فينيسيا: تاريخ عريق وجمال ساحر وفنون حاضرة عبر العصور
فينيسيا ــ محمد هاشم عبد السلام
عرّفها الشاعر البريطاني اللورد بايرون بأنها “المدينة
الخُرافية”، واصفًا إياها بـ”أحد أكثر الأماكن سحرًا وتأثيرًا في القلوب”.
الغالبية العظمى من العرب يُطلقون على هذه المدينة الإيطالية اسم
“البُندُقية”، اعتقادًا منهم أن الكلمة تعريب قام به القدماء. لكن كلمة
“البُندُقية” ليست عربية، وهي تسمية خاطئة تمامًا. ففينيسيا كانت من قبل
مملكة ودوقية، ثم أصبحت جمهورية مُستقلّة لأكثر من ألف عام. في تاريخها،
حملت المدينة أسماء وأوصافًا عديدة: الجمهورية الهادئة، ملكة البحر
الأدرياتيكي، الدوقية الجميلة،
(Buono
Duchy)
بالإيطالية. تدريجيًا، ولتسهيل نطقها بالعربية، باتت تنطق “بونودوقي”، ثم
“بُندُقية”. إذًا، الاسم مُجرّد تحريف خاطئ تمامًا للنطق الإيطالي لأحد
الأوصاف القديمة للمدينة، فاعتقد كثيرون أنه التعريب لاسمها.
فينيسيا ليست فقط تلك الجزيرة الضخمة السياحية الشهيرة التي
تظهر في الصُوَر والأفلام، فهي مُنقسمة إلى جزأين: رئيسي كبير مُتّصل
باليابسة (ميسترى)، يبتعد عن فينيسيا العائمة 9 كم، وتُقطع المسافة بينهما
بالقطار، أو الحافلة. وآخر مُتمثّل في الجزر الـ118. والقنوات المائية
الرئيسية (150 تقريبًا)، والجسور التي تعد بالمئات. ويعتقد كثيرون أن
القنوات المائية في أرجاء فينيسيا هي مياه البحر الأدرياتيكي، لكنها مياه
“لاغون”، أي بُحيرة مالحة ضحلة تُحاذي مياه البحر، وتتصل به في غير موضع،
ولا يتجاوز عمقها مترين اثنين، وتغلب عليها رائحة عطنة تجذب حشرات كثيرة،
خاصة البعوض في ليالي الصيف، وهي غير صالحة للسباحة أبدًا. ومن ثم، فإنّ
الاتصال الأساسي بالأدرياتيكي يمرّ عبر جزيرتي “ليدو” و”سانتا ماريا ديل
ماري”، اللتين، رغم استطالتهما ونحافتهما، تعملان كحاجز منيع يحمي معظم
الجزر داخل الـ”لاغون”. إنهما شاطئا المدينة الرئيسيان الصالحان للسباحة.
وهما الوحيدتان اللتان تمتلكان بناءً عصريًا حديثًا مُتعدّد الطوابق،
وشوارع مُمهَّدة، وإشارات مرور. ويُسمح فيهما بعبور السيارات الخاصّة
والنقل العام. لكنهما، بشكل عام، غير معروفتين كثيرًا للسيّاح الذين
يعتقدون أن فينيسيا هي فقط ساحة سان ماركو والحواري والأزقة المحيطة بها،
أي البلدة القديمة. ربما يسمع قلة بجزيرتي “مورانو” و”بورانو” ويزورانهما.
ففي الأولى صناعة زجاج عالمي مشهور جدًا. وفي الثانية صناعة “دانتيل” فاخر
للغاية.
تعد سان ماركو أشهر ساحات فينيسيا. تتميز ببرجها الجرسيّ
الذي يمكن من خلاله رؤية جُزر عديدة، وبعض جوانب كاتدرائيتها المهيبة التي
تحمل الاسم نفسه، وهي تحفة فنية فريدة من نوعها في أوروبا. على بعد أمتار،
يقع أحد أشهر القصور القوطية في المدينة: “قصر الدوقي”، المُشيِّد عام
1340، حيث مقرّ الحكم، وسكن الملوك والدوق، على مرّ العصور. وأيضًا حيث
يوجد السجن الموضوع فيه جياكومو كازانوفا. وهناك أيضًا “جسر التنهّدات”،
الذي يصل القصر بالمحكمة القديمة، حيث كان السجناء ينقلون عبره من الأولى
إلى الثانية. ولذا، أطلق عليه اللورد بايرون هذا الاسم، تعبيرًا عن آلام
المساجين والمُعذّبين والمُضطهدين. في عام 1923، تحوَّل القصر إلى أحد أشهر
متاحف المدينة الـ11.
