يوميات الموسترا (3):
جنون السينما في فيلم يوغوس لانتثموس
أمير العمري–
فينيسيا
اليوم الثالث في المهرجان هو بلا شك، يوم جنون السينما،
ويكفي أننا شاهدنا فيه فيلم “أشياء بائسة”Poor
Things
الذي لا أرى أن هذا هو أفضل تسمية له، وأفضل شخصيا الإسم الفرنسي، أي
“كائنات بائسة”Pauvres
Créatures.
رغم أنه بعيد أيضا عن البؤس، فهو أولا عن أشخاص، وليس عن أشياء. وثانيا، عن
التمرد وليس البؤس. ولاشك أنه يمثل عودة شديدة القوة والجموح الفني من جانب
المخرج اليوناني المرموق “يورغوس لانثيموس” صاحب الأفلام الممتعة مثل سن
الكلب”، “سرطان البحر”، “مقتل غزال مقدس”، و”المفضلة”، بعد غياب خمس سنوات.
هذا هو الفيلم الذي يشبه عصا موسى، أي الذي ظهر لكي يبتلع
جميع الأفلام، تلك التي سبقته، وتلك التي ستلحقه، فهو لا يشبه أيا منها، بل
ولا يشبه أيا من الأفلام التي ظهرت في السينما من قبل، فهو عمل متفرد، لا
يشبه غيره، ورغم أنه مقتبس من رواية الكاتب الاسكتلندي “ألسدير جراي”
Alasdair Gray
التي صدرت عام 1992، إلا أنه فيلم شديد الجمال سينمائيا، أي أنه رغم أصله
الأدبي، يصل كثيرا في مشاهد عديدة، إلى مستوى السينما الخالصة، التي تعتمد
على مكونات الصورة، والمونتاج، وحركة الكاميرا، واللقطات القريبة والبعيدة،
والتناغم بين الصورة والموسيقى، وكلها عناصر رئيسية في خلق السينما التي لا
تشبه أيا من الفنون الأخرى.
يروي الفيلم قصة تبدو كما لو كانت محاكاة على مستوى مختلف،
لقصة فرانكنشتاين، أي قصة تنتمي إلى عالم ما يسمى بـ”الخيال العلمي” لكنها
لا تدور في المستقبل، بل في الماضي، في العصر الفيكتوري في القرن التاسع
عشر، حينما كانت القيم الفيكتورية تفرض على المرأة الكثير من القيود، وتحد
من حريتها، وخصوصا الحرية الجنسية التي لم يتم تحقيقها سوى في ستينيات
القرن العشرين، مع اندلاع ثورة الشباب في العالم، وتمرد المرأة، وظهور
الملابس القصيرة، وحبوب منع الحمل!
أهم ملمح من ملامح الفيلم، وهو ما يزيد من غرائبيته، هو
التصوير الذي يجعلنا نشاهد العالم من خلال عدسة عين السمكة، التي تجعل
المنظور خصوصا في الثلث الأول، مقعرا، والصورة مشوهة ولكن من دون أن تسبب
أدنى إزعاج للمشاهد، بل تعمق من شعورنا بالاغتراب عنها، فنحن نشاهد صورا من
العالم يمكن أن تكون مستقبلية لكنها في الوقت نفسه، ماضوية أيضا، وفي جميع
الأحوال، لا صلة للفيلم بالواقعية، أو بالعالم الواقعي، قد تكون أفكاره
قريبة منا ومن الفكر الواقعي، لكن صوره وطريقة تجسيدها تخلق منها “حالة”
سيريالية، بعيدة كل البعد عن الواقعية.
الحركة موجودة في الفيلم باستمرار، داخل المشهد وخارجه،
وبين اللقطات والمشاهد من خلال تدفق المونتاج. وتصميم المناظر يزيد من
الشعور بالاغتراب والعبث، والأداء التمثيلي الذي يتصف بقدر من المبالغة
المقصودة والاستعراض، يجعلنا نشعر في كثير من الأحيان، أننا نشاهد عملا
فنيا شديد الجاذبية، يشيع فيه الرعب ويمتزج بالكوميديا والسحر والجنون. إنه
على نحو ما قريب من فرانكشتاين، لكنه قريب أيضا من أسطورة “الجميلة
والوحش”، ومن جموح وتطرف “حسناء النهار” لبونويل، كما يذكرنا بعالم غيليام،
وسينما خودوروفسكي.
