ملفات خاصة

 
 
 

"حمّى البحر المتوسط".. اكتئاب الكبار وحمّى الصغار

ندى الأزهري

كان السينمائي الدولي

الخامس والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

إنه فيلم منتظرٌ، على الأقل لهؤلاء الذين أسعدهم الحظّ بالتعرف على الفيلم الأول لصاحبته، فيلمٌ يجابه تحدي كونه الثاني بعد أولٍ مبهر.

"حمّى البحر المتوسط" (2022) هو الفيلم الثاني للفلسطينية مها الحاج شارك في مسابقة "نظرة ما" في مهرجان "كان" (17 ـ 28 مايو/ أيار 2022) وحاز على جائزة السيناريو. ذلك كان حال فيلمها الأول "أمور شخصية" (2017)، الذي شارك في القسم نفسه في مهرجان "كان" 2017، سوى أنه لم يفزْ بجائزة. وعلى الرغم من تمتعه بشخصيات مميزة، وغناه بمواقف مبتكرة، مع أسلوب إخراجي ساحر، فإنه لم يلفت إليه الانتباه كثيرًا. أحد أجمل الأفلام الفلسطينية، بل ربما العربية المعاصرة، مرّ دون اهتمام هو جدير به، لا سيما في العالم العربي، حيث كان لهذا أسبابه. فقد عُدَّ الفيلم، على الرغم من ارتباطه العميق والمؤثر بفلسطين، "إسرائيليًا"، كون إسرائيل شاركت في تمويله، وقوطع عربيًا بحجة الامتناع عن التطبيع. مها الحاج تجنبتْ هذا التمويل في فيلمها الثاني لحسن الحظ. وهكذا ستُفتح أمامه، هو الذي يستحق هذا تمامًا، أبواب المهرجانات العربية، والعروض أمام جمهور عربي.

"عُدَّ فيلم "أمور شخصية"، على الرغم من ارتباطه العميق والمؤثر بفلسطين، "إسرائيليًا"، كون إسرائيل شاركت في تمويله، ولذلك قوطع عربيًا بحجة الامتناع عن التطبيع!"

لكنه فيلم قد يُظلم إذا ما قورن بسابقه. فمن ظلّ حبيس الفيلم الأول سيجد صعوبة في النظر، وبالتالي الكتابة عن الجديد، بذات القدر من الانبهار والتأثر. مرد ذلك أن الإعجاب بفيلم "أمور شخصية" لم تشبْهُ أدنى شائبة، وبقاؤه إلى اليوم أحد الأفلام العربية المفضّلة، إن لم يكن أفضلها على الإطلاق. أو، لعل ذلك عائد إلى انتظار الفيلم الثاني، بالتالي كما يحصل في حالات كهذه، تأتي النتيجة بخيبة ما تشبه تلك التي تتبع كلّ أمر اشتدّ انتظاره. خيبة لا يستحقها "حمّى البحر المتوسط" حقًا. لكن هذا ما حدث، وضع يثير حيرة وتساؤلات منذ مشاهدة الفيلم في عرض أول في صالة باريسية كانت تعرض بعضًا من أفلام مهرجان "كان" لهذا العام، وذلك قبل توزيعها تجاريًا على نطاق واسع في ما بعد.

في "أمور شخصية"، يوميات عائلة فلسطينية مشتتة جغرافيًا وعاطفيًا. الأبوان يعيشان في الناصرة، وابنهم العازب المخلص لعزوبيته في رام الله، وأيضًا ابنتهم مع زوجها الميكانيكي وأمه العجوز. أمّا الابن الثاني فيسكن في السويد. كل شيء يسير على وتيرة السأم لدى الجميع. هزل حلّو ومرّ استخدمته مها الحاج للحديث عن المجتمع الفلسطيني تحت الاحتلال، كل أنواع الاحتلال. وكانت الطريقة المثلى لتوصيفه توظيف العبث والسخرية المرّة اللاذعة طوال مشاهد الفيلم، واعتماد تكرار المواقف الهازئة على إيقاع الأغاني وثرثرة التلفزيون. في كل شخصية من هذا الفيلم تُختصر حياة، بل تُكثّف كأعمق وأجمل ما يكون التكثيف، وفي كل مشهد كمٌّ فائض من حساسية ورهافة تنقل من العالم المحدود والمحدّد للمشهد إلى كل ما ورائه من رحابة وتحليق. نظرة ثاقبة ومليئة بالطرافة تلتقط أدق التفاصيل في كل شخصية وفي هذه الحياة التي تمضي حاملة معها الأحلام والخيبات والخلافات. هذا فيلم يسعد في كل لحظة من لحظاته في كل مرة تعود فيها الذاكرة إليه. إنه من الأفلام التي يخشى المشاهد انتهاءها أثناء العرض.