يُعد “مقهى فلوريان” (1720) في ساحة سان ماركو أعرق وأقدم
مقهى في العالم، ولم يُغلِق أبوابه إلى الآن. تردد عليه أدباء كبار، مثل
كارلو غولدوني، وولفجانغ فون غوته، وجياكومو كازانوفا، واللورد بايرون،
ومارسيل بروست، وتشارلز ديكنز، وإرنست همنغواي، وغيرهم من مشاهير الفن
والسينما والمال. أما توماس مان فكان يُفضِّل الابتعاد عن فينيسيا السياحية
وساحتها الرئيسية والإقامة في جزيرة “ليدو” التي تردّد منذ عام 1911 على
فندقها التاريخي المعروف باسم “أوتيل دي بان”، الذي تأسس عام 1900. وصُوِّر
فيه أحد أشهر الأفلام السينمائية المُقتبسة عن نصّ أدبي لتوماس مان، “الموت
في فينيسيا” (1971) لفيسكونتي.
كما كانت جزيرة ليدو مسرحًا لغراميات اللورد بايرون مع حبيبته الإيطالية،
وزوجة أحد نبلاء المدينة. على شاطئها، كان يسبح دائمًا. لكنه بدأ تأليف
مسرحيته “مارينو فاليريو: دوق فينيسيا”، وأولى مقاطع “دون خوان” في جزيرة
“سان لازارو”. بايرون الذي جاء إلى إيطاليا هاربًا من الديون والفضائح،
وعاش أعوامًا عديدة في فينيسيا، قضى معظمها في جزيرة “سان لازارو”، حيث عاش
مع الرهبان الأرمن، وتعلم اللغة الأرمنية، وشارك في إعداد المُعجم
الإنكليزي الأرمني. “سان لازارو” من أسرار فينيسيا الدفينة. كانت سابقًا
مُستعمرة للجذام. وفي عام 1717، منحها دوق فينيسيا لراهب كاثوليكي أرمني
لتأسيس طائفته الدينية، فبنى الرهبان الأرمن كنيستهم وصوامعهم، ولا يزالون
يعيشون فيها حتى اليوم. ويُعد متحفها أكبر كنز خارج أرمينيا للمخطوطات
والكتب الأرمنية والعبرية وأدوات الطباعة. أيضًا، يتضمّن سجلات دقيقة لما
نهبه نابوليون بونابرت من القاهرة في أثناء الحملة الفرنسية، وفيه مومياءات
مصرية أصلية، ونسخ قديمة ونادرة من الأناجيل، وبعض أجزاء من القرآن.
يصعب فعلًا حصر جُزر فينيسيا، فهي جمهورية قائمة بذاتها حقًا لعشرات
القرون. بعض جزرها صغيرة جدّا، والأخرى كبيرة فعلًا. بعضها يسكنه الآلاف،
وأخرى يسكنها العشرات فقط، أو لا أحد بالمرة. بعض منها مجرّد أديرة قديمة
مهجورة، أو مُستخدمة، ومنها ما هو فنادق صغيرة. جزر أخرى قليلة عبارة عن
مقبرة ضخمة رائعة من الخارج. باختصار، فينيسيا ليست فقط “القنال الكبير”،
وساحة سان ماركو، ومُحيطهما والمراكب الصغيرة (الجندول). ولا هي المباني
الأثرية والقصور الفخمة والمتاحف المتميزة والكنائس والكاتدرائيات الفريدة
في البلدة القديمة. إنها بالفعل دولة يحتاج زائرها إلى أشهر عديدة
لاكتشافها ومعرفة تراثها، ومُلاحظة كل ما هو “فينيسي” خالص فيها، وإدراك أن
لها لهجتها الخاصة، وأن مُفردات هذه اللهجة الفينيسية صعبة، حتى على
الإيطاليين أنفسهم.
