الوصية الأخيرة للمعلم الكبير: تحفة باولو تافياني في برلين
أمير العمري- برلين
تحفة أخرى في مهرجان برلين السينمائي الـ 72 بعد التحفة
الصينية، تمثلت في فيلم “ليونورا.. وداعا”
Leonora Addio،
الفيلم الثاني الذي يخرجه بمفرده، باولو تافياني وهو في التسعين من عمره
(مواليد نوفمبر 1931)، بعد وفاة شقيقه التوأم “فيتوريو” عام 2018، وهو الذي
اعتاد مشاركته العمل في كل ما قدماه معا من أفلام، وكانت تحمل دائما
اسميهما معا، فمثل هذا الانسجام النادر في الفن، هو الذي يظل باقيا، وينسب
لهما معا.
بدأ الأخوان تافياني العمل في السينما في ستينيات القرن
الماضي، لكنهما أصبحا في بقعة الضوء، بعد أن حصول فيلمهما الذائع الصيت
“الأب السيد”Padre
Padrone
على “السعفة الذهبية” في مهرجان كان السينمائي عام 1977. ومن أشهر
أفلامهما بعده، “ليلة سان لوزنرو” و”صباح الخير يابابل” و”فوضى” و”قيصر يجب
أن يموت”، والأخير فاز بالدب الذهبي في مهرجان برلين عام 2012. وهو آخر ما
أخرجاه معا.
جاء التأثير الأكبر على سينما تافياني، من مدرسة “الواقعية
الجديدة”، وتتخذ أفلامهما المليئة بالدراما، طابعا تسجيليا، لكنهما نجحا في
تطوير الأسلوب بحيث أصبحا يمزجان بين الواقعية النقدية التي تهتم بإبراز
الجانب الاجتماعي، وسينما الحداثة التي تدور بين الذاتي والموضوعي، وبين
الاجتماعي والتاريخي والفلسفي. ورغم اعتمادهما في الكثير من أفلامهما على
الاقتباس من الأدب، إلا أن أفلامهما تحمل بصمة خاصة هي تلك التي تميز عمل
المخرج- المؤلف، فنان السينما المبدع، الذي يكتب أدبه الخاص.
وقد يكون القاسم المشترك الذي يجمع بين الفيلم الجديد
لباولو تافياني، والتحفة الصينية التي شاهدناها (وقد قدمت تحليلا لها في
مقال سابق) رغم اختلاف المكان والموضوع، ذلك الاهتمام الواضح بموضوع
الموت.. فالموضوعة الرئيسية في كليهما، هي موضوعة الموت.. غموض الموت،
وتفاهة التعامل مع الموت من جانب البشر. في الفيلم الصيني مثلا، بعد أن
يختار بطله الذهاب إلى الموت بعد وفاة زوجته التي أحبها كثيرا ولم يعد
يمكنه العيش وحيدا من بعدها، يأتي مسؤولو البلدية لإزالة منزله، ويكون كل
ما يقوله قريبه الذي قبض ثمن الإزالة: “لعلها تكون بداية لحياته الجديدة”!
يقتبس باولو تافياني عنوان فيلمه “ليونورا وداعا” من عنوان
رواية قصيرة للكاتب الإيطالي بيرانديللو، الذي عرفه جمهور المسرح في العالم
العربي منذ الستينيات، من خلال مسرحيته “ست شخصيات تبحث عن المؤلف” التي
أصبحت درسا في الدراما الجديدة أو الواقعية الساخرة، وهي مسرحية “طليعية”
رغم أنها صدرت عام 1921. وكذلك عرف الجمهور العربي أفلام الأخوين تافياني
مع فيلمهما “فوضى”Kaos.
والمفارقة أن هذا الفيلم كان يستند إلى خمس قصص قصيرة لبيرانديللو. أما
الفيلم الجديد فلا صلة له برواية بيرانديللو بل هو فقط اقتبس العنوان على
سبيل التحية والتذكير بعالم هذا الكاتب الكبير الذي لعب دورا بارزا في
تاريخ الأدب الإيطالي الحديث.
وبيرانديللو المولود في صقلية، هو محور فيلم تافياني.
