أحمد شوقي يحكي:
حكايات عن الحثالة البشرية في مهرجان كان السينمائي
مرت عدة سنوات منذ أن قرأت مصطلح
“White Trash”
لأول مرة. الترجمة اللفظية هي “نفايات بيضاء” بينما الترجمة الأقرب للمعنى
هي “حثالة بيضاء”. المصطلح قديم لكنه عاد للحياة بقوة خلال العقد الثاني من
القرن الحالي، ليصف تيارا من الأفلام والمسلسلات والشخصيات الروائية التي
تجسد حياة الفقراء البيض في المجتمعات الغربية، التي عاشت طويلًا تحت هيمنة
تصورات نمطية عن سيادة الجريمة والانحلال الأخلاقي والمستوى المعيشي البائس
بين الأقليات العرقية، قبل أن تظهر للعالم حقيقة وجود مجتمعات من ذوي
البشرة البيضاء تعيش تحت وطأة ظروف أكثر تعاسة.
الحثالة البيضاء
الكوميديان الشهر دافيد تشابيل تحدث في عرض حيّ على شبكة
نتفليكس عن حياة الحثالة البيضاء في ولاية أوهايو التي يعيش فيها، وعن تفشي
إدمان الهيروين بينهم، بما يذكّره بتفشي إدمان الكوكايين بين الأمريكيين
ذوي الأصول الأفريقية، ساخرًا من اختلاف التعامل الإعلامي مع الأمر
باعتباره أزمة وطنية بينما كانت أزمة السود مشكلة مجتمعية خاصة يحلها
الإعلام بشعارات تافهة مثل “فقط قل لا للمخدرات.. ما الصعوبة في ذلك؟”.
مقطع تشابيل جزء من سردية كبرى بدأت في التشكل خلال السنوات
الأخيرة، حتى كادت أن تُمثل اتجاهًا فنيًا يمكن رصد نماذجه، جوهره هو تشريح
المجتمعات التي نادرًا ما تعرضت لتحليل مماثل. الأمر الذي يمكن رصده بسهولة
خلال الأيام الأولى من مهرجان كان السينمائي السابع والسبعين، والذي لم
يكمل يومه الثالث إلا وقد شاهدنا فيه ثلاثة أفلام تتناول كلها صورًا لما
يمكن أن نطلق عليه “الحثالة الإنسانية”، فلا يقتصر الأمر على المجتمعات
البيضاء في أوروبا المعاصرة، بل يمتد ليشمل أطيافا مختلفة وإن دارت كلها
-كما سنرى- داخل نفس المساحة.
“بيرد”..
عودة للحثالة
البريطانية أندريا أرنولد عُرفت بأفلامها التي تغوص داخل
العالم السفلي للمجتمع البريطاني، والتي تركتها جزئيًا قبل أعوام لترحل إلى
الولايات المتحدة لتقدم “عسل أمريكي
American Honey”
الذي يمكن اعتباره عملًا تأسيسيًا لدراما الحثالة البيضاء، لينال إعجاب
الجميع ويحصد جائزة الجمهور في مهرجان كان 2016. أرنولد تعود إلى وطنها
لتقدم حكاية جديدة تدور في نفس العالم مع توسع قليل في الأعراق.
بطلة الحكاية بايلي، فتاة سمراء في الثانية عشر من عمرها،
جاءت نتيجة زواج مختلط فاشل بين أب أبيض لا يزال حتى اللحظة يعيش مثل
المراهقين (النجم باري كوجان)، وأم سمراء مدمنة تعيش حاليًا مع حبيب عنيف.
تفكك الأسرة والغياب شبه التام لأي نموذج أب وأم يجعل بايلي تنضج مبكرًا،
وتحاول التعايش مع معطيات عالمها العنيف والمليء بالرفض والإحباط، يساعدها
في ذلك تعرفها على شاب غامض يبحث عن والده الذي انفصل عنه طفلًا. الشاب
يحمل اسم “بيرد” الذي يعني “طائر”، وهو اسم له سبب درامي سيتضح عندما يصل
الفيلم لنقطة تقرر أرنولد عندها أن واقع بايلي التعيس يستحق بعض الأمل
الخارق للطبيعة.
لكن حتى يصل الفيلم لهذه النقطة، كان على بطلته أن تخوض
-ونخوض معها- رحلة مفعمة بالعنف والمواجهات التي يفترض أن تفوق قدرات فتاة
في مثل عمر البطلة، لكنها تتمكن بصورة ما من التعامل معها، انطلاقًا من
حقيقة كونها هي الطرف الأكثر حكمة بالمقارنة بمن يفترض أن يكونوا أولياء
أمرها.
“ماس
بري”.. قواعد العالم الجديد
من بين 22 فيلمًا تتنافس في المسابقة الدولية اختار
المهرجان فيلما وحيدا عملا أول لمخرجته، هو “ماس بري
Wild Diamond”
للفرنسية أجات ريدنجر التي تقدم نفسها بقوة كمخرجة معاصرة قادرة على
التعبير عن أزمات الجيل الذي تنتمي له، عبر حكاية فتاة تعيش في مدينة في
جنوب فرنسا (فريجو المجاورة جغرافيًا لمدينة كان)، كان من الممكن في زمن
آخر أن تعيش حياة طبيعية تحب وتعمل وتتزوج فيها، إلا أنها جاءت للعالم في
عصر بمعايير مختلفة أقنعها أن هناك سيناريو أفضل لنفس الحياة.