فينيسيا والفنون
التركيبة السكانية لفينيسيا فريدة ومُنفتحة منذ قرون عديدة
على كافة الأجناس والأعراق، نظرًا إلى موقعها واتصالها المُتفرّد بالعالم،
وجمالها الجذّاب، وقوّتها التجارية. لم تكتف بكونها مدينة أو جمهورية حاضنة
ومُستقبِلة، بل أفرزت وأنتجت للعالم الكثير، في العمارة والفن التشكيلي
والموسيقى والرحلات الاستكشافية والطباعة، وغيرها مما تفردت به عالميًا،
دون غيرها. كما كانت فينيسيا مركزًا مهمّا لمختلف الفنون عبر العصور،
ومُلهمة لأدباء كثيرين، خصوصًا بين القرنين الـ13 والـ18. قدّمت فينيسيا
للعالم أبرز الأسماء وألمعها في ميادين عديدة، لا تزال تتردّد لغاية اليوم.
في الموسيقى، هناك غويسيبي تارتيني، وأنطونيو فيفالدي. تشكيليًا، هناك
“مدرسة فينيسيا” العريقة، وجاكوبو روبوستي المعروف بجاكوبو تينتوريتّو،
وباولو كالياري المعروف بباولو فيرونازي، وتيزيانو فيتشيليو الملقّب
بتيتيان.
على مدى تاريخها برزت المدينة، ذات العمارة والتصميم
الفريدين، في أعمال فنية رصينة لكبار الأدباء، منذ الإنكليزي وليام شكسبير
إلى مواطنه المُعاصر إيان ماك إيوان. وبالطبع في “عبر النهر وباتجاه
الأشجار” (1950) لإرنست همنغواي، حيث كثير من الأحداث تدور في فينيسيا
ومُحيطها. إذ عاش همنغواي في فينيسيا لفترات طويلة، وكتب عنها بناءً على
تجربة شخصية بحتة.
في مقابل الاهتمام الفني الغربيّ بفينيسيا، لم يكترث
الإيطاليون كثيرًا. في الأدب مثلًا، لم يشتغل أدباء إيطاليون كثيرون عليها
في نصوصهم وأعمالهم، باستثناء كارلو غولدوني، وإيتالو كالفينو. في حين
خلّدها شكسبير في مسرحيتي “عطيل، أو مستنقع فينيسيا” (1604)، و”تاجر
فينيسيا”
(1605).
وقد اقتبست “عطيل”، ذلك العمل المُلهِم والمثير للخيال، سينمائيًا مرات
عديدة. أبرزها لأورسون ويلز، وفرانكو زيفريلّي، الذي صنع منه نسخة أوبرالية
عام 1986. اقتباس ويلز عام 1952 فاز عنه بـ”الجائزة الكبرى”، مُناصفة، في
الدورة الـ50 لمهرجان “كانّ” السينمائي. اقتباس استغرق تصويره 3 أعوام،
وصدرت منه مُؤخرًا نسختان مُرمّمتان: واحدة صوَّرَها ويلز. وأخرى تدخّلت
فيها الشركة المنتجة، فعدَّلتها أو نقَّحتها، أو بالأحرى “شوَّهَتها”.
ورغم كون “تاجر فينيسيا” دراما هزلية شديد العمق والطرافة، إلا أنها لم
تُقتَبس كثيرًا للسينما، مُقارنة بـ”عطيل”. ورغم اقتباس “تاجر فينيسيا”
سينمائيًا منذ عشرينيات القرن الـ20، إلا أنّ النسخة الأكثر نجاحًا هي تلك
التي أخرجها البريطاني مايكل رادفورد عام 2004 بالعنوان نفسه، وبطولة أل
باتشينو في دور “شيلوك”. أورسون ويلز اقتبس المسرحية أيضًا، وأنجز تصوير
نصف فيلم تقريبًا، لكن التعثر المالي حال دون اكتمال المشروع. لاحقًا، زعم
ويلز سرقة النيغاتيف المُصوَّر. إلا أن ما تبقى منه لم يكن يتعدّى 36
دقيقة، جرى ترميمها وعرضها عام 2015 في الدورة الـ72 لمهرجان فينيسيا،
بمناسبة المئوية الأولى لولادة أورسون ويلز.
رغم هذا كلّه، فإنّ أشهر لقاء بين الأدب والسينما المعنيَّين بفينيسيا،
الأنجح حتى الآن، يتمثّل في رائعة الألمانيّ توماس مان “الموت في فينيسيا”
(1912)، التي اقتبسها فيسكونتي عام 1971، بعد تعديلات طفيفة على الرواية.
