تختلف مقاييس الجمال في كل عصر وأوان، وكذلك باختلاف الثقافات
في بقاع العالم. ومقاييس الجمال جميعها خارجية، مظهرية. وفي
كتب التراث العربي، وفي
الليالي العربية، تُذكر مقاييس الجمال عشرات المرات وبالتفصيل الغرافيكي في
بعض
الأحيان. وفي أوروبا، أطلق الرسامون والنحاتون العنان لإبداعهم الفني
لتخليد مقاييس
وتظاهرات الجمال الجسدي في عودة أو استعادة لتراث الإغريق
والرومان. ولا ادري
بالضبط، كيف اهتدى الإنسان إلى فكرة الجمال الداخلي أو الروحي كمقابل أو
مواز
للجمال الخارجي. وما يُقصد بالجمال الداخلي؛ هو رؤية الإنسان من الداخل أو
إعادة
اكتشاف ما بعد أو خلف المظهر الخارجي. وعملياً، فان الجمال
الداخلي، هو إعادة
الاعتبار لكل ما لا يتطابق أو يتلاءم مع معايير الجمال العامة. وفي الفن
والأدب،
فانّ الجمال الداخلي ما هو إلاّ اكتشاف وتكريس لجماليات
aesthetics
القُبح
والاختلاف. وهكذا يصبح المفهوم ثورة أو رؤيا ثورية للأشياء.
فما
لم ننتبه
له، يُصبح مركزياً أو محورياً في الفن الحديث وحركات نهاية القرن التاسع
عشر الأدبية والفنية التي أرهصت وبشّرت بما بعد الحداثة؛ بالاختلاف،
بالتعدّد،
بالتنوع … بعيداً عن وصاية المركز ومعاييره ومقاييسه للأشياء.
في السينما، ظهرت هذه الثيمات بشكل صارخ أحيانا، كما في أفلام
(الحسناء والوحش، دراكولا، فرنكنشتاين، شبح الأوبرا، احدب نوتردام) …
المبنية على
كتابات الحركة الرومانسية في أوروبا – وربما يمكن إضافة “عطيل” لشكسبير
كأصل لكل
أنواع الخروج عن السائد والمألوف في مجالات العلاقات العاطفية والجمال
المختلف
والتفاعل مع الآخر. هذه الأفلام جميعها تنطوي على قصة حب
(مختلفة) تتجاوز المقاييس
والمظاهر الخارجية. أو قد تظهر هذه الثيمات بأشكال معاصرة، ضمن صراعات
اجتماعية
وسياسية، فيرتبط البحث عن الجمال الداخلي بالخروج عن السائد، وبالتحرّر
أيضاً … كما
في أفلام (الجمال الأمريكي، المريض الإنكليزي، الفتيان لا
يبكون، لعبة البكاء، نادي
العراك، ان تكون جون مالكوفيتش) وغيرها. وبالطبع فان هذه ليست أفلاماً
نموذجية عن
الموضوع، لكنها تقترب منه أو تتقاطع معه أو تمسّه في بعض الأحيان.
ولكن هل هناك جمال داخلي فعلاً، أم انه وهم ليس إلا!… أليست
هذه
الفكرة
(الأخلاقية أو الروحية) إلى حدٍ ما، محاولة لطمس أو تعويض ما يعانيه البشر
بسبب مظهرهم الخارجي غير المقبول مثلاً. هل يحق للبشر أن يتقنّعوا أو
يتمكيجوا أو
يغيِّروا مظهرهم الى حد كبير … والى أي حد يحق للبشر أن
يبتعدوا عن شكلهم الأصلي.
إنها مجرد تساؤلات أصبحت في العصر الميديائي الصوري مُلِّحة، بسبب سيطرة
النجوم
و”السوبر موديلز” وهيمنة الصورة والثقافة الشعبية الشائعة
pop culture.
وقد يقول
البعض
إنها مسألة شخصية جداً، ولكل إنسان إجاباته النظرية والعملية (الخاصة) على
مثل هذه الأسئلة.
