مهرجان كانّ 76: موريتّي يرد على اليمين في فيلم مخيّب:
المطبخ الرفيع شعرٌ وثقافة أمام كاميرا الفرنسي الفيتنامي
كانّ - هوفيك حبشيان
يحملنا المخرج الإيطالي #نانّي
موريتّي إلى
الماضي، في جديده، "#شمس
المستقبل"،
المعروض داخل مسابقة الدورة السادسة والسبعين ل#مهرجان
كانّ
ال#سينمائي
(16 - 27 أيار)، لكن من خلال تقنية "فيلم داخل فيلم"، وبنرجسية عالية،
وخطاب يدير ظهره إلى الواقع، حيث يلعب دور مخرج يحاول تصوير فيلم عن الحزب
الشيوعي الإيطالي لحظة انشقاقه عن الاتحاد السوفياتي بعد الانتفاضة المجرية
في العام 1956. يغازل موريتّي الشيوعية، واقفاً في وجه الستالينية، في نوع
من جواب على سيطرة اليمين المتطرف في بلاده إيطاليا. لكن الفيلم كله بدا
قديماً ومفتعلاً، يعيد تدوير كلّ ما صنع أهمية موريتّي منذ بداياته. حتى
الملصق هو استحداث (سكوتر كهربائي بدلاً من الدراجة النارية) لـ"مفكرتي
العزيزة" الذي صنع شهرته الدولية. هذا كله كان سبب خيبة أمل جديدة من
موريتي الذي لم تحلّق أفلامه الأخيرة عالياً في فضاء السينما.
الحكاية بسيطة: جيوفانّي (موريتّي) مخرج على قدر من الشهرة،
يحاول تصوير فيلم من إنتاج زوجته (مارغريت بوي) التي يعيش ويعمل معها منذ
أربعين عاماً. الفيلم يدور على شيوعيين على علاقة غرامية أحدهما بالآخر،
يستضيفان سيركاً في روما خلال انتفاضة المجر، وعليهما أخد موقف أخلاقي
وسياسي سريع ممّا يحدث هناك. لكن على جيوفانّي ان يحلّ العديد من المشاكل
أيضاً، بعضها شخصي الطابع، كعلاقته بزوجته التي أشرفت على نهايتها، وعلاقة
ابنته برجل يكبرها سناً. أما المنتج الفرنسي (ماتيو أمالريك) لفيلمه، فهو
مفلس، ما يهدد مصير المشروع ككل. ورغم كلّ هذه المشاكل، يجد جيوفانّي بعض
الوقت ليزور موقع تصوير مخرج آخر تنتج زوجته أول أفلامه، ولا يتوانى عن
اعطائه بعض الملاحظات، منظّراً حتى في مسألة العنف السينمائي، في واحد من
المشاهد التي لم يُوفَّق موريتّي فيها، اذا نظرنا اليها من زاوية الصدقية،
مثلما لم يكن موفقاً أيضاً في مشهد اجتماعه بمسؤولين في "نتفليكس" التي
"تبث في 190 دولة”.
مع "شمس المستقبل"، أنجز موريتي فيلماً لا يمكن النظر اليه
الا كرد فعل صريح ومبالغ فيه على كلّ ما يعيشه من حوله في السياسة
والسينما، ويأتي هذا نتيجة رغبته في تسجيل بعض المواقف الضرورية وتذكيرنا
بالبديهيات، التي قد لا نختلف معها كثيراً، لكن السينما لا تحب البيانات
والخطابات الرنانة، خصوصاً اذا كان الهدف منها إثارة ضحكة صفراء تهكمية،
وفي النهاية لا تسرق منّا الا بعض الابتسامات على عجل، على سبيل التهذيب
واحترام جهد سينمائي قدير. موريتّي كان أظرف عندما لم يكن يتوقع شيئاً، ولم
يكن بهذه المباشرة المزعجة، وبهذا النضال ضد كلّ ما يخالفه. وكان أكثر
تماسكاً عندما كان يشك في احتمالات التغيير. اليقين قاتل. اليوم، بات يبث
الأمل عبر الاستعانة بفصول من التاريخ. يعطي موريتّي الانطباع بأنه يفتقد
الماضي، حيث الحياة كانت أفضل ويجب العودة اليها. خطاب لا يليق بسخريته
ويضفي على الفيلم الكثير من الخفّة.
فيلم إسباني خاص جداً، "مخلوق" لإيلينا مارتن، عُرض في قسم
"اسبوعا المخرجين". يحاول الفيلم النظر في موضوع الجسد والجنس والرغبات.
راديكالي في طرحه ومبتكر في معالجته، اذ يعرّفنا في البداية الى ميلا
(كلارا سيغورا)، ثم يعود أدراجه إلى مراحل سابقة من حياتها. فكي نفهم
حالتها اليوم، علينا ان نعود إلى الماضي ونفك الشيفرة ونعي مراحل تطوّر
الأحداث التي مرت بها، فأوصلتها إلى ما هي عليه. كلّ شيء في الفيلم طازج
وروحه مغايرة، حتى لو لم تكن الفكرة جديدة.
مَن يقف خلف الكاميرا سيدة، إيلينا مارتن، وعلى الأرجح
يستلهم الفيلم قصّتها أو تجربتها. لم أرد ان أتأكد من المعلومة، لأن هذا لن
يغيّر شيئاً في تلقيّ للفيلم ولاعتباري ان القصّة شخصية. فكلّ القصص شخصية.
الاسلوب الذي ترى من خلاله هو الذي يجعلها شخصية. فبقدر ما لا تحتاج إلى ان
تكتب سيناريو فيلمك كي تكون مؤلفاً، أنت لا تحتاج إلى ان تتحدّث عن نفسك
لإنجاز فيلم مستوحى من سيرتك.
