إذا كنت ستنتظر إلى أن تعرض منصّة «آبل» «قتلة فلاور مون»
(Killers of the Flower Moon)
على الأثير فإنك لن تتمتّع بكل ما في فيلم مارتن سكورسيزي الجديد من مساحات
فضاء وأعماق شخصيات ورحلات في الأزمنة والأماكن.
فيلم مارتن سكورسيزي الواحد والأربعون مصنوع على طريقة معظم
أفلامه الروائية: حكاية متسعة لشخصيات كثيرة وأفعال أكثر وإجادة في تلوين
الأحداث بالمواقف ذات الرؤيا. إلى ذلك هو نوع من الوسترن الذي يحتفي
بالمكان على شاشة عريضة وفي أحداث تعود إلى تاريخ معين (1922) مما يشكّل
ثروة بصرية للمُشاهد إذا ما اختار متابعة الفيلم على الشاشة العريضة.
والشركتان المنتجتان باراماونت و«آبل» ستعرضان الفيلم انطلاقاً من السادس
من أكتوبر (تشرين الأول) على نحو محدود في الولايات المتحدة ثم في العشرين
من الشهر ذاته على نطاق واسع قبل أن يتوجه إلى عروض النت في الشهر التالي
على الأرجح.
بداية شبيهة بأخرى
المشكلة في العروض السينمائية هي أن الفيلم يقارب الأربع
ساعات. هي تمضي بالنسبة للمشاهدين كما لو كانت في ساعتين ونصف نظراً
للأحداث المتابعة وذات الإيقاع المتناسق، لكن الأزمة هي أن سكورسيزي بالفعل
لم يكن بحاجة إلى كل هذا الوقت لعرض فيلمه. هناك وقت طويل يمضي في
الاستفاضة حول مفارقات درامية كان تم تداولها من قبل. من بين ذلك، الفترة
الزمنية التفصيلية المنصرفة على العلاقة بين ليوناردو ديكابريو وليلي
غلاستون. هو الزوج الذي يحب المال أكثر من حبّه لامرأته، وهي الزوجة التي
تعتقد أنه يحبها أكثر مما يحب المال.
الحكاية
واقعية منسوجة من كتاب لديفيد غران كُتب كتقارير وصفية وليس كرواية سنة
2017. غران صحافي من فريق مجلة «ذا نيويوركر» الأميركية وهو وضع كتاباً
كاشفاً عن سلسلة من الجرائم التي وقعت في ولاية أوكلاهوما في مطلع العشرية
الثانية من القرن الماضي وسُجلت على أساس أنها جرائم انتحار. في الواقع
يبدأ سكورسيزي فيلمه بنماذج منها. أشخاص غامضون يقتلون رجالاً من قبيلة
أوساج الهندية. هذه البداية شبيهة ببداية فيلمه الشهير
Goodfellas
الذي عمد فيه إلى تصوير سقوط ضحايا عمليات مافياوية في نيويورك. الفارق أن
الأحداث التي يتناولها في «قتلة فلاور مون» وقعت بالفعل ولو أنها سُجلت
كحوادث انتحار عبر «شريف» البلدة المرتشي. أسبابها، كما يكشف الكتاب
والفيلم، أن القبيلة، التي تم ترحيلها من موطنها السابق في ولاية كنساس
وإسكانها ولاية أوكلاهوما، اكتشف النفط تحت أقدامها في موطنها الجديد.
عرف أفرادها الثراء المفاجئ، وهذا ما تسبب في حسد أبناء
البلدة وما دفع الحكومة للتواطؤ مع بعض النافذين لإصدار قرار غريب من نوعه
يعتبر أن الأوساج ليسوا مؤهلين لاستثمار أموالهم وأنهم بحاجة لمرشدين لذلك.
ويليام هايل
(Hale)،
كما يؤديه روبرت دي نيرو، أحد الذين اعتبروا أن هذا الثراء يجب ألا يكون من
نصيب «ذلك العنصر»
(That race)
كما يقول في أحد المشاهد وعبر أذرعه النافذة يرسل من يقتل أثرياء القبيلة
بينما يتظاهر بحبه لهم ومودّته وكل ما من شأنه استمرار خداعهم.
إلى هذا المكان يصل أرنست (ليوناردو ديكابريو) باحثاً عن
عمل عند عمّه ويليام. العلاقة مع عمّه بدأت، عائلياً، طبيعية من حيث إنه لم
يكن يدري ما يخبّؤه عمّه له. يلاحظ العم أن ابن أخيه يرمق امرأة هندية ثرية
اسمها مولي (ليلي غلادستون) بإعجاب. يدفعه للزواج منها ليس لأنه يكترث
للتوفيق بين عاشقين، بل لأنه إذا ما قتل والدتها ثم قتل شقيقتها ثم قتلها
فإن الثروة ستقع بين يدي أرنست وبالتالي بين يديه هو.
*
قتل مباح
لا داعي لتفاصيل كثيرة لولا أن تحليل هذا العمل لا يمكن أن
يتم إلا بإيضاح، لكن التركيبة الدرامية المذكورة تأتي كاملة في نصف الساعة
الأولى من الفيلم ولدى المشاهد نحو ثلاث ساعات أخرى من التفاصيل. ذلك
الزواج يمشي حسب المقرر له وعندما يُطلب من أرنست أن يتسبب في موت بطيء
لزوجته يقبل الأمر، ومع انحدار صحتها وإشرافها على الموت، يزداد الوضع
البائس الذي يواجهه أرنست بالانصياع أكثر وأكثر لعمّه. يستمر هذا لما بعد
وصول رجال الأف بي آي (يقودهم الجيد جسي بليمونز) للتحقيق ووضع حد للقتل
المباح.