"بُني "حمّى البحر المتوسط" بالكامل على شخصيتي وليد وجلال، وشكّل الاثنان مركز ثقل السرد، وكل ما عداهما من شخصيات، لا سيما عائلة كل منهما، كانت مجرد سندٍ"

في الثاني "حمى البحر المتوسط" شخصيات أقلّ، وسيناريو أخفّ. هنا أيضًا عائلة فلسطينية، إنما على نطاق أضيق: وليد (40 عامًا) (يقوم بالدور عامر حليحل الذي مثّل أيضًا في الفيلم الأول)، وهو فلسطيني يعيش في حيفا مع زوجته وطفليه، يستقيل من عمله ليتفرغ للكتابة الأدبية. ومع وحي يأبى القدوم، يستسلم لاكتئاب عميق، ويبدو كمن يحمل على كاهله كل هموم الدنيا، ومعها قضية فلسطين بالطبع. على النقيض منه، جاره الجديد جلال (أشرف فرح)، لا جامع يجمع بين الاثنين، فجلال محتال صغير لا مبال بشيء، لا قضايا كبرى (فلسطين مثالًا)، ولا صغرى، كالديون الكثيرة المتراكمة عليه، التي تؤثر عليه، وعلى نمط عيشه، ظاهريًا على الأقل. يميل إلى الاستمتاع بالحياة، رغم نقص موارده، ولا يتردد في استخدام العنف حين تقتضي الضرورة. بسبب شخصيته المرحة الصاخبة والمندفعة، استطاع الدخول بسهولة في حياة وليد وعالمه الحذر. بات الاثنان لا يفترقان. يوحي السيناريو أن هذه العلاقة بين كائنين متناقضين في كل شيء قد تكون خيارًا لوليد وسبيلًا ليستقي من شخصية جاره وحيًا لكتاباته. لكن يتبدى في ما بعد أنه يخطط لشيء آخر تمامًا غير متوقع، ويصعب الاقتناع به دراميًا. فوليد يطمع في مساعدة جاره لتنفيذ مشروع آخر لم تبدُ دوافعه واقعية.

تبرع مها الحاج في كتابة شخصياتها (كاتبة السيناريو)، تتعاطف معها، وتقترب من مشاعرها بعمق وإحساس، وتسعى إلى تجسيدها على الشاشة بكثير من طرافة، وقليل من شروحات، أو كلام. فلا تعبر الشخصية بكثير من كلام أو ثرثرة عن نفسها لتفسّر مشاعرها، ولا تقوم شخصيات أخرى بفعل هذا، بل يعتمد الإخراج التلميح والمواقف، لتقوما بالغرض، وتوصيل مفردات الشخصية، من صفات ومكنونات، وحتى نيّات. كما لا تستعين المخرجة كثيرًا باللقطات المقربة للوجوه لإبداء مشاعر شخصياتها الجوانية، كأن الحركة هي أدلّ على ما يمور في دواخلهم (كما تبدو نفسية وليد من مجرد طيّه للغسيل، وتقشير الخضار...)، فيما المكان في كادر الصورة وتفاصيلها مدروس بعناية ليعبّر عن أجواء حياة الشخصيات. ويقود التحكّم الدقيق بأداء الممثلين إلى إسباغ مصداقية على الدور، فلا مبالغة، ولا تفاوت، في مستوى الأداء. وقد بُني "حمّى البحر المتوسط" بالكامل على شخصيتي وليد وجلال، وشكّل الاثنان مركز ثقل السرد، وكل ما عداهما من شخصيات، لا سيما عائلة كل منهما، كانت مجرد سندٍ. أجادا أيّما إجادة في التعبير، وبكثير من طرافة عفوية، عن هذه الصداقة التي تجمع كائنين مختلفين، تطورها وخفاياها. إنما أدى هذا البناء الذي ارتكز على محور واحد، إلى إهمال بقية الشخصيات، لا سيما الزوجتين ،على الرغم من دورهما الهام في العائلة. وإن كانت غاية الفيلم هي وليد وجلال فقط، وكل ما حولهما هو خلفية لهما، فهذا لا يمنع تطوير أكثر لشخصيات أخرى، وإغناء الحكاية بتفرعات ثانوية تعطي مصداقية أكثر لسلوك هاتين الشخصيتين الرئيسيتين، وتضيء أكثر على أجوائهما. كأن يتم التعريف بزوجة وليد أكثر، أو زوجة جلال، لتبرير خيانته لها، والتي كانت مفاجئة بعد أن ظهرت زوجته في بضعة مشاهد فقط كامرأة جميلة تشابهه في ميوله الاجتماعية.

