مثلما أعاد فيلم
"بنات
ألفة"،
للمخرجة كوثر بن هنية، تونس، إلى المنصّة الكبرى في مهرجان كانّ السينمائي،
بعد 53 عاماً من الغياب، بمنافسته على جائزة السعفة الذهب في دورته الـ76
منتصف العام الماضي، دشّن الفيلم الوثائقي حضور البلد الصغير للمرة الأولى
في حفلة جوائز الأوسكار بترشّحه للمنافسة على جائزة أفضل فيلم وثائقي للعام
2024.
يتناول الفيلم القصة الحقيقية للأم التونسية، ألفة
الحمروني، التي اختفت ابنتان من بناتها الأربع في العام 2016، لتفاجأ
بانضمامهما إلى تنظيم داعش بليبيا. تروي كوثر بن هنية قصة ألفة وبناتها من
خلال مزج الوثائقي بالروائي، لالتقاط قصة قوية عن التضامن النسائي والصدمات
العائلية، وهو أسلوب جرّبته سابقاً في فيلميها الوثائقيين "شلاط تونس"
و"زينب تكره الثلج".
في الفيلم، تشارك ألفة وابنتاها الأصغر، آية وتيسير
الشيخاوي، بشخصياتهن الحقيقية، فيما تؤدّي دور الأم في مشاهد درامية،
الفنانة هند صبري، وتضطلع الممثلتان التونسيتان إشراق مطر ونور قروي بأداء
دوري الفتاتين رحمة وغفران الشيخاوي. تقول المخرجة التونسية إنها سمعت
أُلفة الحمروني، تروي حكاية ابنتيها (البالغتان من العمر 16 و15 عاماً)،
وكيف هربتا للانضمام إلى داعش، وتابعت توسلاتها في الإذاعة لإنقاذ ابنتيها
واستعادتهما من ليبيا حيث سُجنتا بعدما شاركتا مع زوجيهما في هجوم بن قردان
الإرهابي العام 2016. النهج الإبداعي الذي تتبعه بن هنية يلقي نظرة متعاطفة
على عائلة نبذها الجميع تقريباً، ويفتح مساراً للنبش في ماضٍ مؤلم واجتراح
مستقبل ممكن.
مع وصول الفيلم إلى اللائحة النهائية لترشيحات جائزة أوسكار
لأفضل فيلم وثائقي، التقت "المدن" كوثر
بن هنية، للحديث عن فيلمها وأسلوبها وفرصها في التتويج بأول أوسكار لتونس
في تاريخها.
·
ما الذي جذبك لإنجاز هذا الفيلم؟
-
بدأ الأمر في 2016. سمعتُ مقابلة مع ألفة في الراديو، بعدما قرّرت نشر قصة
ابنتيها للعامة. أعتقد أن السبب الأول كان فهم أصول المأساة، ولماذا ذهبت
الأمور إلى هذا النحو.
كانت عملية طويلة من الشكّ والتساؤل. في البداية، اخترت
فيلماً وثائقياً كلاسيكياً، لكني شعرتُ أن الشكل لا يتناسب مع تعقيد القصة.
صوّرتُ بعض المشاهد، ثم استسلمت لعمل فيلم
"على
كف عفريت"،
قبل أن أعود إلى الشخصيات، لكن الأمر لم ينجح. صورت
"الرجل
الذي باع ظهره"،
وبعد هذا الفيلم سألتُ نفسي ما إذا كان ينبغي عليّ التخلي عن هذا المشروع
أو الاستمرار في البحث للعثور على الشكل الصحيح. كنت بحاجة للوصول إلى ماضي
هذه العائلة. كانت لدي أرشيفات، لكن الأهم هو ذكرياتها. كيف تصوّر ذكرى في
شكل وثائقي؟ كان هذا هو السؤال الكبير.
·
العملية التي تستخدمينها لبناء فيلمك، فريدة. تستعينين
بممثلات لملء الفراغ الذي خلّفه اختفاء ابنتي ألفة الكُبريين. والنتيجة عمل
لافت حول التعافي والشجاعة.
