"مسروقة"
يحكي مأساة الأطفال الهنود المخطوفين و "خط التردد" عن فساد المستشفيات
والمحاكم التركية
أفلام كثيرة تعرض في أقسام موازية وزوايا "مخبأة" تتجاوز
تلك التي شاهدناها على مدى الأيام الماضية في مسابقة مهرجان
البندقية السينمائي
الذي يختتم غداً، جمالاً وابتكاراً وأهمية.
وهذه هي الحال في كل المهرجانات الكبيرة مثل "كان" و"برلين"
وغيرهما، فإذا غامر المشاهد وأراد
الخروج من المتن إلى الهامش لإشباع فضوله بعيداً من الدروب المطروقة، فلا
بد أن يكتشف اتجاهات سينمائية جديدة
ورؤى مختلفة عن السائد في أفلام تأتي من بلدان نامية، حيث السينمائيون
يعانون ويجاهدون من أجل صناعة أفلامهم التي تكون أحياناً باهرة، ونلمس فيها
بوضوح تلك الجهود التي تنعكس إيجاباً في العمل، خلافاً للاستسهال الذي تقع
فيه أفلام غربية عدة تنجز في إطار إنتاجي صناعي مريح لا ينتج سوى الكسل
الفكري والتكرار.
وأحد تجليات هذه السينما الهامشية في مهرجان البندقية هذا
العام، هو فيلم "مسروقة" للهندي كاران تجبال الذي عرض في قسم "أوريزونتي"
التنافسي، وهو عمل تشوبه شوائب كثيرة أولها أداء الممثلين الضعيف، ومع ذلك
فهو يوفر بالنسبة إلى العرب والأوروبيين والغربيين عموماً، تجربة
"إكزوتيكية" تحملنا إلى الهند من خلال حكاية خيالية تضرب جذورها في العمق
الهندي.
يبدأ الفيلم مع جملة في الجنريك تقول "هناك هندان لا تهتم
واحدتهما بالأخرى، لكن في بعض الأحيان تتصادمان". والحكاية التي نتابع
فصولها المأسوية والكوميدية في آن معاً هي وليدة هذا التصادم، وهي قصة سرقة
طفلة عمرها خمسة شهور من أمها (ميا مالزر) خلال وجودها في محطة قطار ذات
صباح رفقة مصور يشهد على الحادثة وشقيقه الرجل الثري الذي يتردد في مساعدة
الأم المفجوعة، فهو وأخوه عليهما تلبية دعوة إلى حفل زفاف.
نخوض مغامرة البحث عن الطفلة في أرياف الهند البعيدة
والخطرة لنشهد على ما يحدث فيها من مآسٍ، واللافت أن هذه الرحلة التي ستكون
استكشافية أكثر من كونها بحثية، تغدو مناسبة لعرض الواقع الهندي المأزوم،
ليس فقط أمام المشاهد بل أمام الشقيقين كذلك، لكونهما من طبقة اجتماعية غير
معنية بهذا النوع من الأجواء، ولا يعرفان حتى ماذا تعني شبكات سرقة
الأطفال.
تنطوي الرحلة على لحظات هرج ومرج وصراعات لا تنتهي بين
الشقيقين اللذين يكتشفان خلالها ماضي السيدة التي يحاولان مساعدتها للعثور
على رضيعها، وهذا كله يفضي إلى كثير من مشاهد الحركة والعنف على الطريقة
الهندية.
وعن الواقع الذي يصوره يقول المخرج، "في الهند يختفي طفل كل
10 دقائق ولا يتم العثور إلا على عدد قليل منهم، وهؤلاء هم الأوفر حظاً،
وانعدام المسؤولية عند الدولة والشعور بالظلم والانتشار غير المحدود
للمعلومات المضللة عبر وسائط التواصل الاجتماعي، أدت كلها إلى اتهام أفراد
أبرياء ظلماً وحتى معاقبتهم. إني أشعر بالقلق إزاء الأحداث التي انتهت إلى
تآكل الثقة في أنظمتنا الاجتماعية الأساس من خلال الشخصيات المتباينة التي
في فيلمي، ووددت التطرق إلى القوة التي لا تتزعزع للروح الإنسانية والتي لا
تزال تدير شؤون عالمنا، وفيلمي يسعى إلى التقاط مدى تعقيد زمننا المتغير مع
غرس شعور بالأمل والتفاهم".
