممثلة جادا سميث بداء الثعلبة وتساقط الشعر.
لماذا عاد واعتذر، طالما أنه محق، قائلاً: "الحب يجعلك تفعل أشياء
مجنونة"؟!
أيضاً رد فعل روك لا يبدو كمن بوغت بالتصرف، ولم يحاول
الدفاع عن نفسه ولا رد الصفعة، واكتفى بالقول: "واو... ستكون أفضل ليلة في
تاريخ الأوسكار". ثم قبوله الاعتذار وعدم تحريك دعوى قضائية ضده.
كأنّ ما حدث ما هو إلا تمثيلية مبتذلة رتبتها الأكاديمية
المانحة للأوسكار، والشركات الراعية للبث، للفت أنظار العالم.
تنمر ورجولة
ثمة مقاربة ثانية ترى أن طرفة روك تعد "تنمراً" فلا يصح أن
يكون المرض موضع سخرية واستخفاف.
ورغم الإدانة كان هناك اختلاف، بحيث رأى بعضهم أن سميث كان
بإمكانه الاعتراض بطريقة متحضرة وليس بالصفع الذي لا يليق بفنانين لهم
ملايين المعجبين. وعبّر عن ذلك الفنان المصري محمد عطية قائلاً: "الكوكب
كله بيلفظ العنف ويدين تصرف ويل سميث ما عدا إحنا شايفينه شهامة ورجولة".
بينما رأى بعضهم الآخر في سلوكه "رجولة" للحفاظ على كرامة
زوجته، معتبراً رد فعله منطقياً في ظل تاريخ سابق لروك تعرض فيه مرات
للسخرية من الزوجين سميث. وعبرت الفنانة أحلام عن ذلك في تغريدتها بأنه
"يستحق الضرب بلا إنسانية"، وقالت الممثلة المصرية عبير صبري بأنها "صفعة
لكل المتنمرين".
ليس "القبضاي الحمش"!
تتردد في الثقافة العربية مفردات كثيرة لوصف الرجل بالقوة
والذكورة و"المرجلة" فيقال إنه "قبضاي" و"حمش"، ويُقاس ذلك بمدى غيرته على
نسائه. مقابل صفات سلبية تنتقص منه إذا كان متساهلاً مثل "ديوث" أو "قرني"
في العامية المصرية في إشارة إلى أنه حيوان بقرنين لا يغار، وهو تعريف جسده
بصرياً صلاح أبو سيف في فيلمه "القاهرة 30" عندما رضي حمدي أحمد بالزواج
صورياً من عشيقة الوزير، وظهر أثناء عقد القران بقرنين فوقه. وهي صفة
طورتها العامية المصرية إلى "راجل إريال".
وفق هذا التصور الراسخ للذكورة، نشر كثيرون تعليقات ساخرة،
لأنه لا يُعقل أن ينفعل سميث على هذا النحو، رغم أنه هو نفسه ألمح إلى أنه
في علاقة "زواج مفتوح". أي أنه ليس "الرجل الحمش القبضاي"، وتصرفه
الاستعراضي لا يتسق مع تاريخ علاقته بزوجته.
هذا المنظور الذكوري والشرقي، يختلف عن التصور الغربي.
فالزواج (المفتوح) وإن كان مرفوضاً في مجتمعاتنا، فإنه مقبول لدى شريحة في
الغرب الذي يحترم الحياة الخاصة لأبعد مدى، ويترك لك حريتك الجنسية كاملة،
طالما أنها لا تمثل تهديداً أو اعتداء أو إكراهاً واستغلالاً لأحد.
لا ينشغل الغرب كثيراً بطبيعة العلاقة الزوجية، سواء أكانت
مفتوحة، أو من دون وثيقة دينية كما في حالات كثيرة. بينما الحياة الجنسية
في الشرق لا تتمتع بأية حريات، وخاضعة دائماً لمراقبة وتقييم المجتمع. ولا
يمكن قبول أية صيغة زواج إلا بموافقة السلطة الدينية. وهناك مسألة الحرية
الجنسية أو "الزواج المفتوح" لا تعني قبول التنمر والإهانة والتحقير، فهذا
مرفوض تماماً. بينما في ثقافتنا يمكن تمرير أو تبرير كل هذا بسهولة.
المفارقة أن الوعي العربي الذي يعلن استياءه من "الزواج
المفتوح" قد يتغاضى عنه طالما ليس معلناً. كما يقبل أن يقيم الرجل المتزوج
علاقات مع زوجات الآخرين، باعتباره دليل رجولة، لكن يرفضه للزوجة. أي هناك
قبول وتواطؤ على أن يكون للزوج وحده حق (العلاقات المتعددة) لكنه غير مسموح
للمرأة! مع أن قبول علاقة مفتوحة من الطرفين قد يكون أكثر أخلاقية واتساقاً
مع النفس، من قبول ذلك لطرف من دون آخر!
سيطرة جادا
ثمة مقاربة رابعة تشير إلى تعقيدات علاقة ويل وجادا، وأنها
ذات تأثير نفسي سلبي فيه، لأسباب كثيرة من بينها غيرتها من نجاحه الكبير،
وهو ما عجزت أن تحققه كممثلة.