في النهاية، مُعالجته السينمائية لم تُجافِ الأصل. أبرز التعديلات تمثّلت
في تحويل بطلها الكاتب آشنباخ إلى مؤلّف موسيقي. طبعًا، أحداث الرواية
والفيلم معروفان. لكن اللافت للانتباه بخصوصهما أنه يندر أن تدور أحداث
رواية في فينيسيا، وتبتعد عن القلب التاريخي والسياحي للمدينة. كما لم يحدث
أيضًا أن صُوِّرَت أعمال سينمائية في الـ”ليدو”، أو في غيرها من جُزر
فينيسيا.
في فندق “أوتيل دي بان” في “ليدو”، حيث كان آشنباخ يقضي
عطلته في هدوء متأمّلًا الحياة والفن وحياته بشكل عام، صَوَّر فيسكونتي
فيلمه هذا. لم يتخيّل أحد ما سيكون عليه مصير الفندق العريق، الذي استقبل
نجومًا كثيرين كانوا ضيوف مهرجان فينيسيا، فهو مُغلق منذ أعوام عديدة بسبب
ترميمه الذي لا نهاية له. يُذكر أن الفندق، وهو أحد المعالم التاريخية
للجزيرة، استُخدِمَ في تصوير مشاهد عديدة في “المريض الإنكليزي” (1996)
للبريطاني أنتوني مانجيلا ـ المقتبس عن رواية بالعنوان نفسه للكندي مايكل
أونداتجي، صدرت عام 1992 ـ باعتباره “فندق شيبرد” في القاهرة، الذي احترق
في يناير/ كانون الثاني 1952، في أثناء ما يُعرف بـ”حريق القاهرة”.
باختصار، يمكن القول إنه سينمائيًا، وربما يُعزى هذا إلى
التاريخ القصير نسبيًا للسينما، لم يكن تناول فينيسيا سينمائيًا عميقًا
وجماليًا وفنيًا، بل سياحيًا واستعراضًا ومشهديًا، أكثر من أي شيء آخر. رغم
أن أغلب الأنواع السينمائية اتّخذت من المدينة خلفية لها، أو كانت المدينة
نفسها “مكانًا” تجري فيه بعض الأحداث، أو معظمها، سواء في أفلام جاسوسية
وإثارة وتشويق ومُغامرة، كما في سلسلة جيمس بوند، مثلًا، أو أفلام حبّ
ورومانسية وكوميديا لمُخرجين غربيّين عديدين، مثل ستيفن سبيلبيرغ، وأنتوني
مانجيلا، وستيفن سودربيرج، وبول شرايدر، ووودي آلن، ولوك بيسّون.
ورغم صعوبة حصر الأعمال الفنية كلّها التي تناولت مدينة
فينيسيا، أو اتّخذت منها مسرحًا لأحداثها، لكن اللافت للانتباه أن شخصية
تاريخية عظيمة، كالرحّالة والمُستكشف ماركو بولو، مثلا، المولود والمتوفّى
في فينيسيا، لم تجذب كبار المخرجين لتناولها وتقديم حياتها، أو حتى
الأدباء، باستثناء الإيطالي إيتالو كالفينو في “مدن لا مرئية” (1972).
بدرجة أقل، ينطبق الأمر على جياكومو كازانوفا، الذي لم يُصنع عنه كثير، بل
تمّ تناول الجانب الفضائحي في حياته، واختُزل شخصه في علاقاته النسائية،
رغم المعالجة الفريدة التي اعتمدها فيدريكو فيلّيني في تناوله تلك الشخصية
الدرامية الثرية والمُثقّفة والفريدة من نوعها، والتي تتحدّث لغات عديدة،
والتي مارست أعمالًا كثيرة، وعاشت في بلدان مختلفة، وماتت غريبة عن وطنها.
رغم أن المُلابسات الطريفة التي صاحبت هروب كازانوفا من زنزانته، بحفره
إياها بإزميل ومِلعَقة، وغيرها من وقائع، كفيلة بصنع فيلم، أو كتابة عمل
أدبي على قدر بالغ من التشويق والإثارة.