في بعض الأحيان أتصور أن المشكلة برمتها هي نتاج تراجع جماليات
الغياب
أمام جماليات الحضور، مثلما نشهد تراجع الرواية أمام السينما، والراديو
مقابل التلفزيون، وكذلك الصوت مقابل الصورة. في الأوبرا مثلاً، يُشكِّل
الصوت
العنصر الرئيسي في العمل الفني. ولمشاهدة المؤدين بوضوح، قد
نحتاج إلى منظار مقرِّب
اختياري. فالموسيقى والغناء هما اللذان يخلُقان الصراعات والعواطف الحادة
وآليات
التماهي والتطهير والاستمتاع. وفي المسارح اليابانية مثل (النُو) و
(الكابوكي)،
يرتدي المؤدّون أقنعة أو ماكياجات سميكة من الدقيق الأبيض، أي تُغيَّب
الملامح
الخاصة وتُستحضر الحالة أو الشخصية بتطرّف. ان السينما
والتلفزيون هما العاملان
الأساسيان في خلق أساطير او “صورة” الجمال الراهنة، لذا حاولتا ان تكسرا
حِدَّة هذه
الصورة وخصوصاً في السينما المعاصرة، للوصول إلى تقييم اكثر موضوعية للبشر
بغض
النظر عن اشكالهم أو مواصفاتهم الخارجية. وفي ثلاثة أفلام
أمريكية من السنوات
القليلة الماضية، سنحاول ان نرى تجليات او تظاهرات لثيمة الجمال الداخلي.
-2-
أول هذه الأفلام هو (أخبار السُفن
Shipping News)
للسويدي لاس
هالستروم، أحد مؤسسي حركة الدوغما، ومخرج أفلام مهمة جداً مثل (شوكولا،
قواعد بيت
عصير التفاح وغيرها). يضم الفلم طاقماً تمثيلياً رائعاً؛ كيفن سبيسي،
جوليان مور،
جودي دينتش، كيت بلانشيت. كما انه مأخوذ عن رواية شهيرة جداً
للكاتبة (آني برولكس)
الحائزة
على جائزة البولتزر 1992. في الفلم، فان كيفن سبيسي – الذي اكتسب عشرة كغم
إضافية – يبدو أبلهاً، وضعيفاً أمام زوجته المتحللة، والباحثة عن المتعة
والمغامرات
(الممثلة كيت بلانشيت). إنه أحد مخلوقات المدينة الكبيرة الممسوحة الهوية
والملامح.
وعندما
يموت والداه منتَحِرَين، وتُقتل زوجته في حادث سيارة مع أحد عُشاقها، لا
يبقى له سوى ابنة صغيرة وعمته التي تأخذه إلى المناطق الجليدية الكندية في
“نيوفاوند لاند” أو ارض الأجداد. هناك تبدأ رحلة اكتشاف لأسرار تخص تاريخ
عائلته
والمجتمع
الصغير الذي انتقل إليه تواً، لكنها أسرار مشينة في جوهرها. كما تبدأ
رحلة تكوين علاقات جديدة والبحث عن عمل أو موقع في هذا المجتمع القابع تحت
رحمة
الظروف المناخية القاسية. وبالفعل يبدأ سبيسي بالبروز والظهور،
فيُصبح الكاتب الأول
في
الصحيفة المحلية، ويدخل في علاقة عاطفية مع أرملة مزيّفة (الممثلة جوليان
مور).
والحقيقة ان ثيمة الجمال الداخلي في الفلم، تتصل بشكل مباشر بجماليات
المكان
والعودة إلى ارض الأجداد. والاهم، هو الإصرار على البقاء في هذا المكان
الصعب،
بظروفه المناخية العدائية وحياته الاجتماعية المحدودة. وعلى
طريقة مدرسة الدوغما؛
فان الفلم يحمل أعلى درجات الواقعية “الحيادية” والصدق، إخراجاً وتصويراً
وتمثيلاً.