ويتكون الفيلم الذي يقع في 92 دقيقة،
من جزئين. يدور الجزء الأول في روما وهو مصور في مدينة السينما الشهيرة
(شينشيتا) التي صور فيها فيلليني معظم أفلامه، ويدور الجزء الثاني في
صقلية، موطن بيرانديللو. وبينما يعتبر الجزء الأول عن بيرانديللو نفسه
وعبثية ما بعد موته، فالجزء الثاني عن عبثية الموت نفسه بشكل عام من خلال
استلهام آخر قصة قصيرة كتبها بيرانديللو قبل وفاته عام 1936 وتحمل عنوان
“المسمار”. وبيرانديللو الذي كتب 40 مسرحية ومئات القصص القصيرة، وحصل على
جائزة نوبل عام 1933، كا هو الذي وضع الأسس الأولى لما عرف فيما بعد، بـ
“مسرح العبث”.
يهدي باولو فيلمه إلى شقيقه الراجل، فيتوريو، ويسيطر موضوع
الموت على الفيلم كما لو أن باولو يرثي شقيقه ويرثي نفسه أيضا، أو يتنبأ
بموته، وكما يبدو وكأنه يرد وصيته الشخصية عندما يستعير عبارة بيرانديللو
وهو يقول إنه لا يريد أن تقام له جنازة رسمية. وقد تحقق لبيرانديللو مطلبه
بالفعل رغم اعتزام الديكتاتور الفاشي موسوليني في البداية، إقامة مثل هذه
الجنازة.
ويبدأ الجزء الأول من الفيلم الذي يستغرق نحو ساعة، بمشهد
عبقري يبدو في تكوينه سيريالياً، يجسد الموت. فداخل غرفة فسيحة من خلال
إضاءة يشيع فيها الضوء الأبيض الساطع، هناك سرير في المنتصف يتمدد عليه
بيرانديللو العاجز تماما الذي لا نرى وجهه. على اليمين أرفف للكتب، وعلى
اليسار منضدة صغيرة فوقها شمعة مضيئة. ويأتينا صوت بيرانديللو من خارج
الصورة، يستغرب أن يكون الموت قد أصبح وشيكا، وأنه يبدو كما يراه الآن،
ويتساءل عن تلك الحياة الطويلة الصاخبة التي عاشها، وعن مغزاها. ثم يتذكر
أبنائه الثلاثة وهم أطفال، يدخلون إلى الغرفة صغارا يافعين، ثم كيف انهم
كبروا وأصبحوا عجائز لهم شعر أبيض، وهنا تتغير الصورة عن طريق المزج، لنرى
الأبناء الثلاثة: رجلان وامرأة، كبارا كهولا، يقتربون ويتحلقون حول الفراش
المسجى عليه. اللقطة الأخيرة في المشهد، من الخلف، من زاوية مرتفعة، تطل
على جسد بيرانديللو المسجى الصامت لنعرف أن روحه قد فاضت.
بعد ذلك مباشرة، تظهر عناوين الصحف تنشر خبر وفاة الكاتب
العظيم. ويعيد المخرج العظيم استخدام الأسلوب شبه التسجيلي عندما يستخدم
الوثائق المصورة التي تستعرض التاريخ الإيطالي الحديث، ويمزجها بلقطات
سريعة من أفلام السينما الإيطالية في عصرها الذهبي في سنوات ما بعد الحرب،
كما ينتقل من الأبيض والأسود إلى الألوان، وإن كان معظم الجزء الأول يظهر
بالأبيض والأسود.
إننا نعود مثلا في لقطات تسجيلية إلى الخطاب الأصلي الذي
يعرب فيه بيرانديللو عن قبوله لجائزة نوبل في الآداب، ثم حفل تسليم الجائزة
بحضور ملك السويد، ثم يخلق تافياني مشاهد يحاكي فيها مسرح بيرانديللو
وشخصياته الغريبة التي تعكس فلسفته الساخرة في الحياة.. كل هذه المشاهد
تتعاقب بسرعة كما لو كانت تتدفق من خيال رجل موشك على الموت، يستعرض شريط
حياته كلها في زمن قصير جدا، يلهث وراء أحداث الحياة.
تعيش إيطاليا أجواء الحرب العالمية الثانية ثم مرحلة ما بعد
زوال الفاشية، ودخول الأمريكيين الذي يقول أحد الرجال في الفيلم إنهم
“يتعاملون معنا باعتبارهم الغزاة.. وهم ليسوا مخطئين تماما في هذا”. ويبدي
مندوب بلدية موطن بيرانديللو تشككه في قبول الأمريكيين نقل رماد جثمان
بيرانديللو تحقيقا لوصيته لدفنها في البلدة التي ولد بها وهي “أغريجينتو”
في صقلية. لكن زميله يقول له إن الأمريكيين، يحترمون المشاهير والناجحين.