البينالي
منذ قرون عديدة، تُعد فينيسيا، أو “فينيتزيا”، كما تنطق
بالإيطالية، مدينة الفنون والرقص والاحتفال، وكلّ جديد ومتميّز في هذه
المجالات. بالنسبة إلى كثيرين، يقترن اسمها بمهرجانها السينمائي الأعرق
والأقدم عالميًا. مع أن احتفالات عديدة ومختلفة تُقام فيها سنويًا. وعلمًا
بأن شوارعها تشهد كلّ عام، منذ القرن الـ17، أحد أهمّ الكرنفالات العالمية.
يُشارك فيه نحو 3 ملايين زائر، وتُميّزه الأزياء التقليدية، وطبعًا الأقنعة
“الفينيسية” الشهيرة، المرتبطة بتاريخ الكرنفال منذ تأسيسه. أما عدد أيامه
فيختلف من عام إلى آخر، ليمتدّ أحيانًا على 3 أسابيع، لكن في الأغلب يقام
لأسبوعين، وذلك بين نهاية يناير/ كانون الثاني ونهاية فبراير/ شباط.
وبخلاف هذا الكرنفال الشهير والعريق، قدّمت اللغة الإيطالية
للعالم مُفردة “بينالي” (أي مرة واحدة كلّ عامين)، وصنعت فينيسيا مفهومها
الخاص جدًا لـ”بينالي” المهرجانات الفنية. مثل: “بينالي فينيسيا الدولي
للفنون”
(La Biennale di Venezia)،
المؤسَّس عام 1895، والمُشرف على مهرجانات عديدة. وأوّلها “بينالي الفنون
التشكيلية والعمارة”. ثم تأسّس “بينالي المُوسيقى” عام 1930، و”بينالي
المسرح والسينما” عام 1934. لكن، منذ عام 2000، انفصلت العمارة عن الفن،
وصار لكل منهما “بينالي” خاص به. عام 1999، تأسّس “المهرجان الدولي
للموسيقى المُعاصرة”، وبعد 10 أعوام، أُطلق “كرنفال الأطفال”، و”مهرجان
الرقص المُعاصر”. ومنذئذ، تغيّر اسم الـ”بينالي”، فأصبح “مؤسّسة البينالي”.
وإن كان اسم “بينالي فينيسيا” لا يزال يُستخدم لوصف المعارض والمهرجانات
كلّها التي تُنظّمها المؤسّسة.
اللافت وبشدة أن كلمة “بينالي”، كوصف، ملائمة للعمارة
والفنون مثلًا. إذ لا خطأ في استخدامها (لكل فنّ منهما مهرجان يُقام مرة
واحدة كلّ عامين). لكن الخطأ كامن في استخدامها لوصف المهرجان السينمائي،
الذي يُقام سنويًا. صحيح أنه بدأ كـ”بينالي”، إذ أقيمت دورتاه الأولى عام
1932، والثانية عام 1934، لكن هذا لا ينفي خطأ وصفه بتلك المفردة. والأدق
اعتماد التسمية الصحيحة، الإيطالية والإنكليزية والفرنسية: “مهرجان فينيسيا
السينمائي الدولي”. والابتعاد عن استخدم الاسم الطويل والمُعقد وغير الدال:
“معرض فنون السينماتوجرافيا الدولي لبينالي فينيسيا”
Mostra Internazionale d’Arte Cinematografica della Biennale di Venezia.
