سورينتينو و"يد الله".. تلاشي المسافة بين الحقيقة
والأكاذيب
سارة عابدين
للسينما في أوقات كثيرة تقاطعات مختلفة مع الذاكرة. يمكن
للصورة البصرية والمشاهد المعروضة أن تتقاطع مع ذكرياتنا الشخصية. يحدث
الأمر أيضًا مع الموسيقى الخاصة بكل فيلم، ومع الزمن الذي تدور فيه القصة،
ومع أبطال الحكاية. ومن أشهر ثيمات السينما، الثيمات المتعلقة بالحنين إلى
الماضي. بعضهم يدين تلك الفكرة التي تجذب الناس إلى زمن مضى، وتبعدهم عن
الواقع، وترسخ فكرة رفض الحاضر، وجمال الماضي فقط. لكن رغم تلك المجادلات
يبقى الحنين إلى الماضي شعورًا باقيًا في داخل البشر.
في الفيلم الأحدث للمخرج الإيطالي، باولو سورينتينو، يعود
في قصة أقرب إلى السيرة الذاتية إلى نابولي في ثمانينيات القرن الماضي، من
خلال تركيزه على البطل المراهق فابييتو (فيليبو سكوتي)، الذي يمثل
سورينتينو نفسه، وتقلباته وأفكاره المشوشة في مراهقته. يعرض الفيلم منذ 15
ديسمبر الماضي على نتفلكس، وكان ثاني أكثر الأفلام غير الإنكليزية مشاهدة
خلال الأسبوع الأول لإطلاقه على المنصة.
فاز الفيلم بجائزة لجنة التحكيم الكبرى عند عرضه لأول مرة
في مهرجان البندقية السينمائي الثامن والسبعين، برئاسة المخرج الكوري
الجنوبي بونغ جون، كما حصل فيليبو سكوتي على جائزة مارسيلو ماستروياني عن
دوره في الفيلم، واختير الفيلم ليمثل إيطاليا في قائمة أفضل فيلم روائي
طويل دولي.
المسافة بين الحقيقة والأكاذيب
يقول سورينتينو في حديث صحافي له "أعتقد أن أكبر فرق بين
هذا الفيلم وأفلامي الأخرى يكمن في العلاقة بين الحقيقة والأكاذيب. بينما
تنمو أفلامي الأخرى وتتغذى على الخيال والأكاذيب، على أمل تعقب جزء من
الحقيقة، بدأ هذا الفيلم من مشاعر حقيقية كيفتها لاحقًا مع الشكل السينمائي".
"فاز
الفيلم بجائزة لجنة التحكيم الكبرى عند عرضه في مهرجان البندقية السينمائي
الثامن والسبعين، برئاسة المخرج الكوري الجنوبي بونغ جون، كما حصل فيليبو
سكوتي على جائزة مارسيلو ماستروياني عن دوره في الفيلم"
يدور الفيلم حول الشاب فابييتو، وهو مراهق انعزالي يحب
الموسيقى والأدب والفلسفة. يمر الشاب بمرحلة حرجة، ولا يعرف ماذا ينتظره في
المستقبل. ليس لديه صديقة، ولا يعرف ماذا يريد أن يدرس، لتتطور الحكاية
ويقرر في النهاية أن يصبح صانع أفلام. يقول سورينتينو عن المراهقة "هذا
الوقت هو وقت ملعون. حيث يعيش الإنسان في حالة من النسيان، في تلك المنطقة
الوسطى بين الطفل الذي لم يعد موجودًا، والشخص اللذي لم يكبر بعد". لذلك
تصبح تلك المرحلة معقدة بالفعل، وتزداد تعقيدًا بالنسبة للبطل فابييتو،
بسبب طبيعته الشخصية، وبسبب مأساته العائلية التي ستحدث في ما بعد.