يتم استخراج الآنية الفخارية اليونانية التي وضع فيها رناد بيرانديللو من
المكان الذي وضعت فيه بعد وفاقته في بناية من بنايات روما التي حفرت فيها
فتحات تشبه الصناديق تستخدم في هذا الغرض، أي دفن الرماد.. ثم تحمل سيارة
عسكرية أمريكية يقودها سائق أمريكي مجنون يريد المرور بسرعة غير مبال
بالعمال الايطاليين من راكبي الدراجات، صندوقا خشبيا وضع المندوب في داخله
الآنية الفخارية التي تحتوي رماد جثمان بيرانديللو.
تصل السيارة الى قاعدة عسكرية، يوضع الصندوق داخل طائرة
صغيرة، ومعه حارسه الأمين المتشكك، يركب بعض الإيطاليين الذاهبين الى صقلية
الطائرة لكن ما أن يعرف الجميع أن هناك “رجلا ميتا” على متن الطائرة
يسارعون بالهبوط منها واحدا وراء الآخر، فهي عندهم أصبحت بمثابة نذير شؤم.
فيمكن أن تسقط الطائرة كما يشير أحدهم بطريقة كوميدية. ولكت الغريب أن عدوى
الخوف من المجهول تنتقل أيضا إلى الطيار الأمريكي الذي يرفض مواصلة المهمة.
يتعين على مندوب بلدية المدينة القادم من صقلية، حمل النعش
إلى القطار حيث يستعرض تافياني ببراعة، الوجوه والشخصيات المختلفة لراكبي
القطار من الإيطاليين بحيث يمنحنا لمحة أخاذة في سياق شاعري، عن الحياة في
إيطاليا بعد الحرب: فتاة ترقص مع فتاها على أنغام البيانو، جندي سابق التقى
بفتاة ألمانية جميلة وتزوجها وأتت للعيش معه في إيطاليا، وامرأة تغني على
نغمات الأوبرا، والمشهد بأسره تشيع فيه أجواء الحلم، ويبرز التناقض بين
الأبيض والأسود، وبين الضوء والظل، ويتهادى على إيقاع شاعري، ويعكس الأسلوب
التأثيري. ولابد هنا من القول إن تافياني يمزج في فيلمه عامدا، بين أساليب
عدة مختلفة، فهو يريد أن يحتفي بالسينما كلها.
في القطار سيختفي الصندوق الثمين، ويجن جنون حارسه الأمين
ويظل يبحث عنه بين عربات القطار إلى أن يعثر عليه وقد حوله بعض الرجال
الذين يقضون الوقت في لعب الورق، إلى طاولة وضعوا فوقها أوراق اللعب.
المسألة بالطبع جاءت على نحو بريء، فقد وجدوا الصندوق من دون صاحب، وكان
صاحبه أو حارسه المفترض قد ذهب الى دورة المياه. المهم أن الصندوق يصل الى
البلدة الصقلية، لكن الأسقف يرفض أن يقيم الصلوات عليه، بدعوى أن رماد
الكاتب المرموق، موضوع داخل أية يونانية (الكنيسة اليونانية أرثوذوكسية
بينما الكنيسة الإيطالية كاثوليكية). ولكن مساعده الذكي يجد له مخرجا،
فيقترح نقل الرماد إلى إحدى المزهريات التابعة للكنيسة، لكن هذه كلها قد
نفدت، ولم يعد هناك سوى مزهريات صغيرة للأطفال. ولكن ما باليد حيلة. يضعون
ما يتيسر داخل واحدة منها، أما ما يفيض فيلفه صحفي شاب في جريدة ورقية
ويذهب لينثره فوق البحر. ولكن خلال الجنازة التي تعبر شوارع البلدة، يشاهد
الأطفال من الشرفات كيف أن المهرية صغيرة.. هل هي لطفل؟ تنهرهم الأم. لكن
أحدهم يستنتج أنها لابد أن تكون لقزم.. وتنتشر العبارة وتنتشر حمى الضحك
بين الجميع!