البطلة هنا ثلاثينية. اسمها ميلا، إسبانية سمراء ظريفة.
علاقتها بجسدها فيها اشكاليات منذ الطفولة. هذا ما يكشفه لنا مشهد سريع وهي
على السرير في بيت أهلها تداعب نفسها بعدما اكتشفت مناطقها الحساسة. تمر
السنوات، وأثناء ممارسة الجنس مع حبيبها خلال عطلة في كوستا برافا، تتغيّر
تصرفاتها فجأةً. تصبح عدائية، محاولةً استحضار تفاصيل تثيرها جنسياً. هذه
تفاصيل تفقد معناها، اذ ان الكلام عنها لا يوفي الفيلم حقّه. الفيلم يستحق
ان يُشاهَد تحديداً لهذا النمط الحسّي الذي ينطوي عليه ولا يخضع في أي لحظة
إلى الاستسهال. لا شيء متوقّعاً هنا، الأشياء تلد من نفسها، وهناك دائماً
مفاجأة تنتظرنا خلف الباب.
تقوم المخرجة بالتحدّي الأصعب: اسناد البطولة إلى شخصية
رئيسية لا نستظرفها دائماً، خصوصاً في علاقتها مع صديقها الذي ضاع معها وما
عاد يعرف كيف يتصرف. في الأخير، هذا فيلم بطولة فتاة مدللة تصفّي حساباتها
مع كلّ شيء، وتبحث عمّن تحمّله أسباب محنتها ومشاكلها الجنسية، ويزعجها ألا
تجد تلك الشمّاعة بسهولة. ما يصنع جمال الفيلم ليس السيناريو فحسب، بل
الصدق الذي ينبع منه. تتعرى المخرجة بالكامل في نمط سينمائي حميمي لا يترك
المكان للمخيلة، بل يوظّف ذلك العري الروحي والجسدي للعلاج. هناك مشهد جميل
جداً يجمع ميلا بوالدها، محرج للغاية وجميل للغاية. انها محاولة فهم، لكن
كلّ كلمة تضيف طبقة جديدة من الغموض لتؤكد ان اللبس واللغط هما من صلب
الطبيعة البشرية، وربما علينا ان نترك بعض الأشياء بلا شرح. هذا فيلم عن
العلاقات والحبّ والحرية والنضج والطفولة، لكن من وجهة نظر فتاة تبحث عن
نفسها وتحاول ان تفهم ذاتها في ظل العائلة والأصدقاء والوعي على الجنس
والمشاعر. ولأن رحلة اكتشاف الذات هي أهم رحلة يمكن ان يقوم بها الإنسان،
هناك مادة للعديد من الأفلام في فيلم واحد.
لا نعرف إلى الآن كيف سيتعامل رئيس لجنة التحكيم المخرج
السويدي روبن أوستلوند مع "شغف دودان بوفان" للفرنسي الفيتنامي تران أن
هونغ، وهو واحد من أجمل أفلام المسابقة. فهذا العمل المصوَّر بكلاسيكية
يتحدّث عن فنّ الطبخ وروعته، في نمط يقع على مسافة سنوات ضوئية من أسلوب
أوستلوند الهدّام الذي جعله يقدّم أثرياء يتقيوؤن طعاماً مشابهاً خلال
رحلتهم السياحية في "مثلّث الحزن"، الكوميديا السوداء التي نال عنها
"السعفة الذهب" العام الماضي. في أي حال، ثمّة سينمائيون يميلون إلى إسناد
جوائز إلى أفلام هي نقيض أفلامهم، وقد يكون أوستلوند منهم. فالفيلم، رغم
أنه سيقسم النقّاد، بين محبّ وكاره، مرشّح قوي لإحدى الجوائز، منها جائزة
التمثيل الذي يستحقّه بجدارة بونوا ماجيميل.
وماجيميل يلعب دور دودان بوفان، الطبّاخ ومتذوّق الطعام
الذي يمضي أيامه في بيته الريفي الجميل وهو يحضر ما لذّ وطاب من مأكولات
تنتمي إلى المطبخ الرفيع. برفقة أوجيني (جولييت بينوش) الطبّاخة الماهرة
التي تعيش تحت سقفه منذ عقدين، يستسلم لشغفه في إيجاد وصفات جديدة
ومناقشتها مع أربع من أصدقائه الدائمين. المطبخ في نظره فنّ وفلسفة وشعر
ونمط حياة وثقافة تغذّي الذاكرة وترفع الروح.
في موازاة الكلام عن المأكل والمشرب، ثمّة علاقة غير
اعتيادية تربط دودان بإوجيني؛ هي تريد أن تبقى علاقتهما خارج إطار الزواج
رغبةً منها في الحفاظ على حريتها واستقلاليتها. هذه العلاقة يصوّرها المخرج
كما لو كانت تحضيراً لطبق نادر. يتعامل معها بنعومة شديدة، ويجب القول إن
ماجيميل وبينوش خُلقا للدور، فهما ليسا رقيقين فحسب بل أيضاً متذوّقان
رفيعان للطبخ.
يصعب التغافل عن نقيض هذا الفيلم الذي أحدث صدمة في كانّ
قبل نصف قرن بالتمام، ونعني به "الوليمة الكبرى" لماركو فيريري، الذي يصوّر
بورجوازيين يأكلون حد التخمة. فيلم هونغ يبعدنا من كلّ الالتزامات، محرراً
إيانا من كلّ القضايا التي تلقي بظلالها على موضوع الأكل في زمننا الحالي،
وقد يشكّل في هذا المجال كابوساً لاختصاصيي التغذية، لأنه يحتفل بكلّ ما
بات خطراً ومستبعداً عن موائدنا. |