سعدتُ بهذا الكتاب الجديد، الموجز والمكثف، لصديقي العزيز الناقد السينمائي
البحريني، وعاشق الأفلام الشغوف، حسن حدّاد، والذي خصصه لسيرة ومسيرة المخرج المصري
الكبير على بدرخان، صاحب الأفلام القليلة، الهامة والمؤثرة والمتميزة، شكلا
ومضمونا، سواء في تاريخ السينما المصرية، أو في تاريخ السينما العربية على وجه
العموم.
أسعدني أكثر التفات حسن حدّاد، المتابع الدؤوب، والذي يعرف قيمة الأرشيف والتواريخ،
الى ارتباط صدور الكتاب، بمناسبة مرور نصف قرن على عرض أول فيلم سينمائي لعلي
بدرخان في ديسمبر من العام 1973، وهي سنة تاريخية بالنسبة لمصر، ولمخرجنا الكبير.
لاشك أنها مناسبة تستحق الاحتفال والتأمل، وتستأهل تقديم مراجعة، ولو سريعة خاطفة،
لمنجز على بدرخان، الذي أثبت أن البصمة ليست بكثرة الأفلام، ولكن بتأثيرها وقيمتها
وأهميتها، والذي ابتعد عن الإخراج السينمائي منذ سنوات طويلة، وتحديدا منذ عرض فيلم
"الرغبة" في العام 2001، ولكن أفلامه مازالت حية في الذاكرة، ومازالت تُستقبل
بحفاوة جماهيرية ونقدية، سواء عند عرضها في التليفزيون، أو عند عرضها سينمائيا،
مثلما حدث مؤخرا بعرض مجموعة من أبرز أفلامه في سينما زاوية بالقاهرة، وفي نسخ
مرممة، ووسط حضور كبير لافت من أجيال شابة، لم تعاصر العروض الأولى لهذه الأفلام.
منهج حسن حدّاد في هذا الكتاب يعتمد أكثر على التوثيق، ويراوح بين مقتطفات من أقوال
على بدرخان، وبين العرض والتحليل السريع لمعظم أفلامه، وأعتقد أنه كتاب تكريمي
توثيقي، هدفه أن يعطي القارئ العادي فكرة عامة عن عالم هذا المخرج، وعن موجز سيرته،
وأن يحرضه على مشاهدة تلك الأفلام، إذا لم يكن قد شاهدها، وأن يلفت نظره الى بعض
عناصرها الفنية، إذا كان قد شاهدها من قبل، فالفيلم ليس هو الحدوتة والأبطال فحسب،
ولكنه الأفكار، والرؤية الفنية التي تحمل هذه الأفكار عبر لغة السينما، وأدواتها
المختلفة.
لفتت نظري في الكتاب أقوالا كثيرة هامة لعلي بدرخان، فهو يقول مثلا إنه ما زال
هاويا، لا يرتزق من السينما، ولعله يقصد أنه يدرّس السينما، ولا يحتاج الى مصدر
مالي آخر خارج وظيفته، كما أنه يعترف بأن شغفه الكبير بمشاهدة الأفلام في طفولته
وشبابه، لم يدفعه الى أن يلتحق بمعهد السينما بإرادته، فقد كان يحلم بأن يدخل
الكلية البحرية، ولكن والده المخرج الرائد أحمد بدرخان هو الذي دفعه لدراسة السينما
بالمعهد، وكان يرى أن مستقبل ابنه في أن يكون مخرجا.
لكن من المؤكد أن علي بدرخان قد وجد نفسه في الدراسة، وفي الإخراج، وهو أحد أعمدة
الدفعة الذهبية من المعهد في العام 1967، ومن زملائه خيري بشارة وداود عبد السيد،
والثلاثة غيّروا شكل السينما المصرية والعربية بأفلامهم، وهم ينتمون الى جيل وجد
نفسه في قلب أحداث سياسية، وتحولات كبرى، مصريا وعالميا، كما أن السينما في العالم
كانت تموج وقتها بتيارات ومخرجين كبار، تعرض أفلامهم في جمعية الفيلم، وفي نادي
سينما القاهرة، وتأسست جماعة السينما الجديدة، التي أصدرت بيانا هاجمت فيه السينما
السائدة، ومخرجيها التقليديين، كما دعت الى سينما مختلفة شكلا ومضمونا، بعيدا عن
الموضوعات الميلودرامية والهزلية المنتشرة، ودعت الجماعة الى استخدام لغة سينمائية
مبتكرة وخلاّقة.
في قلب كل ذلك، كان علي بدرخان يبدأ مشواره السينمائي مساعدا للإخراج، وكانت فترة
عمله مساعدا ليوسف شاهين بالتحديد، من أكثر الفترات التي أفادته على مستوى التكنيك
والحرفة السينمائية، وكان المنتج يوسف شاهين أيضا وراء تشجيع علي بدرخان، لإخراج
أحد أهم وأفضل أفلامه، وهو فيلم "شفيقة ومتولي".
