تخيل معى مشهدا لعدد من الفقراء يلتقون حول صناديق القمامة
الضخمة ليبحثوا فيها عما يمكن أن يملأ بطونهم مما تركه الأغنياء، سواء من
البيوت أو المطاعم وألقوه فى تلك الصناديق السوداء.
ستكتشف أن الفقراء لا يتصارعون فى الحصول على الطعام،
يساعدون بعضهم البعض على الانتقاء، هذا المشهد تابعته فى الفيلم الفرنسى
التسجيلى الذى يحمل عنوان (فى أدامانت) وهو مستشفى لعلاج الأمراض العقلية
والنفسية، حيث تجرى وقائع هذا الشريط السينمائى المؤثر والعميق وأيضا
المبهج.
الفيلم جاء عرضه فى ختام أيام المهرجان داخل المسابقة
الرسمية التى تواجد فيها أيضا فيلما تحريك، بالإضافة إلى 16 فيلما روائيا،
وكلها تخضع لنفس أسلوب التقييم من خلال لجنة التحكيم التى ترأسها النجمة
الأمريكية كريستين ستيوارت.
طبعا أسلحة الإبداع تختلف بين التسجيلى والتحريك والروائى،
إلا أن معيار الجمال الفنى واحد، ومثل هذه الأمور دقيقة جدا عندما تتعدد
الأنماط الفنية داخل نفس المسابقة، إلا أنها قطعا ليست مستحيلة، أدوات
المخرج التسجيلى غير الروائى غير التحريك، إلا أن (الترمومتر) الجازم
والدقيق هو فى القدرة على تقديم الإبداع.
عودة على المشهد الذى تخلل فيلم (فى أدامانت) هل لو قدمت
السينما العربية، خاصة المصرية، مثل هذه المشاهد ستتعامل معها الرقابة بنفس
متسامحة أم ستنشط وكالعادة غدة (سمعة مصر).
كثيرا ما نردد هذا التعبير العاجز معتقدين أن الفنان الذى
يقدم مشاهد سلبية هو من أعداء الوطن الذين يجب استئصالهم من الحياة وأنهم
يبيعون انتماءهم من أجل الحصول على جائزة وكأن الوطنية حكر على من يقدمون
أعمالا ترويجية.
تلك النظرة تخاصم المنطق لأن الدول الغنية مثل كوريا
الجنوبية وأمريكا وفرنسا وألمانيا وغيرها لا تجد حرجا فى أن تقدم جراح
المجتمع، وكثير من الأفلام التى حصدت الجوائز وحققت رواجا جماهيريا اقتربت
من هؤلاء الفقراء تعايشت معهم مثل الفيلم الحائز على الدب الذهبى وأوسكار
أفضل فيلم أجنبى (الطفيلى).
من كوريا الجنوبية، قبل نحو ثلاث سنوات وهى من أكثر دول
العالم فى تحقيق أعلى دخل للمواطن، كانت أحداث الفيلم تتناول تفاوت الطبقات
الذى أدى إلى جريمة قتل دموية بشعة فى النهاية، رغم أن الفيلم قدم فى قالب
كوميدى.
أتمنى أن نفتح الأبواب وأن ننسى تماما عقدة فيلم (ريش) الذى
دفع فى النهاية منتج الفيلم، محمد حفظى، بعد أن وجد نفسه تحت مرمى الضربات
المتلاحقة أن يعلن ليريح ويستريح أنه لو عادت به الأيام لن ينتج أبدا فيلما
على غرار (ريش)، رغم أنه حقق لنا أكبر جائزتين حققتهما السينما المصرية
طوال تاريخها فى (كان).
عودة لفيلمنا الفرنسى الذى تجرى أحداثه داخل المستشفى مع
مجموعة من المرضى نفسيا وعقليا، وكيف أن العلاج بالفن والموسيقى والرسم
والغناء، والتطلع للعالم هو فقط المفتاح للشفاء.