-
لم أفكر في ذلك في البداية. استغرق الأمر منّي وقتاً طويلاً للعثور على
الشكل المناسب لرواية هذه القصة. عندما اتصلت بهن، كنت ذاهبة لعمل فيلم
وثائقي أكثر تقليدية. لكنه لم ينجح. تُهت في منتصف الطريق. جرَّبتُ الكثير
من الأشياء... أردت أن أنقل مدى تعقيد القصة. أدركت أنه لكي أفهم أصل
المأساة، كان علي أن أعود إلى ماضي العائلة.
·
سوى أن الماضي لا يمكن سبره بالنسبة لمخرج الأفلام
الوثائقية الذي يصوّر هنا وهناك والآن...
-
هناك كليشيه شائع في صناعة الأفلام الوثائقية: المُعاد تمثيله. لكني أحببت
تبنّى هذا الكليشيه. قال هيتشكوك ذات مرة: "من الأفضل أن تبدأ بكليشيهات
بدلاً من أن تنتهي إلى واحدٍ منها". أخذتُ تلك العبارة المبتذلة وحاولت
تحريفها، لجعلها بريختية (نسبة إلى برتولد بريخت) بعض الشيء. في ضوء هذه
الخلفية، بدأت التصوير في 2021، بفكرة إشراك ممثلين وممثلات إلى جانب
الشخصيات الحقيقية، وإدخالهم في تجربة تفاعلية، يطرحون فيها أسئلة، ويدخلون
محادثة مفتوحة حول هذه الذكريات، يستدعون الماضي، لكن أيضاً يسائلونه
ويحاولون فهم الدوافع والأسباب والحيثيات. حاولت خلق هذا الفضاء المسرحي
البريختي الذي يسمح لنا بالغوص في الذاكرة، في المسرح، مثلما يسمح بكسر
الجدار الرابع والتأمّل في ما يُعاد تمثيله على الخشبة. واعتقد أن هذه
المقاربة كانت ناجحة. لأن الشكل الذي وجدته، بعد بضع سنوات من البحث، سمح
لي في التقاط الجانب المتغيّر من هذه القصة.
·
ما أهمية أن يكون العرض الدرامي مُرتَّباً؟ نظراً لأن الحدث
يحدث في مكان واحد تقريباً، لذا فالاستبطان مفهوم أساسي للعمل، مثلما يتمّ
التركيز على الكلمات والعواطف والشخصيات.
- أولاً، لتبسيط عملية التصوير، كنت بحاجة إلى طاقم صغير
جداً لمنح الجميع الثقة، والحصول على مساحة آمنة. وكنت أعلم أن الفيلم
سيكون استبطانياً. لم أكن مهتمة على الإطلاق بأصالة المواقع لإعادة إنتاج
تلك الموجودة في حياتهن. يمكن القول إن المواقع التي صوّرنا فيها كانت
استرشادية. قررنا التصوير في فندق قديم في تونس... إذا كان لارس فون ترير
قد صنع فيلماً كاملاً بدون طاقم عمل، ونجح (فيلم دوغفيل)، فيمكنني أنا
أيضاً إنجاز فيلم بموقع تصوير إسترشادي.
أتاح لي هذا النهج الاقتراب قدر الإمكان من ألفة، وهي أمّ
مفرطة في الحماية. ورغم أنها تتحدر من خلفية تقليدية، إلا أنها أرادت أن
تكون قدوة مختلفة لنسلها. باستثناء، بالطبع، أنه عندما يكبر الأطفال،
يرفضون نموذج الوالدَين، مما يؤدّي إلى مشاكل...
في الفيلم تتحدّث ألفة عن لعنة. تقول: "ما عانيت منه هو ما
عانت منه بناتي". في الواقع، إنها لعنة انتقال الصدمات وردود الأفعال
السيئة والعنف بين الأجيال. ما تسمّيه لعنة، أعتقد أنها تشير به، من دون
وعي منها، إلى النظام الأبوي المتكامل. تقول لها الممثلة: "صحيح، هذا ما
نفعله جميعاً بين الأمّ وابنتها، حتى يأتي جيل يكسر هذه اللعنة، سلسلة
انتقال العدوى هذه. أعتقد أن بناتك هكذا. وهذا ما حاولن فعله. الأكبر سناً
والأصغر سناً، بطرق مختلفة جداً".