لكن شخصية أخرى، غير وليد وجلال، حضرت على نحو أعمق من غيرها، لما كان لهذا الحضور من إضاءة على ميول وأفكار وليد، وليتبين من خلالها مدى الأثر العميق والمؤلم الذي يتركه أحد العوامل في نفسه. ابن وليد كان يصاب بالحمّى كل يوم ثلاثاء، حمّى البحر المتوسط التي تشيعُ بين المرضى من أُصول متوسِّطيَّة، والتي لا يمكن الشفاء منها. لكن عوارضها كانت تظهر فقط يوم الثلاثاء لدى الصغير، كأنها "صُدفة" تتيح له التهرب من درس الجغرافيا الأسبوعي. ولماذا الجغرافيا؟ لأن المُدرّسة أصرّت على أن القدس هي عاصمة اسرائيل، وليست عاصمة فلسطين، كما صحح لها التلميذ بناء على ما كان يسمعه دومًا من والده، لكن المعلمة رفضت الانصياع لتصحيحه.

الصغير يصاب دوريًا بحمّى البحر المتوسط، أما الكبير فنصيبه حمّى من نوع آخر، حمّى اكتئاب وإحباط يومية يسببهما الاحتلال.

 

ضفة ثالثة اللندنية في

11.06.2022

 
 
 
 
 

كانّ 75 - "إي تي" لستيفن سبيلبرغ: الفضاء يهبط على الأرض

هوفيك حبشيان

كانّ...

عرض مهرجان كانّ في دورته الأخيرة وضمن فقرة "سينما الشاطئ" فيلم "إي تي" الاسطوري لمخرجه ستيفن سبيلبرغ الذي كان يبلغ من العمر 34 عاماً عندما أنجز هذه التحفة البصرية عن علاقة صبي بكائن فضائي. أجيال شاهدت هذا العمل الذي دخل لائحة أفضل أعمال علم الخيال، وقد استعاده المهرجان الفرنسي بعد 40 عاماً على عرضه الأول في ختام الدورة الـ35.

الضرورة العاجلة لبناء عالم وهمي كانت ملحّة، إلى درجة أنّ أميركا الرأسمالية كرّست بطيب خاطرها المال والموهبة والوقت لإنجاز هذا المشروع لستيفن سبيلبرغ. حينذاك، ومنذ بعض الوقت، كان الفضاء يشغل مفهوم "المسافة" التي تنطبق على الغرب الأميركي الشاسع وعلى صحراء المكسيك الجديدة. فالأفلام التي سبقت "إي تي"، وإن استخدمت روح الفكاهة كمكوّن أساسي لها، فقد أخذت نفسها على محمل الجد وبحثت عن صدقية وواقعية. مع "إي تي" هوى سبيلبرغ بنا إلى عالم الحكاية، وكلّنا نعرف أهمية الحكاية في تأهيل الأولاد. كانت الحكايات التقليدية وأساطير الساحرات عند الجيل القديم، تكفي لنمو المخيلة، لكن بالنسبة إلى جيل "إي تي"، فالأساطير والحكايات باتت تأكلها الغبار.