منذ بداية انعقاد الـ”بينالي”، تُقام مهرجاناته واحتفالاته
كلّها في أروقة الـ”أرسنالة”، أو بنايات الترسانة البحرية القديمة، الواقعة
في الطرف الأقصى للبلدة القديمة. وذلك باستثناء المهرجان السينمائي، الذي
اختار ـ منذ تأسيسه على يد رجل الأعمال والسياسي جوزيبي فولبي، والذي تُمنح
باسمه جائزة “كأس فولبي” لـ”أحسن مُمثل/ مُمثلة” ـ جزيرة الـ”ليدو”،
البعيدة عن ساحة سان ماركو والبلدة القديمة بنحو 40 دقيقة، وعن محطة القطار
الرئيسية بنحو 60 دقيقة. في الـ”ليدو”، حيث يحتفل “مهرجان فينيسيا
السينمائي الدولي” هذا العام بدورته الـ80 (30 أغسطس/ آب ـ 9 سبتمبر/ أيلول
2023)، يختلف الأمر كلّيًا. فالمهرجان الذي توقف لأكثر من مرة على مدى
تاريخه، إما لاندلاع الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، وإما لأسباب
سياسية ومالية، لم يتّخذ من أية أبنية سابقة مقرات له، أو لعروضه، إذ إن
أبنيته كلّها واكبته منذ تأسيسه، ورغم الطابع الفاشي الجامد للأبنية إلا أن
اللمسات الفنية الإيطالية عالجت جمود وقبح هذه الأبنية، مع مرور الزمن
والترميمات المتتالية، وأكسبتها جماليات ملحوظة. تُعد صالة “غراندي” أقدم
صالات المهرجان. فقد افتُتحت في الدورة الـ5 عام 1937، لكنها خضعت لأعمال
ترميم وتجديد كثيرة، كان آخرها عام 2011، حيث أعيدت إلى ما كانت عليه
تمامًا عند افتتاحها، بالبنية والخامات والتصاميم نفسها، مع إضافة واحدة:
ارتفع عدد مقاعدها من 1019 إلى 1032. أما صالة “دارسينا” المُجاورة، التي
افتُتحت في خمسينيات القرن الماضي وكان صالة مفتوحة، فقد تمّت تغطيتها
وتطويرها أكثر من مرة، كان آخرها قبل 7 أعوام، وتضمّ 1409 مقاعد، وهي
الأقدم بعد “غراندي”.
يلمس زائر المهرجان كل عام تجديدًا وتطويرًا في محيط
فعالياته المعروف باسم ميدان الكازينو، أو ساحة “ماركوني”. يُلاحظ أيضًا أن
بلدية فينيسيا، بالتعاون مع مجلس إدارة البينالي، تُنفق بسخاء على دعم
المهرجان لوجستيًا، سنويًا تقريبًا. مثلًا، العام الماضي جرى تمهيد المنطقة
المُحيطة بقصر المهرجان والمقر الصحافي وتزيينها وفقًا للذوق الرفيع
المتميز لمُصممي الديكور الإيطاليين. كذلك، تم افتتاح مقهى ومطعم يليق
بالمهرجان، قاصر فقط على الصحافيين داخل المبنى التاريخي المُسمى إلى الآن
بـ”الكازينو”. رغم أنه توقف عن أن يكون “كازينو” للقمار منذ سنوات بعيدة.
وتحول الآن إلى مقر عملي للصحافيين وقاعة المؤتمرات، واحتضان أغلب عروض
“أسبوع النُقاد”، أو “أيام المُؤلف”.
أيضًا، بعد إقامة سينما الحديقة، أو “غاريديني”، قبل 7
سنوات تقريبًا، القابلة للفك والتركيب (446 مقعدًا)، فوجئنا قبل عامين
بسينما أخرى من النوعية نفسها. “كورينتو” (340 مقعدًا)، ليست بعيدة أبدًا،
وقد أقيمت فوق حمام سباحة بعد تغطيته. باختصار، يزيد عدد قاعات فينيسيا على
الـ9. مقاعد أصغر قاعاته 48 مقعدًا، ومقاعد أكبرها، خيمة “بالا بينالي”
1770. من هنا، يُلاحظ أن فعاليات المهرجان وعروض الأفلام في مُختلف
التظاهرات تُعرض دون زحام، أو مشقة، سواء “المُسابقة الرئيسية”، أو قسم
“خارج المُسابقة” في صالتي غراندي ودارسينا، أو تظاهرة “آفاق”، و”امتداد
آفاق” في صالات دارسينا، وغارديني، وبالا بينالي، أو تظاهرتا “أسبوع
النقاد” و”أيام المؤلف”، في صالات فولبي، وبيرلا، وبالا بينالي، وكورينتو،
وغيرها.
المعروف أن مهرجان فينيسيا يمنح جائزتي “الأسد الذهبي”،
و”الأسد الفضي”، وغيرهما. تصميم الجائزة على النحو المُتعارف عليه ليس من
ابتكار المهرجان، كما يُخيَّل للبعض. ببساطة، يتّخذ المهرجان من شعار مدينة
فينيسيا على مرّ تاريخها رمزًا له. الشعار جاء أساسًا مع تأسيس كاتدرائية
“سان ماركو” في قلب البلدة القديمة، ويمثّل وجه القديس ماركوس وجسد أسد
مُجنَّح. القديس ماركوس هو، في الحقيقة، القديس مُرقُص المصري. لا يعرف
كثيرون أن هناك مُتعلّقات كثيرة له مُوجودة في الكاتدرائية. أما الجثمان،
المسروق من مصر قديمًا ليُوضع في الكاتدرائية، فاستعادته الحكومة المصرية
بعد المطالبة به. ومن هذا الشعار، استمد المهرجان شعاره وتصميمه لجوائزه.