·
عندما تتحدثين عن ألفة وبناتها، فأنت تتحدثين أيضاً عن
تونس، وتداعيات الربيع العربي، وصعوبات النشأة كامرأة ومراهقة. هل كان من
المهم خلق لعبة المرايا هذه بين الجزئي والكلي، الحميم والسياسي، المرأة
والسلطة الأبوية؟
- نعم. وما جذبني أيضاً إلى هذه القصة هو مدى تأثير السياسة
في حياة الناس العاديين. غالباً ما يعتقد الناس أن السياسة شيء منفصل.
لكنها ليست كذلك. فهي تؤثر في الحياة اليومية. كانت لعبة المرايا هذه مهمة
جداً بالنسبة إلي. أردت أن أصنع فيلماً حميماً للغاية، لكنه فيلم تتعارض
فيه حميمية القصة الصغيرة مع القصة الكبيرة. حين عُرض الفيلم في تونس،
أواخر العام الماضي، لاقي نجاحاً كبيراً، لأن الجمهور وجد شيئاً من نفسه
فيه.
·
في أثناء تكشُّف أحداث الفيلم، يبدو أن بطلاتك شكّلن في ما
بينهن رابطة أختية، داعمة ومتحدّية كذلك؟ هل أصبح الأمر كما توقّعت؟
- ما أحبّه في الفيلم الوثائقي هو أني الجمهور الأول
لفيلمي. لذلك أنا مندهشة طوال الوقت. في بعض الأحيان تعتقد أنك ستحصل على
مشهد بعينه، لكن الأمور لا تحدث كما تعتقد. لذلك أجد تحدياً دائماً
لتوقعاتي في ثراء الواقع وأصالة الناس وردود أفعالهم الحقيقية.
·
بعد عرضه في مهرجان "كانّ" منتصف العام الماضي، سافر الفيلم
كثيراً بين المهرجانات، ووصل إلى اللائحة المختصرة لجوائز أوسكار في فئة
أفضل فيلم وثائقي. ما رأيك في فرصك للتتويج؟ ولماذا تعتقدين أن فيلمك يخاطب
جمهوراً واسعاً؟
- لا أعرف شيئاً عن فرصي، لكني بالطبع أتمنى أن يفوز
الفيلم. سنكتشف ذلك يوم 11 آذار/مارس المقبل. ونعم، الفيلم يتحدث حقاً إلى
الناس، مهما كانت ثقافتهم أو خلفيتهم. ربما تظن أنها قصة عن المرأة
العربية، وبالتالي فجمهورها محدود للغاية. لكنها ليست كذلك. وبعيداً من
السياق التاريخي والسياسي والثقافي للفيلم، فإنه يتحدث عن شيء عالمي حقاً.
عندما نتحدث عن العلاقات بين الأمّ والابنة، فهذه أمور عالمية بامتياز.
عندما نتحدّث عن المراهقة، فهي مرحلة إلزامية على الجميع. الجميع يتعرّفون
على أنفسهم في هذا الفيلم. في أي عرض حضرته حول العالم، حين تضيء الأضواء،
كان هناك دائماً شخص يبكي في الصالة. إنه شيء يمسّني حقاً. لأن النوايا أو
الأشياء التي أثّرت في هذه القصة، تمكّنتُ بطريقة أو بأخرى من نقلها إلى
الكثير من الناس.
·
ما الأفلام أو مَن هم صانعو الأفلام الذين كان لهم دور مهم
في شغفك بالسينما؟
- لم أكن لأتمكن من إخراج هذا الفيلم لولا فيلم "لقطة
مقرّبة" لعباس كياروستامي، وهو أحد المخرجين المفضّلين لدي. بالنسبة إلي،
كانت الأفلام في الأساس بمثابة اكتشافات. مثل فيلم "راشومون" للمخرج أكيرا
كوروساوا، وهو فيلم عن الحقيقة ونسبيتها، لم يَشِخ يوماً واحداً. هناك
أيضاً فيلم
My
Winnipeg
للمخرج غاي مادين، والذي كان له تأثير كبير فيّ. أعدتُ مشاهدته في مرحلة
التحضير لـ"بنات ألفة". حاولتُ إعادة النظر في جميع الأفلام التي تجاوزت
حدود النوع، وهذا فيلم أصلي للغاية، جميل وقوي وصعب في الوقت نفسه. |