الحد الفاصل بين الفن والتجارة

بقلم: د.وليد سيف

(مقدمة كتاب حسين كمال)

 

 

 
 
 
نشر في كتاب في يوليو 2024
 
 
 
 
 
 
 
 

يستحق المخرج المصري حسين كمال أن تقام حول أعماله الدراسات النقدية، فهو أحد أهم المجددين في السينما المصرية، ضمن ما يمكن تسميته بالجيل الثالث من المخرجين، ذلك الجيل الذي توازى ظهوره مع تخرج الدفعات الأولى لمعهد السينما، وكذا مع عودة المبعوثين من التليفزيون المصري لدراسة السينما في أوروبا ومنهم حسين كمال.

يتوقف الناقد السينمائي البحريني المخضرم حسن حداد أمام أعمال حسين كمال بالقراءة والتحليل لكل أعماله بنظرة موضوعية في هذا الكتاب، وهو يتمكن بخبرته النقدية من أن يضع حداً فاصلاً بين أفلام حسين كمال ذات الطابع الفني الخالص، وغيرها من الأعمال التي طغى على معظمها الطابع التجاري، وإن سعى لتحقيقها بصنعة محكمة واعتمد فيها غالبا على نصوص أدبية لكبار الكتاب.

إن قراءة هذا الكتاب لن تجعلك فقط على معرفة كاملة بأعمال حسين كمال ببياناتها الموثقة الكاملة والصور المختارة، أو بالتناول النقدي للكاتب لها لكنها ستضعك أيضا أمام تساؤلات حول صناعة السينما في مصر في ثلاث عقود تقريبا، وما اعتراها من تحولات ومن ظروف محيطة كانت كفيلة بأن تحيل هذا المخرج الذي كان قد أعلن صراحة التمرد على النمط الاستهلاكي للسينما قبل أن يتحول إلى ترس في آلتها التجارية الجبارة.

بدأ حسين كمال مسيرته الإخراجية بقوة من خلال روائعه الثلاث وهي: (المستحيل ـ 1965) و(البوسطجي ـ 1968) و(شيء من الخوف ـ 1969)، ليتحول بعدها إلى صنع أفلام لا تضيف في معظمها إلى تاريخه الفني المجيد، بقدر ما تضخ من أموال وأرباح للمنتجين، جاءت النقلة مع أحد أشهر الأفلام في تحقيق أضخم الإيرادات وهو فيلم (أبى فوق الشجرة ـ 1969) الذي يمكنك أن تدرك من خلال هذا الكتاب أنه يشكل حدا فاصلا واضحا ومحددا بين مرحلتين من أعمال حسين كمال مع استثناءات نادرة.

قبل أن ينتقل حداد إلى التناول النقدي لأفلام حسين كمال يستعرض في فصل بعنوان البدايات مراحل النشأة والتكوين في حياة الفنان ثم يتجه إلى التعريف بمسيرته الدراسية وأعماله التليفزيونية المهمة قبل أن يخوض تجاربه السينمائية الأولى، لا ينشغل حداد في هذا الفصل بسرد سيرة ذاتية حياتية شخصية لحسين كمال بقدر اهتمامه بكل ما يتصل بإرهاصات توجهاته وعوامل تشكيل شخصيته الفنية.

لا يعد الكتاب بأي حال عمل تكريمي أو احتفالي شأن كتب التكريمات التذكارية ومنها كتاب الدكتور رفيق الصبان عن حسين كمال نفسه من إصدارات صندوق التنمية الثقافية لعام 1997 بمناسبة تكريمه من المهرجان القومي، بل إن حداد لا يتورع عن أن يكون لاذعاً وحاداً أحياناً، وهي قسوة تليق بناقد يتعامل مع الفيلم باعتباره عمل فني، وأن النقد رسالة هدفها تنوير القارئ وتبصيره وتمكينه من التمييز بين ما هو جيد وما هو رديء، وأن يضع يده على كل ما يراه إيجابياً أو سلبياً.

سبق لي وقت أن كنت رئيسا لتحرير سلسلة (آفاق السينما) أن نشرت كتابا لحسن حداد بعنوان (سينما الثمانينات.. طريق مفتون بالواقع)، لم أكن قد عرفته شخصيا من قبل، وكان نشر ذلك الكتاب في تلك السلسلة كسرا لتقليد متبع لكل من سبقوني كأن هناك اتفاق غير معلن ألا تنشر السلسة إلا لنقاد مصريين، وبعد أن نجحت التجربة مع كتاب حسن حداد نشرت بعد ذلك للعراقي المقيم بألمانيا قيس الزبيدي، ثم المغربي الأكاديمي محمد شويكة، وبذا أصبحت السلسلة مصرية عربية بامتياز.

أرى دائما أن السينما المصرية ملك لكل العرب وكذلك الكتب ومختلف الإصدارات، وكما تنفتح لنا كمصريين سبل النشر في مختلف أنحاء الوطن العربي، فإنه من الواجب أن يحظى الكتاب والنقاد العرب بنفس الفرصة في مختلف الإصدارات المصرية.