ويغالبك الإحساسً بأنك تشاهد أناساً عاديين جداً، يعيشون حياتهم تحت أنظار
كاميرات (لا
مرئية) في أحضان طبيعة قاسية جداً. وقد نفهم من الفلم، انّه قد يستحيل
اكتشاف
الجمال الداخلي في المجتمعات المدنية المكتظة، بقيمها وأساطيرها التافهة أو
السطحية.
-3-
في الفلم الثاني (جو المهم
Joe Somebody)
للمخرج
(جون باسكن)،
تتكرر بعض الثيمات من الفلم السابق، فنحن أمام جو (تيم الين)
الذي تركته زوجته وهو
يواجه صعوبات في العمل بسبب خموله ومظهره “العتيق”. وعندما يأخذ ابنته
الصغيرة معه
إلى العمل، يُضرب ويُذل أمامها من قبل أحد الموظفين (الأصِّحاء او
الأشداء)، لذا
يقرِّر الانتقام ... ويبدأ بتلقي تدريبات على الفنون القتالية
عند نجم سينمائي فاشل (جيم
بلوشي)، كما يبدأ بتغيير مظهره الخارجي؛ الشعر، الملابس، التصرفات. ولكل
هذه
الأسباب، ولأنه مصمم على الانتقام بجدية، فانه يكتسب شعبية كبيرة بين
زملائه
الموظفين. لا بل يتمكن من الاستحواذ على اهتمام صديقة رئيسه في
العمل، وحتى زوجته
التي تركته تبدأ بمتابعة أخباره. إن (تيم آلِن) ممثل محبوب جداً في أمريكا
بفضل
دوره في المسلسل التلفزيوني الكوميدي (تحسين المنزل). لذا فانه يطبع الفلم
بطابعه
الخفيف؛ الكوميدي/ الإنساني إلى حدٍ ما. وأمام تعاظم قوة (جو)
وإصراره، تُصبح
مسؤولية محبيه الحقيقيين أن يمنعوه من الاندفاع لمنازلة زميله الذي ضربه.
وبالفعل
فانه يمتنع عن ضربه في النهاية، ويكتفي باعتذار علني من المعتدي. لكنه يضرب
مديره
في العمل بسبب خبثه ولؤمه. وخلال مسيرة الفلم، فان (جو) يشع
بريقاً غريباً وينال
اهتماماً غير مسبوق بفضل إصراره على عدم الاستسلام لمشاكله الخاصة أولاً،
وعدم
سكوته على الإهانة ثانياً، وكذلك محاولة الظهور بمظهر جديد. الفلم يقول في
النهاية؛
إن الجمال الداخلي ينبع من الموقف تجاه الأحداث والمسؤوليات
والصعوبات التي
نواجهها. وأهم من الثأر، أن تكون مستعداً أو جاهزاً للثأر … وعندها ربما لن
تفكِّر
بالثأر مطلقاً. إنه فلم عائلي بسيط، لا يطرح مواضيع أو محتويات جريئة مثل
فلم (أخبار السفن)، الذي ينشغل أحياناً في اكتشاف أسرار جنسية واستفزازية مثل
زِنا
المحارم،
والجنسية المثلية، والبرود الجنسي، والخيانة الزوجية.
-4-
أما الأخوين بيتر وبوبي فاريللي (صانعَي أفلام مثل غبي وأغبى،
شيء ما عن ماري، أنا ونفسي وآيرين) … فانهما كعادتهما يذهبان
“بعيداً” في هذا
الموضوع، ويخلطان التساؤلات الجدية والتأملات العميقة بالمواقف الساخرة،
والتي تصل
إلى حد قلّة الذوق
bad taste
أحياناً.