لن ينتهي أمر رماد جثة بيرانديللو وتنفيذ وصيته سوى بعد 15
سنة من وفاته حينما يضعون المزهرية أخيرا داخل كتلة صخرية محفورة بشكل فني،
في إحدى الحدائق العامة. وبذلك تنتهي رحلة بيرانديللو بعد الموت. فهل كان
الأمر يستحق كل هذه المعاناة والمتاعب؟! وهل يملك المرء من أمره شيا بعد
موته، وكيف يتعامل الناس مع الموت على هذا النحو؟ ولماذا يبدو الجميع
كالمهرجين في خيمة كبيرة للسيرك؟ كلها تساؤلات تسري من تحت جلد الصور،
تردنا إلى فكرة الموت وما بعده، وتحمل سخرية مريرة من تشبث الكنيسة
بالمظاهر السطحية، ونفاق الناس الذين لا يعرفون من هو برانديللو مع ادعاء
المعرفة، وكيف يظهر الفيلم الأمريكيين الذي يعتبرون أنفسهم، سادة
براجماتيين، مؤمنين بالخرافات، مثل فلاحي صقلية.
الجزء الثاني من الفيلم الذي يدور في نيويورك، تشيع فيه
الألوان الحارة التي تشبه ألوان الباستيل، وكأننا أمام لوحة من اللوحات
الفنية. هناك صبي لا يتجاوز الثانية عشرة من عمره، انتزعه أبوه من كنف أمه
في صقلية وجاء به ليعمل معه في المطعم الإيطالي الذي افتتحه في حي بروكلين.
الولد يعاني بالطبع من مرارة الفقدانـ فقدان الأم، والضياع في بيئة ثقافية
لا يمكنه فهمها أو التعايش معها. وذات يوم بينما يشاهد فتاتين يتشاجران في
عنف ولا يريدان التوقف عن الاشتباك بالأيدي. يلتقط مسامرا ضخما سقط على ما
يبدو من إحدى المركبات، ويضرب به الفتاة الأصغر المشاكسة فيقتلها على
الفور. وأمام الشرطة يؤكد أن فعلته هذه كانت (عن عمد).. لكنها بالطبع جاءت
من وحي شعوره بالألم الشخصي.
وموت
الطفلة هنا هو الموت العبثي أيضا الذي يشبه قتل المستوطن الفرنسي الرجل
الجزائري في رواية “الغريب” لألبير كامي. لكن الطفل “ويدعى باستيانيدو) لا
يمتلك فلسفة كامي ولا مشاعر بطله، بل هو فقط كان يعبر غالبا، عن شهور
بالاحتجاج والغضب، وقد أراد أن يصرخ: كفى هذا العبث. وبعد أن فعل ما فعله،
تعهد أمام قبر الفتاة أنه لن يتخلى عنها قط، بل سيأتي بعد خروجه من السجن،
لزيارتها كل سنة. ونحن نراه بالفعل، من خلال لقطات تتعاقب عن طريق المزج،
وهو يركع أمام قبرها في صور مختلفة مع مرور الزمن، إلى أن يصبح كهلا طاعنا
في السن.
الفكرة التي يمكن أن يكتشفها المطلعون على مسرح بيرانديللو
أن كل ما نشاهده هو في الواقع، من وحي مسرحه، فالأداء ليس مقصودا أبدا أن
يحاكي الأداء الواقعي، ومنذ خطبة بيرانديللو الأولى وهو يتسلم جائزة نوبل،
تبدو الحياة بأسرها، فصولا من مسرحية عبثية. وهذا ما يؤكده تافياني في
نهاية الفيلم عندما ينتهي بتصفيق من الجمهور، وكأن كل ما شاهدناه كان فصولا
من مسرحية.
يقول تافياني: الاستنتاج الأخير من القصتين سيذكر المشاهدين
بأن الحياة ما هي سوى مسرح، وأن كل شيء ليس سوى عرض مسرحي”.
من الواضح كما ذكرت من قبل، أن تافياني يودع السينما بصنع
عمل ذات صلة وثيقة بالسينما باعتبارها وسيلة للخيال، وبالمسرح باعتباره
الأب الذي خرجت منه السينما، وبالتصوير الفوتوغرافي بالعودة إلى جذوره
الأولى الكامنة في “الأبيض والأسود”، وبلوحات الفن التشكيلي التي تغذي
الخيال السينمائي، كما تتمثل في ذلك الاحتفاء الكبير بالألوان الصريحة
المنافية للواقعية. إننا أمام احتفاء كبير بالفن وسحر الفن الذي لا يموت.
عاش بيرانديللو. وعاش تافياني.. وعاشت السينما الجميلة! |