تجدر الإشارة إلى أن دور حسن حداد في حركة الثقافة السينمائية لا يتوقف عند حدود منجزه النقدي ومتابعته الدؤوبة للسينما العربية بالنقد والتحليل، بل يمتد أيضا إلى إطلاقه منذ سنوات طوال لموقعه السينمائي "سينماتك" الذي أصبح مرجعية مهمة للمعلومات والآراء عن أفلامنا من المحيط للخليج، بل إنني أوجه طلابي في المعهد العالي للنقد الفني بأكاديمية الفنون دائما للاستعانة به ضمن مراجعهم.

يمتلك حسن حداد المعلومة ويحرص على توثيقها ومراجعتها ليقدم للقارئ مرجعا موثوقا فيه، كما يمتلك أيضا حساً نقدياً ورؤية محددة لفن السينما عموماً وفهماً عميقاً للسينما المصرية خصوصاً، لهذا أعتقد أن هذا الكتاب يشكل إضافة للمكتبة العربية، يسعى كاتبه من خلاله إلى أن يقدم للقارئ قراءة نقدية جادة وموضوعية، لفنان لا يمثل ذاته وحدها بل أيضا يمثل في مسيرته الفنية جيلا من المخرجين، كانت بداياتهم من منتصف الستينيات حتى بداية السبعينات منهم سعيد مرزوق وأشرف فهمى، تشابهت المسارات بينهم إلى حد كبير في التحول من طموح الفن والتجريب بمعناه البسيط إلى السينما التجارية التقليدية بأنواعها المختلفة.

ربما يجيب الكتاب دون مباشرة عن حال الفيلم المصري الذى وصل مستواه مع النصف الثاني من  الستينيات من القرن الماضي إلى درجة عالية من الجودة والتميز وتطور اللغة السينمائية بصورة لافتة وكشف عن قدرات إبداعية لمخرجين كان حسين كمال من أهمهم، تمثلت هذه الروائع في أعمال بقيمة (الحرام ـ 1965) لبركات و(المستحيل ـ 1965) لحسين كمال و(الخائنة ـ 1965) لكمال الشيخ و(مراتي مدير عام ـ 1966) لفطين عبد الوهاب و(الزوجة الثانية ـ 1969) لصلاح أبوسيف و(البوسطجي ـ 1969) لحسين كمال و(غروب وشروق ـ 1969) لكمال الشيخ ووصلت إلى ذروتها مع فيلمى (الأرض ـ 1970) ليوسف شاهين و(المومياء ـ 1969) لشادي عبد السلام، الذى سبق تاريخ إنتاجه عرضه العام في مصر سنة 1975 بعدة سنوات.

بعد هذه الذرى، أصابت الفيلم المصري حالة من الجمود بل والتراجع استمرت حتى بداية الثمانينات التي شهدت انتعاشه استمرت حتى منتصف التسعينيات تمثلت في أفلام منها (سواق الأوتوبيس ـ 1983) لعاطف الطيب، و(الطوق والإسورة ـ 1983) لخيرى بشارة، و(الحريف ـ 1983) و(زوجة رجل مهم ـ 1987) لمحمد خان، و(للحب قصة أخيرة ـ 1985) و(السادة الرجال ـ 1987) لرأفت الميهي، و(الكيت كات ـ 1991) لداود عبد السيد، و(ليه يا بنفسج ـ 1993) لرضوان الكاشف.

ربما تعينك قراءة هذا الكتاب على فهم أسباب تلك الفجوة الزمنية وفك أسباب غموضها: هل كان سببها غياب القطاع العام المفاجئ عن الإنتاج أم التحولات السياسية والاجتماعية، أم المحاذير الرقابية أم ظروف الإنتاج والتوزيع في تلك السنوات.

إن أفضل ما في هذا الكتاب أنه لا يفرض عليك إجابات أو أسباب لهذا التحول، لكنه بالتأكيد سيكون ملهما لك للوصول إلى الإجابات الصحيحة التي تتصل بظروف فرسان السينما المصرية في السبعينات عموما، وحسين كمال خصوصا ولماذا تخلى هؤلاء الفرسان عن السلاح، خاصة لو قارناهم بالجيل التالي لهم جيل الثمانينات، الذي كان أكثر قدرة على تقديم سينما الفن في معظم افلامهم ومنهم خيري بشارة ومحمد خان وداود عبد السيد، وهي مسألة قد تتطلب دراسات في علم الاجتماع وعلم نفس الإبداع.

يتميز أسلوب حسن حداد بالتكثيف الشديد دون إخلال بالمعنى أو الهدف، ودون التقصير في توصيل وجهة نظره للقارئ بأسرع الطرق، وهو يمنح كل فيلم من أفلام حسين كمال المساحة التي يستحقها من النقد، ولا يتوغل كثيرا في أفلام لا تستحق أن يقال عنها الكثير.

 

خاص بـ "سينماتك" في

يوليو 2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004