إن بديل الدكتور فرانكنشتاين هنا هو الجراح العبقري المتطرف
“جودوين باكستر” (وليم دافو)، صاحب الوجه المشوه من آثار ما أجراه عليه
والده (الذي كان جراحاً أيضا ورث هو عنه عيادته الغريبة الملتصقة بمنزله
الشاسع الغريب الطراز). وهو سيخبرنا في البداية أنه أجرى عملية نقل مخ قرد
إلى هذه الفتاة التي يحتجزها في منزله لا يسمح لها قط بالخروج، وقد سماها
“بيلا” (أي الجميلة)- إيما ستون- بينما تطلق هي عليه
“God”
أي “الإله”. فهي تعتبره كائنا خارق القوة والقدرات، لكنها لا تخضع له
تماما، فهي تتصرف تصرفات طفولية نزقة، تكسر الأطباق، وتحطم الزجاج وتخرق
عيني جثة ترقد داخل عيادته من تلك التي يجري عليها تجاربه المجنونة وهي
تصرخ في غضب واحتجاج شبيه بغضب الأطفال.
لكنه سيخبرنا فيما بعد، أو بالأحرى، سيخبر الطبيب الشاب
“ماكس” (رامي يوسف) الذي أتى به ليقيم معه في المنزل لكي يدرس ويسجل
سلوكيات ذلك الكائن الذي هو أبعد ما يكون عن البؤس في واقع الأمر، سيخبره
بأنه عثر عليها ملقاة أسفل جسر بعد أن حاولت الانتحار، وكانت حاملا (وهي
ستستدعي تلك اللحظة فيما بعد أيضا)، وأنقذها من الموت وأجرى لها عملية نقل
مخ لجنين صغير لها بدلا من مخها الذي دُمر.
هذا المخ الذي لم يقطع بعد مرحلة النمو، هو المسؤول عن
تصرفاتها الطفولية التي تخالف كل الأعراف (هي مثلا تريد أن تذهب في المطعم
لكي تصفع طفلا تسمعه يبكي، أو تستخدم اللغة الخشنة الفظة التي تتناقض مع
الأدب). لكن هذا الكائن سيخوض رحلة هائلة مع رجل يدعى “دونكان ويدربرن”
(مارك روفالو)، وهو محام يأتي لتزويجها من “ماكس”، لكنه يقع في غرامها
ويغويها فتهرب معه في نفس الليلة لاكتشاف العالم، ويذهب الاثنان أولا إلى
برشلونة ومنها إلى باريس قبل العودة إلى لندن.
هذه الرحلة نرى فيها المدن الأوروبية كما لم نرها من قبل،
بل تبدو كما لو كانت تنتمي لعالم خرافي، بفضل الديكورات البديعة التي صممها
جيمس برايس وشونا هيث، وهي عنصر أساسي في هذا الفيلم ومن دونها لا يصبح له
نفس القيمة، ولا يحقق نفس المتعة. والرحلة بل والفيلم كله منذ لحظة خروج
بيلا إلى العالم، هي رحلة رصد “تطور” عقل بيلا وجسدها ومشاعرها.. رحلة تطور
بالمعنى الدراويني.
يظل محور اهتمامنا هو شخصية “بيلا باكستر” التي تتوق كأي
طفلة حرمت من الخروج إلى العالم لتذوق طعم كل الأشياء، لمعرفة معنى
الأشياء، ولتجربة الكثير من أجل أن تعثر على نفسها، على هويتها كامرأة،
وخصوصا التجربة الجنسية، ليس من أجل المتعة غالبا، بل حينا من أجل تجربة
الشعور بالمتعة، وحينا آخر من أجل الاستقلال، أو عندما تستقل عن رفيقها في
باريس وترفض الانصياع له والخضوع لقوالبه، وتلتحق بالعمل في بيت للدعارة،
من أجل المال، وفي جميع الأحوال، كأساس للتحرر من قيود المجتمع المفروضة
على المرأة. وشخصية “مدام بيرين” تؤديها الممثلة البريطانية فيكي ببيردين
بأسلوب شديد الجاذبية. ناعمة ورقيقة ومتعاطفة سواء مع الزبائن أو مع
الفتيات عاملات الجنس!
ومن خلال شخصية بيلا باكستر، تُطرح في الفيلم تساؤلات
فلسفية حول مغزى الحياة ومعنى الخلق، ولماذا نحيا ثم لماذا يأتينا الموت،
وكيف يعمل الجسم البشري، وكيف ينمو المخ والعقل والفكر، وما معنى الجنس
ولماذا هو ضروري. وفي الفيلم مشاهد كثيرة صريحة وشديدة الجرأة تجعل من
المستحيل أن يعرض سوى للكبار فقط، أما في بلدان أخرى، فيستحيل عرضه من دون
استبعاد مشاهد كاملة منه. ورغم ذلك فالمشاهد الجنسية لا إثارة فيها، فهدفها
هو رصد واكتشاف الغريزة والتوقف أمام رد فعل بيلا، وفيها من الدهشة بقدر ما
فيها من النفور خصوصا في مشاهد “البورديل” (بيت الدعارة الباريسي الباروكي
الغريب الذي تديره امرأة تدرك تماما فكرة الاستغلال الرأسمالي للمرأة،
لكنها لا تجد وسيلة أخرى لمساعدة الفتيات. إنها أم بديلة رحيمة متعاطفة
تمنح الحرية ليبلا في أن تترك العمل عندما تشاء.