من ثم تورطت في نزوات عاطفية (ولو على سبيل الانتقام منه
وتشويه صورته) وكان عليه أن يتحملها كي لا ينفرط عقد الأسرة. من ثم فرضت
هيمنتها عليه. ولدى أصحاب هذا الرأي حجة قوية، تتمثل في ضحك سميث على
الطرفة وقبولها، ثم تراجعه السريع الحاد بعدما نظرت إليه زوجته نظرة
استهجان، أي أن غضب سميث ليس حقيقياً، بل كان أداة للتنفيس عن غضب الزوجة
التي تعرف كيف تستثمر سرعة انفعاله لمصلحتها.
يضاف إلى ذلك شعوره بالضغط مع ترشحه، وللمرة الثاثة،
للأوسكار، وخوفه من عدم الفوز. وما حثّه على التصرف بهذه الفجاجة شعوره بأن
كريس روك "أدنى منه" واحتقاره الداخلي له وتحيّنه فرصة الانتقام منه.
بل ثمة من ردّ العنف عند سميث إلى طفولة ويل ومعاناته من
عنف أبيه حيث روى كيف رآه يضرب أمه في رأسها والدم يسيل من فمها وشعوره
بالعجز عن إنقاذها. ثم لاحقاً فكر جدياً في قتل أبيه الذي أصيب بالسرطان
آنذاك إنفاذاً لعهد قطعه على نفسه: "سأنتقم لأمي يوماً ما".
الوقائع تشير إلى عقدة أوديب بامتياز، والتي لا تفسر اندفاع
وعنف ويل فحسب، بل تفسّر أيضاً تعقيدات علاقته بزوجته على مدار ربع قرن.
فعل فوضوي
إذا كانت الواقعة "تمثيلية" من الجهة المنظمة، رغم أنها
أصدرت بياناً يرفض "كل أشكال العنف". أو كانت معبّرة عن "رجولة" ويل أو
كاشفة لـ "عدم رجولته"، أو دالة على خضوعه لسحر جادا وسيطرتها، أو علامة
تفسّرها عقدة أوديب وطاقة العنف والاندفاع المخزونة في طفولة سميث.
فإن كل ما سبق لا يجيب عن سؤال آخر مهم، لا يتعلق بدوافع
ومبررات فاعل الصفعة، بل بهوس التريند بها. لماذا؟
هناك ثلاث إجابات محتملة تفسر انشغال الملايين:
أولها الطبيعة الهامشية والفوضوية للفعل وسط خطاب بالغ
النظام والتأنق يحضره كبار المشاهير من النجوم والأثرياء. فلدينا ذلك الميل
الفطري للضحك والتركيز على لحظات الفوضى مثل انقطاع فستان أو سقوط مشد صدر
لمغنية. غالباً ما يأخذ ردّ الفعل طابعاً مرحاً وساخراً، يشبه طريقة شابلن
المتأنقة في ارتداء البدلة والكرافت ثم ظهوره كاملاً بلا بنطال، أو جلوس
مستر بِين في مطعم فخم مع عجزه عن التصرف مع "الكابوريا".
هذه الخطابات الطارئة التي ليست في محلها، والمتعارضة مع
الخطاب الرئيس، تمنح الجمهور متعة الضحك ولذة الشعور بأنه أكثر وعياً من
هؤلاء الحمقى.
الإجابة الثانية والمختلفة قليلاً، فهي تسقط على الفعل
عمقاً ثورياً، وانتقامياً، ليس فقط انتقام سميث من مذيع أساء إلى زوجته، بل
باعتبار أن الموقف كله انتقام من حفل الأوسكار، وإظهار بلاهته، وادعائه،
واستعراضاته الجوفاء.
إن الجمهور يتعلق دائماً بالأفعال الانفعالية والثورية
البسيطة التي تكسر جدار النظام، وتهدد الخطابات المهيمنة، كأن يستيقظ الناس
على جدارية هازئة من الزعيم الذي يعد عليهم الأنفاس، أو مثل حذاء الصحافي
العراقي الموجه إلى الرئيس الأميركي. هذه الثورية الصبيانية، تمنح شعوراً
بالعزاء والانتقام من خطابات أساسية، وربما ينطوي الأمر على درجة من الحقد
والحسد والتشفي.
أما الإجابة الثالثة، فمع الإقرار بمقولة فوكو عن الخطاب
المهيمن بوصفه أداة للتحكم والسيطرة، ومع استمتاع الجمهور بكسره، من باب
التسلية والمرح والسخرية، أو بوصفه فعلاً ثورياً انتقامياً. فإن العلاقة
بين الخطابين: الرئيس، والهامشي، هي علاقة إزاحة بامتياز. بمعنى أن صفعة
سميث لم تكن على وجه روك بل على وجه العالم نفسه.
فالعالم الذي يتلقى صفعات عنيفة وقاسية من حروب وموجات غلاء
وقيود كورونا، وفقد الثقة بقادته، وتحت وطأة تلك الضغوط الثقيلة والمهددة
لوجوده، قرر أن يزيح العبء كله تجاه حادث عرضي، وتافه، وشخصي جداً. فلن
نعدم كاريكاتوراً يصور بوتين -مثلاً- وهو ينظر مستغرباً إلى وسائل الإعلام
وكلها تحكي عن صفعة سميث وليس عن حربه!
هذه الإزاحة لا تفسر فقط الهوس بصفعة سميث، بل تفسر آلية
مهمة من آليات رواج أي تريند. فأياً كان موقفنا من الصفعة وتأويلنا لها،
فهي فرصة مهمة للاختباء وراءها من الجنون الحقيقي الذي يعيشه العالم. |