هل يُلمح الفيلم إلى واقع أنّ الصبي يجب أن يدرك حقيقة أنّ الجنس البشري ليس الأقوى، وأنّ الذكاء الإنساني ليس الأكثر توهّجاً؟ الصبي - البشري في "إي تي"، ملاحق بفكرة أنه قبل نهاية حياته يمكنه الاتصال بكائن فضائي، ولا بد من الاستعداد لهذا اللقاء. هذا ما يُلمح إليه ربما سبيلبرغ. أما براعة الأخير، فتكمن في إعطائه للكائن الفضائي ذكاء يفوق الذكاء الإنساني، بحيث حوّله إلى ضحية. طبعاً، إنه ضحية قوية، لكنه وحيد، وفي مكان عدائي، حيث المناخ والطعام لا يناسبانه. سبيلبرغ وكاتبة السيناريو ميليسيا ماتيسون لم يبخلا على المراجع الوارد ذكرها من عالم السحر: في عيد هالووين، تتنكّر الأم بزيّ الساحرة، اليوت يوزّع السكاكر، وعندما يقول إي تي "أحبك"، فإنّ لكلماته صدى ما في إحساس المُشاهد. وكما في غالبية الحكايات، تترسخ القصّة بقوة في الحياة اليومية: المنزل هو منزل حقيقي، والبراد مملوء بالـ"فاست فوود" (الوجبات السريعة)، وغرفة الأطفال تعجّبالـ"غادجيت"، والدمى التي لا تكفي لملء الفراغ الذي تركه الأب - الزوج عند رحيله. أما التلفزيون، فهو طبعاً حاضر. يكمن نجاح الفيلم في خيار الأطفالوإدارتهم (يا للمتعة رؤية درو باريمور وهي طفلة!)، وفي إي تي نفسه، المخيف والمؤثر في آن معاً. بيد أنّ براعة سبيلبرغ الحقيقية تأتي من فعل ابتكاره لبعض الأفكار الإخراجية التي، وبعد مرور سنوات عليها، لم تشهد تقليداً، تماماً كالفيلم الذي لم تكن لديه أجزاء أخرى، ومشاهدته اليوم ترينا أنّ التطور التكنولوجي الذي شهدته الصناعة السينمائية، منذ ذلك الحين، ليس سوى ذريعة لبيع ما لا يُباع.

 

النهار اللبنانية في

13.06.2022

 
 
 
 
 

"إخوة ليلى": تمثيلٌ مُقنع بواقعيّته ومُفاجئ بتحوّلاته

باريس/ ندى الأزهري

حين طُرح سؤال عن أفلامٍ تستحقّ المشاهدة في "مهرجان فجر السينمائي الدولي"، أكبر وأهم مهرجان سينمائي في إيران، في دورته الـ34 (20 ـ 25 إبريل/نيسان 2016)، كان اسمه يتردّد على كلّ لسان. بدا أنّه القادم الجديد بلا جدل. سعيد روستائي (26 عاماً) بدا مُدهشاً للجميع بقدرته على كتابة سينمائية مُحكمة، وإخراج بلا ثغرات، منذ فيلمه الأول، "أبد ويوم واحد" (أبد ويك روز). فاز حينها بـ9 جوائز في "مهرجان فجر السينمائي"، الخاص بالأفلام الإيرانية، في دورته الـ34 (1 ـ 11 فبراير/شباط 2016)، منها جائزة أفضل فيلم في قسم "نظرة ما" للعملين الأول والثاني، وجائزة أفضل إخراج في قسم المسابقة الرسمية للسينما الإيرانية.

إنّها المرّة الأولى التي يفوز فيها فيلمٌ إيراني بهذا القدر من الجوائز في هذا المهرجان (مهرجان فجر السينمائي)، لا سيما مع حضور أسماء إيرانية كبرى ومُكرّسة، مثل ماني حقيقي وكمال تبريزي ورضا مير كريمي.

كثرة الجوائز لفيلمٍ أوّل لم تكن عثرة أمام تحقيق التالي، كما يحصل أحياناً. الفيلم الثاني لروستائي أكثر إدهاشاً بمستواه. شارك "قانون طهران" (2019، "المتر بستة ونصف"، (عنوانه بالفارسية) في "مسابقة آفاق"، في الدورة الـ76 (28 أغسطس/آب ـ 7 سبتمبر/أيلول 2019) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي"، ووُزّع تجارياً في أوروبا، ودام عرضه في فرنسا 3 أشهر. نجاحٌ يُعتَدّ به، بالنسبة إلى فيلمٍ غير غربي.

أمّا فيلمه الثالث، "إخوة ليلى"(2022)، فعُرض في المسابقة الرسمية للدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو/أيار 2022) لمهرجان "كانّ" السينمائي.