يأخذنا سورينتينو إلى نقطة البداية، لنتعرف على التحولات
الاجتماعية والعاطفية والصدمات التي تعرض لها فابييتو ليصل في النهاية إلى
أول الطريق الذي اختاره. في البداية، نتعرف على عائلة فابييتو، وهي عائلة
كبيرة مليئة بالدراما والحب والضحك. بطريقة مستوحاة من أسلوب فيلليني بشكل
ما، يعرفنا سورينتينو على أفراد العائلة، ويبرز عيوبهم وغرائبيتهم. نجد
العمة الكبيرة التي تكيل السباب لأي شخص، وأم فابييتو التي تحب المقالب حتى
القاسية منها، والعمة الصغيرة التي تبلغ من العمر 40 عامًا وتحب رجلًا عمره
70 سنة، بالإضافة إلى الخالة باتريسيا التي تمارس الجنس بإفراط، وتتعرى
ببساطة في أي مكان طالما أرادت ذلك. هنالك، أيضًا، الأب الذي يبدو زوجًا
وأبًا مثاليًا ومتفهمًا، لكن المشاهد يكتشف في ما بعد أنه على علاقة بامرأة
أخرى منذ سنوات، حتى أنه أنجب منها صبيًا، فتحولت إلى علاقة معقدة لا يُمكن
إنهاؤها تمامًا، ليصبح هذا الأمر موضع خلاف بينه وبين زوجته ماريا طوال
الوقت.
ليس الأمر في الفيلم مجرد عرض لشخصيات استطاع سورينتينو
تمثيلها بدقة ليبرز طبائعها المختلفة فقط. الأهم كيف أثرت تلك العائلة
وشخصياتها في ذلك الفتى المراهق الذي يبدو غير راغب، أو غير قادر على
الانغماس في هذه العالم المزدحم، لكنه يشاهده من بعيد، أو بالأحرى يراقبه،
وكأنه ليس جزءًا منه. يتحدث الفنانون والفلاسفة دائمًا عن مشاعر الاغتراب
التي تغمرهم، وتمنعهم من التفاعل مع العالم من حولهم بالطرق المعتادة. في
هذا الفيلم، نشاهد الاغتراب ونلمسه في عيون الفتى الشاردة دائمًا، وفي
خطواته الواسعة، والووكمان الصغير الذي يحمله دائمًا، ليضع السماعات على
أذنه وكأنها ستارة تفصله أكثر عن العالم المحيط.
يحافظ سورينتينو طوال النصف الأول من الفيلم على مسافة بين الشاب وبين أي
مشاعر، أو عواطف، لكن بعد أن يفقد والديه معًا نراه وهو يبكي أخيرًا في
ساحة المدرسة، ليعكس الفيلم مشاعر ما بعد الصدمة، والألم الذي لا يوصف عند
فقدان شخص نحبه. لحظات تمثل بعمق التحول الذي يحدث للإنسان بعد الضربات
المأساوية. كيف يجبر على التفكير في مستقبله بشكل عميق، في حين أن كل ما
يريده هو أن تستمر حياته بالطريقة التي اعتاد عليها. هنا يتحول الشاب إلى
السينما، بعدما أصبح يمتلك حكاية خاصة يرغب في روايتها، أو ربما ألمًا
خاصًا يرغب في التخفف منه. أما في النصف الثاني من الفيلم فيتحول النعيم
إلى مأساة. تختفي المشاهد العائلية المشمسة، وتتحول إلى مشاهد فردية، ويكبر
الفتى من خلال التجربة.
قصيدة شعرية لمدينة نابولي
يمكن اعتبار الفيلم قصيدة شعرية لمدينة نابولي، وتفاصيلها،
وحتى سكانها الذين يتابعون جميعًا أهداف مارادونا، ويهتفون في الشرفات.
قصيدة بصرية بعيون سورينتينو يحكي من خلالها حكاية مدينته كما أخبره المخرج
أنطونيو كابوانو، الذي قام بدوره الممثل (سيرو كابانو) في المشهد المسرحي
الذي ظهر فيه.
يتجول كابوانو في وقت متأخر من أجل السباحة في خليج نابولي،
ليخاطب تلميذه المحتمل حول أهمية الشجاعة، والاستقلالية، وأصالة السعي وراء
الحكاية الخاصة. ربما يرى بعضهم المشهد كمشهد خطابي، لكنه لا يبدو كذلك في
إطار الفيلم والحكاية، خاصة مع رد فعل الصبي، بعدما حاول كابوانو استفزازه
بشكل ما ليقر بحكايته الشخصية التي يرغب فيها قائلًا "والداي ماتا، ولم
يسمحوا لي برؤيتهما". هذه هي اللحظة الفارقة في حياة الفتى ومشاعره، اللحظة
التي تحولت فيها الحياة بعدها، وتحول هو أيضًا إلى شخص جديد له حكاية شخصية.
