ليس من الممكن رؤية فيلم إسرائيلي من دون التسلح بكل تاريخ
الصراع العربي الإسرائيلي، ووضعه كخلفية متينة أمام كل إغراء يحاول جرنا
بعيداً عن هذه الزاوية. لا يمكن دخول قاعة العرض دون التمترس وراء جدار
عازل من الأفكار المسبقة والحذر، وخلف درع من الصمود للتصدي لأي محاولة
لتطبيع ما، أو لمجرد «تقبل» هذا الآخر. أخيراً، وربما أولاً، لا يمكن
القيام بمبادرة كتلك من دون تردد وتأنيب ضمير وتساؤلات... أمام كل هذه
العقد والتعقيدات، قد يكون من الأفضل الاستغناء عن تعذيب النفس وعن كل هذه
الحسابات وتجاهل تلك السينما. وهذا ما حصل إلى الآن. لكن القدر كان
بالمرصاد! خطأ في قراءة ساعة عرض فيلم آخر (عربي الهوية ويا للمفارقة)،
وضعني وجها لوجه أمام «زيارة الجوقة» الفيلم الأول للمخرج الإسرائيلي عران
كوليران. ملخص الفيلم يقول «الفرقة الموسيقية التابعة للشرطة المصرية تصل
لإحياء حفلة في إسرائيل. ولكن في المطار، لا أحد في الانتظار...». يتملكني
فضول شديد. مصريون في الفيلم! كيف سيقدم إسرائيلي هؤلاء، كيف سينظر
إليهم... لا بد... ولا بد..، وبدأت ثورة الغضب قبل دخول الساحة، أقصد
القاعة، وعنَّ على بالي «بخلاء» الجاحظ وأنا أخرج اليورو بعد الآخر في ضيق
شديد وحرص أشد.
في بذلاتهم الرسمية الزرقاء، بدا أعضاء الجوقة المصرية في حيرة
وارتباك وهم متروكون في مطار غريب في مدينة صحراوية. إنهم مدعوون من مركز
عربي لإحياء حفل موسيقي في قرية عربية في فلسطين المحتلة، لكن لا أحد في
انتظارهم! مناخ غريب، وفضاء فارغ إلا منهم، وكأنهم هابطون فوق كوكب آخر، في
مكان غير مكانهم. يخرجون من ردهة المطار بعد فشلهم في الاتصال بأحد.
يلازمهم حذر وترقب، يتبادلون بالعربية كلمات قليلة في محاولة لإيجاد حل ما.
خلال سيرهم، يقعون على مقهى في هذه البلدة الخاوية. لقاء أول بينهم وبين
صاحبة المقهى الإسرائيلية (رونيت الكابتز) ومساعدها. استقبال عادي غير
مكترث حقاً، ثم عرض المساعدة. تقترح عليهم المرأة بيتها وبيت مساعدها بكلمة
ومن دون إلحاح. يقبلون على مضض، فلا فندق في تلك البلدة.
في هذه العلاقة المحرجة، تتوقع عند كل مشهد حدثاً ما وما يلبث
توقعك أن يخيب. تتوقع المبالغة في إظهار طيبة الإسرائيليين، حسن ضيافتهم،
دروسهم في حسن التصرف، ضعف العرب أمام طيبتهم واندماجهم وتخليهم عن
حذرهم... لكن المثير في العمل هو التخلي عن كل ما هو متوقع، عن كل ما سبق
وقيل. إنه فيلم عن الإنسان، كوميدي في بعض جوانبه، لكنه ليس كأفلام «الحلوى
بالقشطة»، التي ما إن ترى فيها ممثلاً يحمل قالب الحلوى، حتى تتوقع له
فوراً أن يحط على وجه ما في اللحظة المقبلة. هنا يأخذك الفيلم نحو كل ما هو
مخالف لتوقعاتك. فالمصري الحيوي الصاخب تراه هنا شديد الهدوء، متزناً،
صامتاً، قليل الكلام في تعبيره عن الوضع الصعب الذي وضع فيه (الوصول إلى
المطار)، المصري أيضا هو المتحرر (قام بالدور صالح بكري)، وهو الذي يعلم
الإسرائيلي المحرج والمرتبك كيفية التعامل مع صديقته وسبل التواصل معها بلا
كلام، بحركات بسيطة، وإشارات بليغة. أما مصر فكم تبدو صورتها مضيئة ومليئة
بالحياة في مخيلة صاحبة المقهى مقارنة بتلك المدينة الإسرائيلية القاحلة،
ولكم تركت موسيقاها أثرا في نفسها منذ طفولتها، ودغدغت أحلامها أغنيات أم
كلثوم التي كانت تبثها الإذاعة.
شخصيات تجمعها مرارة الحياة، أفراحها وأتراحها، يمكن لها أن
تكون أياً كان. إنما هل يمكن هنا فصلها عن تاريخها وهويتها؟ عرب
وإسرائيليون ولقاء، أمن المحتمل لما يحدث بينهم أن يتجاوز السياسة؟ لقد
أراد المخرج تجاوزها فعلاً، فلم يتم التلميح ولو مرة في الفيلم إلى الوضع
السياسي، وكأن لا شيء كان وكائن بين هؤلاء الأشخاص. كيف يمكن لهويتين من
هذا النوع أن تلتقيا من دون أن تتطرقا لحديث السياسة ولو مزاحاً؟ تجنباً
للإحراج بالتأكيد، وربما أيضاً لأنه لم يعد هناك ما يقال. فكل شيء قيل،
والطريقة الوحيدة للحديث في السياسة هي عدم الحديث عنها. وقد اختار المخرج
الخروج من دائرة السياسة كي لا ينغلق فيها ويدور في حلقة مفرغة، وفضل
الحديث عن الناس فقط. من هم، كيف هم، ما هي آمالهم، وكيف يعيشون ويتواصلون.
في الفيلم تجاوز لحدود الحياة اليومية ومشاكلها للتوجه نحو ما
هو أبعد، نحو الاستماع. الاستماع إلى الآخر، والتواصل معه عبر الكلمة،
الحركة، الموسيقى. كل كلمة لها دورها، والكلام لا يجب أن يلقى جزافاً كي
يكون الاستماع على أشده. والشخصيات يمكن لها أن تكون أياً كان وفي أي مكان،
والدرس الوحيد هو التعامل الإنساني بغض النظر عن الهوية.
هل هذا ممكن مع كل هذا التاريخ المثقل والحاضر الأشد ثقلاً؟
الحياة اللندنية في 1
فبراير 2008
|