هناك قطعا محاذير قانونية وأيضا فنية عند تقديم المرضى على
الشاشة وهو يقضى بألا نرى المريض وهو يكشف معاناته وخضوعه للعلاج، فقط
مسموح الاقتراب بدفء وحب، وهذا هو ما حققه المخرج الفرنسى نيكولاس فيليبرت،
عندما أمسك بخيط رفيع فى المعالجة التوثيقية وهو كيف تقدم الحالة وتتعاطف
معها أيضا تظل مدركا فى نفس الوقت أن هؤلاء أساسا مبدعون وليسوا مرضى.
ولا يوجد أى هامش من احتمال انتقال المشاعر إلى درجة
الشفقة، حرص المخرج على التنوع فى التفاصيل الإبداعية، الموسيقى والغناء
والرسم والنحت، وهى أشبه بدراسة ميدانية لذلك المستشفى الذى يطل على نهر
السين، أخذ منه نقاءه وبراءته وتدفقه.
تاريخ وأسباب المرض ليست أبدا هى عمق القضية المحورية التى
يتناولها الفيلم، لكن تلك الشخصيات التى نعايشها ولا أقول نتعايش معها هى
القضية، ولهذا صفق الحاضرون بقوة للمخرج فى نهاية العرض، وهى طبقا لمتابعتى
أكثر مرة قوبل فيلم بكل هذه الحفاوة فى هذه الدورة.
من الممكن أن يردد البعض المقولة الشهيرة بقدر ما هى سخيفة
(الفنون جنون)، رغم أن الفن يكمن أساسا فى إمعان العقل وليس نسفه أو نفيه،
إطلالة على الحياة من هذا المستشفى، المخرج تتقاطع شخصياته وتتابعهم، وهم
يواجهون الحياة بقلوب دافئة.
ممارسة الفن إحدى وسائل العلاج فى المستشفى، أتذكر جيدا فى
معهد السينما مطلع الثمانينيات كان الفنان وأستاذ مادة علم النفس د. حسين
عبدالقادر، وهو مارس أيضا عمليا مهنة التمثيل، كان يصطحبنا مرة كل شهر
لزيارة مستشفى العباسية، نلتقى بعدد ممن يمارسون الفن بمختلف أنماطه داخل
المستشفى وكانت حصة عصية على النسيان، أظنها لم تعد الآن قائمة.
■ ■ ■
أمس الأول، وبعد عرض الفيلم الفرنسى التسجيلى (فى أدامانت)
وعلى بعد 100 متر على أكثر تقدير من السجادة الحمراء، كان هناك عرض لايف
آخر، مظاهرة يشارك فيها عدد من الإيرانيين يعلنون تضامنهم مع الشعب
الإيرانى فى ثورته من أجل الحرية، فى بداية المهرجان شاهدت احتجاج سائقى
التاكسى لإحساسهم أن شركة (أوبر) الداعمة للمهرجان تحصل على تميز يتيح
لسائقيها الوقوف أمام دور العرض للاستحواذ على الزبائن.
بما يتنافى مع العدالة فى إتاحة الفرصة للجميع، كان
المتظاهرون يؤكدون أنهم يعبرون عن مطالبهم ولن يسرقوا الكاميرا من
المهرجان، وهو ما ردده أيضا المشاركون فى تلك التظاهرات هذه المرة.
إلا أنهم قدموا احتجاجهم عما يجرى فى إيران بأسلوب إبداعى،
مثلا من تضع لاصقا على عينيها أو فنها ترمز لفقء العين أو إسكات الناس، ومن
يسير بعكاز، ومن تقدم مشهدا تمسك فيه المقص وتضعه على شعرها ومن يقدم لك
نعشا، كلها تنويعات على تيمة واحدة ما يجرى فى إيران من ظلم وقهر وفرض حجاب
قهرا على النساء.
طقوس المهرجان تفرض حتى فى الاحتجاج تقديم رؤية إبداعية
تتدثر أيضا بالفن، وغدا نكمل فى تحليل لنتائج المهرجان!!. |