يقول كابوانو في حواره مع فابييتو "من دون صراع لا يمكنك
التقدم". تساعدنا تلك المحادثة التي دارت بينهما على فهم طرق إلهام
سورينتينو كمخرج، حيث كان أنطونيو كابوانو معلمًا لسورينتينو في الحياة
الواقعية. يسرد كابوانو الحقائق على الفتى فابييتو بلا رحمة، في الوقت الذي
لا يرغب فيه الفتي في سماعها. كل شخص يعاني من الألم، وكل شخص لديه طريقته
لمكافحة الألم. لا يوجد شيء فريد في الألم نفسه، لكن إذا تعمق المرء في
الألم قد يجد شيئًا أصيلًا في جوهره. هنالك دائمًا قصة مخبأة في عمق الجرح.
يخبر كابوانو فابييتو أن الأمل لا يصنع أفلامًا جيدة. الراحة هي الفخ
الأكبر لأي فنان. نحن جميعًا بمفردنا تمامًا، ولدينا نصيبنا العادل من
الأسف، والصراعات اليومية.
"أنقذ
مارادونا الفتى فابييتو من المأساة التي أودت بحياة والديه. بسبب حضوره
المباراة، لم يكن حاضرًا في المنزل وقت تسرب الغاز"
أخبره فابييتو بعد الاستماع إليه أنه يريد الهروب من
الواقع. يريد أن يصنع أفلامًا ليبقى في عالم الخيال. لكن هذا المفهوم
المجرد غير كافٍ. أجمع صناع الأفلام العظماء، مثل فيلليني، وبيرغمان، أو
حتى سورينتينو نفسه، على أن الفن العظيم لا يأتي أبدًا من مكمن الراحة.
كانت المشاعر الصعبة، مثل القلق، والخوف، والصراعات، أكبر عدو للإنسان، وفي
الوقت نفسه أكبر حليف له، اعتمادًا على الطريقة التي يرى فيها الإنسان تلك
المشاعر، والطريقة التي يتعامل بها معها.
انطباعات لا تنسى
مثله مثل فيلليني، لدى سورينتينو في الفيلم شخصيات نسائية
مثيرة للاهتمام بشكل استثنائي توسع نطاق رواية القصة. يوجد في الفيلم
الخالة باتريسيا "ليزا رانييري"، التي تعاني من عنف زوجها المستمر نحوها.
تبدو شخصية مأساوية حسية، وغامضة بالنسبة للشاب فابييتو، خاصة مع استمرارها
في خلع ملابسها ببساطة أثناء التجمعات العائلية، لتمثل الخيال الجنسي الأول
للفتى. بالإضافة إلى البارونة العجوز، التي اختبر معها أول تجربة جنسية له.
أخبرته البارونة العجوز أنها وضعته على أول طريق المستقبل، لتساهم بشكل ما
في تحويل الطفل المراهق إلى شاب يافع جاهز لمواجهة الحياة.
وسط كل هذه الأحداث، يبرز الحدث الأهم بالنسبة لفابييتو،
وهو وصول نجم كرة القدم، دييغو مارادونا، للعب مع فريق نابولي. أنقذ
مارادونا الفتى فابييتو من المأساة التي أودت بحياة والديه. بسبب حضوره
المباراة، لم يكن فابييتو في المنزل وقت تسرب الغاز. من المعروف في الواقع
أن مارادونا كان قد استخدم جملة "يد الله" خلال كأس العالم عام 1986 في
المكسيك، عندما سجل هدفي الأرجنتين في مرمى إنكلترا. كشفت الإعادة خلال
المباراة أن رأس مارادونا لمست الكرة. وعندما سُئل عن الهدف بعد المباراة،
أجاب بوقاحة "قليلًا من رأس مارادونا، قليلًا بيد الله".
في نهاية الأمر، يدور فيلم "يد الله" حول إيجاد طرق
للاستمرار في الحياة، بعد المآسي والانهيارات، لذلك ربما تتلامس الحكاية مع
الحكاية الشخصية لكل شخص منا. ربما نجد أنفسنا في أي من أبطال تلك الحكاية
المليئة بالشجن والذكريات، وربما يساعدنا الفيلم على إيجاد طرق شخصية
للاستمرار في الحياة، وتدوين حكايتنا الخاصة.
مراجع:
https://www.rogerebert.com/reviews/the-hand-of-god-movie-review-2021
https://time.com/6129753/the-hand-of-god-review/
https://www.nytimes.com/2021/12/14/movies/the-hand-of-god-review.html
https://dmtalkies.com/the-hand-of-god-summary-ending-explained-2021-film-paolo-sorrentino/ |