فتاة في الثامنة عشر من عمرها، لكنها قامت بالفعل بجراحة
تجميلية لتكبير صدرها. مظهرها وملابسها وطريقة تصفيف شعرها واستخدامها
لمستحضرات التجميل ترسخ كونها رمزًا جنسيًا يتابعه الآلاف على مواقع
التواصل الاجتماعي، لكنها في الحقيقة عذراء لم تجرب بعد أي علاقة جنسية.
تُقدم لجمهورها مقاطع فيديو تستعرض الجمال والجاذبية ونمط الحياة الصاخب،
بينما نراها منذ اللحظة الأولى تسرق من المتاجر لأنها الطريقة الوحيدة التي
يمكنها من خلالها الحفاظ على صورتها المدّعاة.
ستقفز للأذهان فورًا نماذج عديدة يعرفها كل منّا لمشاهير
مماثلين على الإنترنت، ونماذج أخرى لأعمال فنية تناولت الظاهرة وحللتها كان
أحدثها مسلسل رمضاني مصري. لكن ما يجعل “ماس بري” عملًا يستحق العرض في
مسابقة كان هو هذا الشعور المرعب بالحتمية. فعلى النقيض من أغلب الأعمال
المذكورة التي تُقدم شهرة الإنترنت باعتبارها أمرًا دخيلًا جاء ليهدم الأسر
ويحطم الأخلاقيات الأصيلة، يعرض الفيلم الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها؛
كونها قواعد العصر الجديد التي يستحيل تجاوزها أو التظاهر بأنها غير موجودة.
صحيح أن البطلة ليان (مالو خبيزي) تنتمي هي الأخرى لعالم
الحثالة البشرية، تعيش مع أم عاطلة وشقيقة صغرى تضع الماكياج كالكبار، لكن
الأمر لم يكن ليختلف كثيرًا إذا ما انتمت لطبقة أخرى، فقط ستمتلك آنذاك
أدوات أفضل لتلبية طلبات تلك الندّاهة المسماة الشهرة الإلكترونية. ليان لم
تكوّن أساسًا تصورًا آخر عن الحياة لا يتضمن تحقيقها شهرة تحوّلها نجمة
ثرية لا تقدم للعالم أي شيء سوى مظهرها، العالم الجديد أقنعها أن عليها
إيجاد سبيل لهذه الشهرة وإلا كتب عليها التعاسة والفشل للأبد.
“الفتاة
صاحبة الإبرة”.. الأمر ليس جديدًا
ثلاثية الحثالة البشرية في أيام “كان” الأولى اكتملت بأفضل
الأعمال الثلاثة وهو فيلم “الفتاة صاحبة الإبرة
The Girl with the Needle”
للمخرج الدنماركي الموهوب ماجنوس فون هورن، والذي يعود لفترة مظلمة من
تاريخ بلاده وهي زمن الحرب العالمية الأولى والأشهر التالية لها. فإذا كانت
تصوراتنا عن الدنمارك المعاصرة هي كونها مجتمع رفاهة يعيش أبناءه حياة
مثالية، فإن الوضع لم يكن كذلك على الإطلاق قبل قرن من الزمان.
ينطلق المخرج من قصة حقيقية مرعبة عن امرأة عاشت في تلك
الفترة قامت بقتل عدد غير محدد من الأطفال الرضع، خنقًا وحرقًا وإغراقًا،
بحجة كونهم أبناء سفاح تقوم بتخليصهم بالموت من مصير مظلم ينتظرهم في
الحياة. لكن المخرج يؤجل تفاصيل الجريمة للثلث الأخير من فيلمه، ليركز خلال
ما يزيد عن الساعة على تشريح المجتمع الذي أدى لظهور القاتلة داجمار.
الفيلم يتابع رحلة امرأة فقيرة، عاملة تركها زوجها وذهب إلى
الحرب فانقطعت أخباره قبل أن يعود مشوّهًا، يتم استغلالها جنسيًا لتحمل
بشكل غير شرعي، لتجد نفسها مثل مئات النساء غيرها، بلا حقوق أو أمل في حياة
أفضل. تعيش في جحر قذر وتعمل في ظروف غير إنسانية بدون أي ضمانة أو تصور
للمستقبل، فتكون على استعداد لتصديق أي كذبة تقال لها كي تتخلى عن ابنتها
الرضيعة على أملٍ واهٍ بأن تنال حياة أفضل.
“هل
تتصور إحداكن أن طبيبًا سيتبنى طفلكم اللقيط فعلًا؟ لقد قمت فقط بعمل ما
تريدونه وتخافون من فعله”، تقولها القاتلة خلال المحاكمة لتواجه بها النساء
الغاضبات مما حدث للأطفال الذين تخلوا عنهم. المخرج يقوم -بثقة وبلا تحفظ-
بوضع المجتمعات أمام حقيقة مرعبة: إن قتل الأطفال قد يكون في سياق ما قرار
لا يمكن وصفه بعدم المنطقية!
تيمات أخرى
ما زلنا في بداية رحلة مهرجان “كان” الذي نتوقع أن يأتي
بالمزيد من الحكايات الشقية والأفلام الكبيرة، لكن تقارب جوهر الحثالة
الإنسانية في أول ثلاثة أفلام عُرضت من المسابقة، رغم الاختلاف الظاهري
بينها، أمر دعانا للتفكير فيما يشغل صناع السينما المعاصرين، وفي رؤيتهم
للعالم الذي نعيشه وأسباب التعاسة فيه. وسننتظر أن تظهر تيمات أخرى، أو
أفلام يُمكن إضافتها إلى هذه القائمة التي تُعري نفوس البشر عندما يعيشون
في ظروف عسيرة. |