عدد لا بأس به من الأفلام الهندية يحاول الإشارة إلى اتساع
الهوة بين الطبقات، و"مسروقة" لا يختلف عن هذه الأفلام ولكن يفعلها على
طريقته الخاصة مع حشد كم من المواضيع الجانبية مثل الأمومة وكراهية الأجانب
وخيبة الأمل من النظام، إذ إن الشرطة تحاول تلبيس التهمة اعتباطياً إلى أي
كان من دون إجراء تحقيق، ويجري هذا كله في خضم الأحداث المثيرة وصراعات
البقاء التي نتابعها في الفيلم بإيقاع سريع. هذا فيلم هندي جداً في أدق
تفاصيله مثل تعاطي الشخصيات مع بعضها، وطبيعة الحوارات وكيفية التصوير التي
تبدو في بعض الأحيان كأن فريقاً ثانوياً من فيلم بوليوودي تولاها، علماً أن
المخرج تمرس في بوليوود قبل أن يحلق وحده في الإخراج.
واقع مأزوم
فيلم آخر يجعلنا نطلع على الواقع المأزوم هذه المرة في
تركيا وهو "خط التردد" للمخرج التركي سلمان نصار الذي يشارك بعمله هذا في
قسم "أوريزونتي"، والفيلم يتعقب خطوات محامية جنائية (تولين أوزين) تائهة
بين الاهتمام بأمها المحتضرة والدفاع عن موكلها المتهم بجريمة قتل، وتواجه
كانان، وهذا اسمها، أسئلة أخلاقية تتعلق بأمها وموكلها مما يستدعي العودة
لضميرها وعقلها وأحاسيسها.
ويقول المخرج في كلمة ضمها الملف الصحافي، "كنت مهتماً بشدة
بمفاهيم الجريمة والعدالة والأخلاق منذ أعوام دراستي المحاماة، فقررت في
هذا الفيلم استكشاف هذه المواضيع، علماً أن فصوله تحدث خلال أقل من 24
ساعة، وتدور خلال جلسة استماع مركزاً على تفضيلات كانان الأخلاقية التي
تلقي بظلالها على حياتها الشخصية والمهنية، وعلى رغم أنني فضلت تصوير
الفيلم من منظور كانان الشخصي فتركيزي لم يكن على نتيجة اختياراتها بل على
عواقب محاكمتها".
ويحاول الفيلم، وهو الطويل الثاني لمخرجه، البحث عن لغة
سينمائية تنسجم مع الفكرة، ولكن للأسف يغرق بين حين وآخر في الدراما
التلفزيونية على رغم القصة المثيرة التي كان من الممكن أن تعطي عملاً أنضج
وأكثر تماسكاً.
وينتمي الفيلم إلى سينما الواقع الاجتماعي التي تصور شخصيات
في صراعها مع محيطها ونفسها أيضاً، وهو صنف أبدع فيه بعض الأتراك، ويحرص
المخرج في عمله هذا على فصل الخيوط بين الحقائق وما يبدو أنها كذلك، كما أن
نصه ممعن في الهاجس الأخلاقي ويهمين على البطلة كانان التي تواجه الشك
وعذاب الضمير بإرادة صلبة.
يقدم المخرج من خلال الذهاب والإياب بين مؤسستين تمثلان
النظام، أي المستشفى والقضاء، "بورتريهاً" لبلاد بعيدة جداً عن صورتها
السياحية المستهلكة التي ارتسمت في الأذهان، فما نراه هو "تركيا الأخرى"
عبر نظرة من الداخل على الواقع التركي المضطرب، وما هو إيجابي فيه أن مسرح
الأحداث مدينة صغيرة بعيداً من المتروبول التركي، حيث تتواجه نساء ورجال من
طبقات وقيم ومفاهيم مختلفة، وهذا كله يلتقطه المخرج ببعض النجاح هنا وبعض
الإخفاق هناك. |