رغم طغيان الحوار عليها، وإثقاله إياها أحياناً، تشدّ أفلامه من البداية إلى النهاية، مع قصة غنية، وحبكة مُشوّقة تتعدّد فيها الذروات والتفرّعات، وإيقاع سريع. لا تنتمي أفلامه إلى نوع سينمائي محدّد. هو يكتب السيناريو، من دون التزامٍ بقواعد تُحيله إلى فئة معينة. المؤكّد، كما يصفُ أسلوبَه بنفسه، أنّ هذا البعد الدرامي، أو التشويق، القريب من هذا النوع أو ذاك (بوليسي مثلاّ)، يتأتّى من قوة القصة المستمدّة مباشرة من الواقع. أفلامه تتميّز بصدقٍ في تعبيرها عن المعيش، وتتعمّق في قضايا مختلفة، يعانيها المجتمع، كالإدمان على المخدّرات والفقر والبطالة والمشاكل الأسرية.

نجح فيلماه نجاحاً كبيراً في عروضهما الإيرانية، لأنّ الجمهور وجد نفسه فيهما، وفي تعبيرهما الصادق عنه وعن محيطه. أفلامه ليست مجرد أفلامٍ مكتوبة بذريعة اجتماعية مُفتعلة، لا تحتوي أي حقيقة من المجتمع. لذلك، فإنّ درجات تقديرها تتساوى بين النقّاد والجمهور، في وطنه وخارجه. هذا شبه نادر.

يميل سعيد روستائي إلى توظيف الحوار والنقاشات كوسيلة للتعبير. يُنحّي جانباً كلّ صمتٍ موحٍ. لا تورية في أفلامه، أو لبسٍ ما، ولا استعارات. لا يُفضّل الترميز، ويؤثر رواية حكاية بمسار مرسوم بوضوح، لا يخلو تطوّرها من مفاجآتٍ، ترفع وتيرة التشويق. لا شاعرية، بل مشاعر متنوّعة ومتضاربة، من تمرّد وثورة على قسوة الواقع، أو خضوع له. في "إخوة ليلى"، كما في "أبد ويوم واحد"، يموضع المرأة في صميم الحدث، في هذا الصراع المستديم للبقاء. حولها، تتمحور الحياة، وتدور الشخصيات. تتحلّى ببُعد نظر وحكمة أكثر من الرجل. إنها نظرته إلى المرأة الإيرانية، التي لا تتنصّل من مسؤولياتها، وتقف في الخطّ الأول للمواجهة، أمام قسوة الحياة وتعقيداتها، في مجتمع يخضع لسلطة أبوية.

في 165 دقيقة، يُثبت روستائي مجدّداً موهبة استثنائية في صوغ عملٍ مُتكامل، كتابةً وإخراجاً وتصويراً وتوليفاً. مع قصّة عائلة متواضعة، ترزح تحت عبء ديون تقيّدها وتُسبّب لها صراعاتٍ، تتشابك فتتعقّد الحلول. عائلة مهدّدة بالانفجار، وعلى وشك الانهيار. تتأثّر بأزمة اقتصادية غير مسبوقة في البلد، تُثير خيبات أمل بالنجاة، قبل أنْ تأتي ليلى (ترانة عليدوستي) بمقترحٍ للخلاص. ليلى كرّست حياتها لوالديها وإخوتها الأربعة.

في سعيها إلى إخراج أسرتها من وضع ميؤوس منه، تضع خطّة شراء متجر، لبدء عمل تجاري مع إخوتها. كلّ واحدٍ منهم يضع مدخراته المتواضعة فيه، لكنّهم يفتقرون إلى دعم مالي أخير. في الوقت نفسه، وأمام استغراب الجميع، وعد والدهم إسماعيل (سعيد بور صميمي)، المعروف بفقره، بتقديم مبلغ كبير من المال، ليُسمّى عميد العائلة الكبرى، التي طالما احتقرته لدونيّة وضعه الاجتماعي، من دون أنْ يعبأ بحاجات أولاده، في مقابل حصوله على ما يُعتَبر أعلى وسام شرف في التقاليد العائلية.

شيئاً فشيئاً، تؤدّي تصرّفات كلّ فرد في أسرة إسماعيل (تردّد، خوف، تمزّق) إلى نقاشات لا تنتهي، وقرارات تدفع الجميع إلى حافة الانهيار الداخلي.