ففي فلمهما (هال السطحي أو التافه Shallow Hal)
تحتل
موضوعة الجمال الداخلي المركز الرئيسي. وبالفعل فان هال (الممثل الصاعد
جاك بلاك) شاب سطحي جداً، منشغل مع صديقه الأكثر سطحية موريشيو (الممثل
جيسون
الكسندر) بمطاردة الحسناوات اللواتي لا يلتفتن إليهما كثير،ً
بسبب بدانتهما
المتوسطة وتفاهتهما … ومع هذا، فهما على استعداد لتوجيه الانتقادات واكتشاف
النقائص
حتى عند اجمل الجميلات. لكن هال يتعرض للتنويم المغناطيسي من قبل مرشد
اجتماعي/
نفسي أو guru،
ويُوجّه للبحث والتفكير فقط في الجمال الداخلي، وخصوصاً بين النساء.
بالفعل يحصل على نتائج رائعة؛ فتيات جميلات ذوات شخصيات وعقول، بل إنه يقع
في حب
روز ماري
الشقراء الفارعة (غوينيث بالترو) التي يكتشف أنها ابنة رئيس المجموعة
الاقتصادية التي يعمل فيها، فيترقّى في عمله نتيجة هذه العلاقة. إننا نشاهد
كل شيء
من خلال عيني هال الذي يصبح إنسانا حساساً، رقيقاً، رائعاً،
سعيداً. ولكنّ ما يراه
هال ليس حقيقياً، وهذا ما يقوله له الآخرون باستمرار
:
“إنك تحتاج لوجهة نظر مستقلة لتستطيع الحكم أو الجزم بإن هذا
جميل أو قبيح”.
إننا نكتشف مع هال لاحقاً، إن من يحبها تعاني من البدانة
المفرطة
Obese،
وهي شبه مرفوضة اجتماعياً وغارقة في العديد من المشاكل والصعوبات
بسبب مظهرها، وكل من يتعامل معها أو اصدقاؤها؛ إما مشوّهين، أو
معاقين أو أشباه
مجانين.
والحقيقة ان المخرجَين ينجحان في إعادة صورة البطل الوجودي،
المتأمل في معنى الأشياء والوجود الى الشاشة. انه يتساءل عن
معنى الجمال، وحقيقته؛
هل
هو مسألة خارجية موضوعية او موقف داخلي من الأشياء، هل هو مطلق ام نسبي؟.
لقد كان سعيداً مع فتاته وعالمها عندما كان منوّماً، وعندما
ذهب
تأثير
التنويم أدرك كيف اصبح الأمر صعباً وقاسياً. إن الأمر يحتاج الى بذل جهود
خارقة للقبول بفتاته السمينة جداً جداً. ولكن في هذه المحنة تتطور شخصية
هال بشكل
منطقي ومقنِع الى حدٍ ما، فيقرر العودة الى أحضان حبيبته
“العريضة”، ويتطوع معها في
مهمة إنسانية في أفريقيا، تعبيراً عن أتساع نظرته للأمور ورفضه الخضوع
للمظاهر
الخارجية ولمعايير الجمال المباشرة.
إنّ مهمة الفلم صعبة لأنها مبنية على التطرّف والمبالغة،
ولكنها
تنجح بفضل
الأداء الرائع لجاك بلاك وغوينيث بالترو. وكذلك، وهو الأهم، بفضل الأسلوب
التدريجي وغير المباشر الذي يتبعه المخرجان في كشف الأشياء للبطل
والمشاهدين
-
وربما نحتاج جميعاً الى غسل دماغ او تنويم مغناطيسي لننفتح على مظاهر
جمالية مختلفة
او
بديلة، حتى نتحرر من سيطرة مقاييس ومعايير الجمال الشائعة.
وهكذا يُصبح البحث عن الجمال الداخلي موقفاً إنسانياً تجاه
الآخرين واشتراكاً إيجابياً في مِحنِهم. وفي رحلة هال السطحي،
نكتشف أيضاً جمال هال
نفسه الذي تحول من الفتى العابث التافه الى بطل باحث عن الحقيقة، ومستسلماً
لما
يمليه عليه قلبه وضميره.
الإتحاد العراقية في 23
يوليو 2007
|