أرنست لا يتوقف عن الكذب على زوجته. الغنيمة تعميه وعمّه لا
يمكن عصيانه لكن تورّطه في خطتّه كما في توجيه أزلام لتنفيذ عمليات قتل
تنكشف للمحققين.
بعد المشهد الأخير من الدراما يفتح سكورسيزي على مشهد لمسرح
إذاعي يتم فيه تقديم ما آلت إليه شخصيات الفيلم الأساسية. هذا الاستخدام
بديل لما اعتادت السينما تقديمه عبر كلمات تشرح مآلات الشخصيات مطبوعة على
شاشة سوداء. الطريقة الجديدة تستخدم أيام الراديو عن طريق ممثلين يروون على
خلفية مؤثرات سمعية (بوق سيارة، حوافر حصان، جرس باب... إلخ). ثم ها هو
سكورسيزي نفسه يضع الكلمة الأخيرة على كل شيء وتسدل الستارة عليه.
إنها خاتمة جديدة بالفعل لكنها تترك مذافاً كوميدياً على
المأساة التي أمضى المخرج تلك الساعات لتعميقها. في الأساس لا يتجنّب
المخرج الدفاع عن مصير تلك القبيلة وما شهدته من ظلم وخداع. الأشرار هم كل
البيض في الفيلم (باستثناء المحققين). ما دام هذا مقتبس من وقائع لا بأس،
خصوصاً وأن المواطنين الأصليين لأميركا عوملوا منذ وصول كولمبوس لسواحل
القارة الشرقية كما لو أنهم مجموعات متوحشة تستحق السطو على أراضيهم وقتلهم
ونقلهم من مكان إلى آخر لتوسيع مساحات الاستيطان خصوصاً إذا ما كانت
القبائل تعيش فوق ركام من الذهب والفضّة.
موسيقى روبي روبرتسون تكاد تنطق حواراً من شدّة امتزاجها
بواقعية الفترة والمكان. سبق لروبرتسون أن وظّف موسيقاه في فيلمين
لسكورسيزي هما
The Wolf of Wall Street
سنة 2013 وThe
Isrishman
في 2019. بالإضافة إلى ذلك، استعان الفيلم بأغاني بلوز من الفترة من أمثال
فرد ماكدووَل وصن هاوس وبلايند ليمون جفرسون.
أزمة ديكابريو
فيلم سكورسيزي يواصل ما بدأه من قبل في أفلامه عموماً: يروي
الحكايات من وجهة نظر الجلادين أو القتلة وليس من وجهة نظر الضحايا. وحدها
غلادستون، في دور الزوجة، تعبّر هنا عن تراجيديا الجشع والعنصرية، لكن
الواجهة الأساسية لا تزال ملكاً للشريرين روبرت دي نيرو وليوناردو
ديكابريو، المقارنة بينهما على صعيد الأداء تشي بأن كلاً منهما لجأ إلى ما
ينص عليه الدور: دي نيرو يمتلك الدراية لتبوؤ الشخصية المهيمنة والتسلّط
ولجعل نفسه مكروهاً. ديكابريو يؤدي شخصية المغلوب على أمره والتائه ما بين
ضمير يموت وجشع يرتفع لكنه لا يملك كيفية جعل نفسه مكروهاً. يتوقع المرء
هنا أن يصحو من أفعاله، لكن تكرار وقفاته المتسائلة عن أخلاقية ما يقوم به
تفرّغ مشكلته من داخله ليبقى التمثيل. قد يكسب تعاطفاً، لكن هذا التعاطف
يذبل تدريجياً من دون أن يبلور الممثل وضعه حيال ما يؤديه على نحو كامل.
في نواحٍ أخرى من هذا العمل، ولجانب إخفاق مشهد النهاية في
إيداع رسالة الفيلم في الإطار الصحيح، هناك إخفاق في دفع الأحداث إلى تشويق
فعّال. طبعاً لا ننسى أن الفيلم وسترن، إلى حد (لكنه ليس فيلم أكشن عن
الهنود الحمر والجنود الزرق ولا هو فيلم رعاة بقر) وسكورسيزي لا يعالجه على
هذا الوضع، وهذا اختيار لا غُبار عليه. لكن هذا لا يعفي الفيلم من طريقته
في دفع الأحداث صوب مستوى من التشويق، خصوصاً مع وجود تلك المناطق التي
يبدو فيها الفيلم وهو يكرر مفاداته. ربما حقيقة أن الفيلم مقتبس عن كتاب
غير روائي يلعب دوراً في ذلك، لكن حتى هذا يبرر غياب أي تشويق فعّال أو أي
غموض كان يمكن استخدامه لمنح الدراما بعض المفاجآت.
تساءل هذا الناقد عما سيكون الفيلم عليه لو أن فرنسيس فورد
كوبولا أو برايان دي بالما أو كلينت إيستوود أو مايكل مان هو من أخرج
الفيلم. وفي كل الأحوال يجب ألا ننسى أن الراحل حديثاً مايكل أبتد أنجز
فيلمين مثاليين في تعاملهما مع أوضاع مشابهة هما «ثندرهارت»
(thunderhart)
و«حادثة في أوغالا»
((ncident
at Olgala
وكلاهما في سنة 1992.
الأول خيالي حول فل كيلمر يحقق في جريمة قتل المتهم فيها
هندي، والثاني تسجيلي حول أحداث وقعت سنة 1975 عندما تسبب تصدي الـ«إف بي
آي» ومضايقتهم لهنود ولاية داكوتا الجنوبية في مقتل إثنين من المحققين. كلا
هذان الفيلمان حملا معاً الواقعية من ناحية والحدة من ناحية أخرى وتم
بناؤهما للكشف عن مأساة المواطنين الأصليين لأميركا على نحو جيد وواضح. |