يتنقل سعيد روستائي، بمهارة، بين لقطات واسعة للحشود، وأخرى مُقرّبة للشخصيات في أماكن محصورة. يُحوّل المسار بحِرفية، ومن دون تدرّج، من قضية عامة، إلى مسألة عائلية. في المشهد الافتتاحي ـ الآسر بقوّته البصرية، والمُمهّد لإيقاع الفيلم ـ هناك حشود عمّال ثائرين ومضربين في مصنعٍ لا يدفع لهم أجورهم. إنّه توطئة لمحتوى السرد. لكنّ الفيلم يسير سريعاً، بالتوازي مع مَشاهد أخرى لحشود من نوع آخر، يكون تأثيرها أهمّ، لمراسم تعزية في موت عميد العائلة الكبيرة. في المشهدين، تعريفٌ بشخصيتين رئيسيتين، سيكون لسلوكهما أثرٌ مُدمّر: الأب إسماعيل، عجوز مُهلهل الشكل والهندام والشخصية، يُهيّئ نفسه لأنْ يكون عميد عائلة، كونه الأكبر سناً؛ وعلي رضا (نويد محمد زاده)، شاب المصنع، الذي يفرّ من المواجهة بين الإدارة والعمّال، ومن اتّخاذ قرارات مصيرية.

يأخذ "إخوة ليلى" وقته لتطوير الشخصيات والحكاية، ذات التداعيات الغزيرة. يتحكّم الإخراج تماماً بانقلاب الأجواء والمواقف، الذي لا يتوقّف، فيعطي كلّ شخصية حقّها في التطوّر والمساهمة، والتناقض أيضاً:

الأب، الجاهز للتضحية بمستقبل أولاده العاطلين عن العمل في مقابل غروره، وما يعتقد أنّها فرصته الوحيدة والأخيرة لتصبح له مكانة في المجتمع، وليتمتّع أخيراً بتقديرٍ، ولو ظاهريّ، من أفراد العائلة الكبيرة؛ والأمّ، التي لم تظهر كثيراً، لكنّها ـ في مَشاهد قليلة وكافية ـ تجلّت شخصيتها كأمٍّ غير حنون، تكره ابنتها، وتفضّل الزوج على أولادها؛ ثم الأولاد، ذوي الشخصيّة الضعيفة، والتائهين أمام مآزق الحياة وفِخاخها، لكنْ الطيّبين والمُحبّين لأبيهم، رغم قسوته وتخلّيه عنهم في اللحظة الحرجة، عند شراء المتجر. أمّا ليلى، ففي المركز دائماً. إنها دعامة الفيلم والأسرة، تقف في وجه السلطة الأبوية الأنانية.

يُثير "إخوة ليلى" ـ بذكاء، وعبر قصّة عائلة وأفرادها ـ وضع مجتمع بكامله، يعاني نفاقاً اجتماعياً، وظروفاً اقتصادية قاهِرة، وبطالة خطرة، وانهيار عملة. لا أدلّ على الانهيار أكثر من محاولات شراء الذهب للإخوة، تعبيراً عن وضع يسوء ليس يومياً، بل كلّ لحظة.

قدّم الممثلون جميعهم، من دون استثناء، أداءً مُقنعاً بدقّته وواقعيته، ومفاجئاً في تحوّلاته وتناقضاته، لا سيما نويد محمد زاده وبيمان معادي، اللذين تعاون سعيد روستائي معهما في فيلميه السابقين أيضاً.

 

العربي الجديد اللندنية في

15.06.2022

 
 
 
 
 

إيران تمنع عرض فيلم "إخوة ليلى" بعد مشاركته في مهرجان كانّ السينمائي

طهران/ صابر غل عنبري

أعلنت منظمة السينما الإيرانية الحكومية في بيان، اليوم الثلاثاء، رفضها إصدار ترخيص لعرض فيلم "إخوة ليلى"، بسبب "مخالفات وامتناع المنتج والمخرج عن العمل وفق المقررات".

فيلم "إخوة ليلى" من إخراج سعيد روستائي، وبطولة الممثلة ترانة عليدوستي ونويد محمد زاده وبيمان المعادي وفرهاد أصلاني. عُرض الفيلم لأول مرة خلال مهرجان كانّ السينمائي الدولي خلال دورته الأخيرة (17-28 مايو/أيار 2022)، وحصل فيه على جائزة الاتحاد الدولي للنقّاد.