يلفت النظر أيضا أن علي بدرخان، الذي تدل أقواله أنه شديد الوعي بأهمية معالجة
الفنان لقضايا اجتماعية وسياسية محلية، يهتم كذلك بلغة السينما، وبالسيناريو كمحور
وكحجر أساس للعمل، فرغم أن انحيازات علي بدرخان واضحة سياسيا واجتماعيا، ورغم
انحيازه للمرأة، ودفاعه عنها في مواجهة قهر المجتمع والظروف، إلا أن أفلامه لا تهتف
ولا تصرخ، ولا تقدم شعارات مباشرة، ولكنها أعمال فنية ذكية ومبدعة، ولعل هذا سبب
غضبه، كما يكشف الكتاب، من تدخل رئاسة الجمهورية في عهد الرئيس السادات، لتغيير
نهاية فيلم "الكرنك"، بإضافة الإشارة الى أحداث 15 مايو 1971، كتصحيح لمسار ثورة
يوليو، وهي لا شك إضافة دعائية، لا علاقة لها برواية "الكرنك"، ولا علاقة لها
بالسيناريو الأصلي للفيلم.
لا يمكن تجاهل أفلام علي بدرخان مثل "الكرنك" و"شفيقة ومتولي" و"أهل القمة"
و"الجوع"، في قائمة أفضل أفلام السبعينيات والثمانينيات، وبين أفضل أفلام السينما
المصرية أيضا، بل لعلها من أنضج نماذج الفيلم السياسي والاجتماعي العربي، كما أن
تجربة فيلم مثل "الحب الذي كان" تعد من أجرأ أفلام الدفاع عن المرأة، في مواجهة
قسوة وسطوة المجتمع، وبما يذكرنا بأفضل أفلام إحسان عبد القدوس، مع ان الفيلم من
تأليف رأفت الميهي، كما أن فيلما مثل "الراعي والنساء"، وفيلما مثل "الرغبة"، من
أفضل الأفلام المصرية التي أعدت عن أعمال أدبية أجنبية مسرحية.
ربما يدفعنا الاحتفال بعلي بدرخان من خلال هذا الكتاب الموجز الى تحية جيله بأكمله،
والإعجاب بما أنجزوه، كما يدعونا أيضا الى تأمل هذه الظروف غير المواتية، التي تجعل
مخرجين كبارا مثل بدرخان وخيري وداود بعيدين عن إخراج الأفلام السينمائية، بينما
تتاح الفرصة لأرباع الموهوبين لتقديم أعمال رديئة، لا تتمتع بالحد الأدنى من الجودة
أو الإتقان.
علي بدرخان ليس مخرجا فحسب، ولكن لديه أيضا مؤلفات في السينما، ولديه تلاميذ تخرجوا
على يديه من معهد السينما، وحضوره العام قوي وملحوظ، وهو في كل الأحوال يشعر بالرضا
على ما أتيح لديه أن ينجزه، وبما قدم من علم وتدريس للأجيال القادمة.
أتمنى على صديقي حسن حدّاد أن يتوسع في دراساته القادمة لكبار المخرجين والعرب،
بحيث تكون أكثر تفصيلا وتحليلا ومقارنة، وأن يواصل عموما إسهاماته التعريفية
والنقدية، بعد كتبه السابقة عن محمد خان وعاطف الطيب وداود عبد السيد، وصلاح ابو
سيف وفاتن حمامة، فمن حق الأجيال الجديدة أن تلتفت الى الأفضل والأهم في تاريخ
الأفلام العربية، مثلما تتابع الأفضل والأهم في تاريخ الأفلام الأمريكية والأوربية.
عرفت صديقي أولا من خلال موقعه الأرشيفي الاستثنائي "سينماتك"، والذي يعتبر ذاكرة
عملاقة للمواد السينمائية المنشورة باللغة العربية، أخبارا ونقدا، ثم التقيت حسن
حدّاد لأول مرة في مهرجان القاهرة السينمائي، فعرفت فيه إنسانا خلوقا وبشوشا،
وعاشقا حقيقيا للسينما، نشر أول مقالاته عنها في العام 1983، وما زال يمارس
متابعاته للأفلام بشغف الهاوي، وبعشق الممسوسين بالجمال.
له كل التحية والتقدير، فكل جهد يصب في خانة التذوق السينمائي، والتوثيق والتأريخ،
وحفظ الذاكرة الفنية، يضيف ولو قليلا الى المعرفة، والى المكتبة السينمائية، والى
عشاق الفن والفنون. |