تدريجيا لن تعود بيلا باكستر طفلة في جسد امرأة، بل سينضج
وعيها بنفسها وبالعالم من حولها، وتصبح تعبيرا عن رفض القيم الاجتماعية
العتيقة، كما ستصبح وعاء لاستقبال أفكار القرن التاسع عشر التقدمية (الفكر
الماركسي مثلا)، متبنية فكرة امتلاك أدوات الإنتاج، دون أن تتناقض هذه
النظرة التحررية مع امتهان الدعارة لبعض الوقت، لكنها ستهجرها وتعود إلى
الدكتور باكستر الذي سيجدها مختلفة تماما عما كانت. لقد تمردت الجميلة على
الوحش، وتمرد كائن فرانكنشتاين على خالقه، بل وتفوق عليه، في الفكر وفي فهم
العالم.
إيما ستون هي الفيلم والفيلم هو إيما ستون، فهي تتحرك وتعبر
بثقة هائلة، وتنوع في الأداء، وتبدو كما لو كانت قد أدت الدور في سياق
متصل، في يوم واحد من دون أي توقف أو قطع، فهي تحافظ على إيقاع حركتها بشكل
مدهش. هي حينا طفلة مشاكسة عنيدة، وحينا آخر امرأة تعرف كيف تغوي وتتدلل،
ثم تحصل على ما تريد، كما أنها تصبح أيضا امرأة مفكرة لا تكتفي بسطحية
الأشياء بل تريد النفاذ إلى العمق.
أدى جميع الممثلين أدوارهم كأنهم يشتركون في سيمفونية
بديعة، يتبادلون العزف، كل يعرف مكانه ودوره جيدا وسط الأوركسترا، ولاشك أن
الفضل يعود أساسا إلى وضوح الشخصيات في السيناريو العبقري الذي كتبه
الاسترالي “توني مكنمارا”
(كاتب
سيناريو فيلم المفضلة
The Favourite)،
مقتبسا روح واجواء عالم الرواية، ومنح الشخصيات ملامح إضافية مستقلة تجعل
لكل منها حضورها في الحبكة من دون زيادة أو نقصان. وقد صاغ الفيلم في سياق
سردي غير تقليدي، بل في سياق ملتو، غير خطي، يعود ويرتد في الزمن، كما يحفل
أيضا بالتداعيات البصرية، والهواجس الصوتية والتعليق الصوتي من خارج
الصورة، مع سيطرة مدهشة على الإيقاع ومن دون أي إرباك أو غموض.
وطبيعي أن الفضل في تناغم تلك الحبكة بتفاصيلها المدهشة،
وأجوائها المذهلة، يعود إلى المخرج يورجوس لانثموس، صاحب الفكر السينمائي
المتحرر كثيرا من قوالب الصنعة التقليدية، وهو ما يجعل أفلامه لا تشبه
غيرها حتى لو كانت قادمة من عالم الأدب (مثلما كان “المفضلة” مثلا).. إنه
يصنع رؤية بصرية من زوايا غريبة، وكادرات تجعلنا كما لو كنا نتلصص على ما
يجري من ثقب الباب، خصوصا في الجزء الأول من الفيلم المصور بالأبيض
والأسود، أي في “طفولة” بيلا باكستر- إن جاز التعبير، أي مرحلة الطفولة
والاستهتار والعبث، إلى الألوان في مرحلة الاكتشاف والنضج مع مجموعة من
الألوان الشبيهة بألوان الباستيل.
“كائنات
بائسة” لا يقدم كائنات تتصف بالبؤس أبدا، بل على العكس، هي كائنات شديدة
الجموح، بما فيها ذلك المحامي العابث المستهتر الذي يقوم بدوره مارك روفالو
في واحد من أفضل أدواره، يساير ويوافق لكنه يغضب ويحتج ويريد أن يعيد
“بيلا” إلى القالب الذي يريده، فهو يحررها فقط بشروطه، وفي نطاق محدد، لكنه
لا يقدر عليها، فقد انطلق العفريت من القمقم.
هذا هو “فيلم العام” جنبا إلى جنب مع فيلم سكورسيزي الكبير
“قتلة قمر الزهور” (الذي سيعرض في أكتوبر)، وسوف يكون له شأن كبير في
ترشيحات الأوسكار القادمة التي جرى العرف قبل سنوات، على أن يأتي الفيلم
الأكثر حظا في نيل جوائزها، من مهرجان فينيسيا الكبير. |