بخلاف “المسابقة الرئيسية” الأكثر أهمية في المهرجان، يُعد
قسم “آفاق” التظاهرة الكبرى المُوازية للمُسابقة الرئيسية، والمُناظر لقسم
“نظرة ما” في مهرجان “كان”، أو قسم “بانوراما” في مهرجان “برلين”. وعادة ما
يُعرض فيها 18 فيلمًا روائيًا طويلا تتنافس على جوائز القسم. وفي قسم “آفاق
إكسترا أو امتداد آفاق”، المُستحدث مُؤخرًا، عادة ما تُعرض 9 أفلام. وأغلب
الأفلام المعروضة في القسمين لمخرجات ومخرجين يقدمون أعمالًا أولى، أو
ثانية، تستحق فعلا المُتابعة والاكتشاف.
كما يُقيم “اتحاد نقاد السينما الإيطالية” تظاهرة سنوية
بعنوان “أسبوع النقاد”. تنعقد هذا التظاهرة المُهمة منذ 38 عامًا. وهي ليست
مُنفصلة كليًا عن المهرجان، ولا تقام بعيدًا عن فعالياته، مثلما يحدث في
تظاهرة “أسبوع النقاد” في مهرجاني “كان”، أو “برلين”. مهرجان فينيسيا يحتضن
التظاهرة، ويضعها ضمن جداول عروضه الرئيسية، وتُعرض أفلامها داخل قاعات
المهرجان ذاتها. يُشرف على اختيار أفلام التظاهرة خمسة من أعضاء اتحاد
النقاد، إلى جانب رئيس الاتحاد. ويمنح الأسبوع جائزة أحسن فيلم، وذلك بناء
على اختيار الجمهور. وأيضًا جائزة “أسد الأسبوع” لأفضل مُخرج واعد. الهدف
من الأسبوع إلقاء الضوء على الأعمال الأولى للمخرجين الشباب، وتعريف
المُنتجين والعالم بإنتاجاتهم وأسمائهم. من ناحية أخرى، تعرض التظاهرة، على
هامشها، 10 من أحدث الأفلام الإيطالية القصيرة بتوقيع مُخرجين شباب، وذلك
قبل بداية كل عرض من العروض الرئيسية. وعادة ما تتكون مُسابقة “أسبوع
النقاد” للأفلام الطويلة من 7 أفلام، إضافة إلى فيلمي افتتاح وختام.
أما تظاهرة “أيام المُؤلفين”، التي تأسست منذ عشرين عامًا،
بواسطة “جمعية المُؤلفين السينمائيين والمُنتجين المُستقلين”، فبرنامجها هو
الأكبر من حيث أقسامه. لدى التظاهرة “مُسابقة رئيسية” يعرض فيها 11 فيلمًا.
وقسم “أحداث خاصة”، ويعرض 7 أفلام. و”ليالي فينيسيا” ويعرض 8 أفلام. و”عروض
خاصة” يعرض 5 أفلام.
وبخلاف البرامج والمسابقات الرئيسية هذه، توجد فعاليات أخرى
وأكثر من قسم، لا تقل أهمية. مثلًا، قسم “كلاسيكيات فينيسيا”، ويعرض
الكلاسيكيات المُرَمَّمة والمُستعادة حديثًا، ويمنح القسم جائزة سنوية
لأفضل فيلم مُرَمَّم. أيضًا، قسم “العروض الافتراضية”، وقسم “عروض خاصة”،
و”بينالي كولدج سينما”، وهو قسم تدريبي إيطالي ودولي ويعرض فيه الشباب
والطلاب أعمالهم. هذا كله بخلاف اللقاءات والندوات التكريمية، والمعارض
الفنية الفوتوغرافية، ودروس السينما، وغيرها كثير جدًا من الفعاليات
والعروض والاحتفالات الترويجية غير السينمائية. |