وأكدت منظمة السينما الإيرانية في بيانها أن الفيلم "أرسل للمشاركة في مهرجان كانّ من دون أن يمر بالمراحل القانونية"، مشيرة إلى أنها بعد إرسال الفيلم إلى كانّ دعت منتجه ومخرجه إلى اجتماعات، لـ"حل مشكلة الفيلم، بغية المساعدة وتسهيل مشاركته (في المهرجان) بعد تصحيح المسار". 

ولفتت إلى اتفاق مع القائمين على الفيلم لإجراء تعديلات عليه وإعداد نسخة نهائية منه لعرضها في مهرجان كانّ، لكنها أكدت أنهم لم يجروا هذه التعديلات.

واتهمت منظمة السينما الإيرانية صنّاع الفيلم بأنهم "يصرون على استمرار المسار الخاطئ، ويفضلون عرض الفيلم في مهرجان كانّ على عرضه في صالات السينما الإيرانية وللمشاهدين في الداخل".

وختمت المنظمة بيانها بالإعلان عن رفض منح فيلم "إخوة ليلى" تصريح العرض في إيران "ما لم تزل أسباب منعه من العرض"، مشيرة إلى أن المخرج سعيد روستائي رفض إجراء إصلاحات على الفيلم. 

مع ذلك، يبدو أن أسباب رفض منح فيلم "إخوة ليلى" ترخيص العرض لا تقتصر فقط على مضمونه وتحفظات السلطات الإيرانية عليه، وإنما ثمة أسباب أخرى تبقى حاضرة، ترتبط بتصريحات كبار ممثلي الفيلم بشأن أوضاع إيران وسلوك بعضهم أثناء عرضه في مهرجان كانّ السينمائي الدولي.

وفي السياق، سجلت أوساط سياسية محافظة تحفظات على تصريحات الممثلة ترانة عليدوستي والممثل بيمان معادي، فضلاً عن سلوك الممثل محمد نويد زاده مع زوجته في المهرجان حيث تبادلا قبلات حميمية.  

إلى ذلك، تطرق وزير الثقافة الإيراني، محمد مهدي إسماعيلي، الإثنين، إلى هذه المسألة، وقال في معرض رده على سؤال مراسل وكالة فارس الإخبارية بشأن قيام بعض الوجوه السينمائية المعروفة بـ"الترويج لصورة سوداوية" عن إيران في المهرجانات الخارجية، إن "منظمة السينما لوزارة الإرشاد والثقافة تصدت بشكل حازم، وتتخذ حالياً الإجراءات اللازمة في مسارها القانوني". وتوعد إسماعيلي "كل من ينتهك القوانين والمعايير القانونية في البلاد"، بإنزال العقوبات التأديبية بحقه. 

"أخوة ليلى" فيلم درامي يروي قصة حياة أسرة إيرانية بعد تدهور صحة الأب ووقوع الأسرة في براثن الفقر. و"أخوة ليلى" ليس الفيلم الوحيد الذي شارك في مهرجان كانّ وأغضب السلطات الإيرانية، فـ"عنكبوت مقدس" واجه انتقادات أكثر حدة، إذ اعتبرت أوساط إيرانية أنه "يهين" المقدسات الإسلامية لدى الطائفة الشيعية، واتهمته منظمة السينما الإيرانية بأنه "نتاج ذهن منحرف لدنماركي من أصل إيراني"، في إشارة إلى مخرجه الدنماركي الإيراني علي عباسي.

كما هاجمت منظمة السينما الإيرانية مهرجان كانّ السينمائي، متهمةً إياه بـ "ارتكاب فعل سياسي منحاز من خلال الإشادة بالفيلم" الذي وصفته بأنه "كاذب ومثير للاشمئزاز". 

فيلم "عنكبوت مقدس"، الحائز إحدى جوائز مهرجان كانّ السينمائي الدولي في دورته الأخيرة، تدور قصته حول قاتل متسلسل يستهدف عاملات الجنس في مدينة مشهد لدواع دينية.  

يستوحي الفيلم أحداثه من قصة حقيقيّة شهدتها إيران قبل أكثر من عشرين عاماً في مدينة مشهد شرقي البلاد. كان القاتل سعيد حنائي، المعروف بـ"العنكبوت"، يلاحق عاملات الجنس بدراجته النارية أو بسيارته، وقتل 16 منهن. قال قبل إعدامه عام 2002، أثناء جلسات المحاكمة، إنه قتلهن لأنهن كن "زانيات عاهرات".

 

العربي الجديد اللندنية في

21.06.2022

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004