ثمة فكرة أساسية تتعلق بفيلم "المومياء.. ليلة أن تحصى السنين" للمخرج الكبير شادي
عبد السلام، تجعله لا يعتبر فقط مهمًا وذي قيمة فنية كبيرة، بل إنه أيضًا الفيلم
الذي رفع من مستوى النقد خطوات أو بالأحرى قفزات واسعة إلى الأمام، بما يثبت ويرسخ
لنظرية أن النقد يزدهر بالأعمال العظيمة، فعلى سبيل المثل والدلالة لا يمكن أن تكون
صدفة أو أمرًا عَرَضِيًّا أن نجد كتبًا وكتابات عديدة عن أعمال نجيب محفوظ، تتبارى
في جديتها وعمقها ومحاولاتها الاقتراب والعُلو كي تطالها، هذا لا يعني حكمًا مطلقًا
صوب الأعمال الضعيفة والكتابات النقدية حولها، لكنها مسألة تخص العلاقة بين الإنجاز
الإبداعي والإنجاز النقدي والإسهام في تحسين الوعي المعرفي والجمالي والبصري، كذلك
إثارة النقاش الجدي والقراءة المعمقة وتفكيك الأعمال السينمائية وتأثيراتها انفعالا
وتأملًا وتفكيرًا، لأنّه بهذه الطريقة يحدث تحوّلًا جذريًّا في التلقي والوعي
إجمالًا وتظهر أشكال مختلفة للتعبير.
من هذا المنطلق ندرك، وهو إدراك قديم يتجدد، أن "المومياء" مُترع في مفاصله كصنيع
فني بأسباب كثيرة تجعله مثار واستبصارات وسجالات وتساؤلات معلقة وإجابات غالبًا غير
شافية، وهي مسألة في حد ذاتها تُربك المُشاهدين وتورطهم ثقافيًا وفكريًا، خصوصًا
بكل ما يحتوي الفيلم من سحر وجمال شكلًا ومضمونًا، فما بال النقاد وتواصلهم مع عمق
النص السينمائي وما يحتمله من تفسيرات عدة، كما في "المومياء" الذي لفت أنظار
العالم، ومازال، إلى السينما المصرية والعربية، وهو الفيلم الذي يصح القول عنه
بارتياح أنه رفع من معايير المُشاهدة وكذلك معايير الكتابة النقدية، وأنه أيضًا
ينتمي إلى فئة الأفلام الخالدة، الباقية، بحيث نجد كل عدة سنوات من يأت ليكتب شيئًا
جديدًا عن فيلم أُنجز في العام 1969، أي منذ نحو 55 عامًا، أو عن صاحبه شادي عبد
السلام، المخرج والكاتب ومهندس الديكور ومصمم الملابس والفنان التشكيلي، موفور
الموهبة والروافد الفنية المتعددة، الباحث الطموح الذي حاول في مشروعه السينمائي أن
ينير بعضًا من الثقافة المصرية القديمة، ذو الحضور الأبرز عالميًا ومحليًا على
الرغم من قلة أفلامه، كما يفعل الآن الناقد البحريني الكبير حسن حداد بعد 38 عامًا
تقريبًا من رحيل شادي، بكتابه الأحدث في مكتبته السينمائية العامرة بإصدارات وثيقة،
متأصلة في العالم السينمائي بحثًا وتنقيبًا ودراسة، تستند إلى معرفة وثقافة ووعي،
وها هو في هذا الكتاب وعنوانه "شادي عبد السلام صاحب المومياء"، الصادر عن سلسلة
كتاب سينماتك، نشر إليكتروني، والذي صمم له بنفسه الغلاف مع التنسيق الداخلي
والخارجي، ليُشكل إضافة جديدة للمكتبة السينمائية العربية، وإضاءة جديدة على فيلم
هو أصلًا مضيء وتجربة مخرج يحظى باكتراث وتقدير كبيرين.
ما الذي يمكن أن يقدمه الناقد حسن حداد إزاء هذه التجربة، وهو الكاتب المعروف
باشتغاله البحثي والنقدي الحماسي والرصين في ذات الوقت؟.. إنه هنا في هذا الكتاب
يسعى إلى توثيق التجربة بأسلوب يركَن إلى تحليلها، وطريقة فيها شيء من التحريض على
إعادة مُشاهدة أفلام شادي عبد السلام وقراءتها بعين مختلفة قراءة وافية تليق به.
يقول حسن حداد في كتابه عن شادي: "كان أحد المناضلين في حرب الفن والثقافة
العربية"، واستشهد بكلمة لـ"شادي" وضعها في الغلاف الخلفي تدعم وجهة النظر هذه
وترسخ لسينمائي تعامل مع صناعة الأفلام بزوايا متعددة من أجل الوعي والمتعة سويًا،
فيقول في كلمته: "أنا مؤمن بأن للسينما لغة خاصة بها، وهي لا تعتمد على اللغة
المنطوقة، وإنما على الصورة السينمائية التي تخدم الإطار العام للفيلم، والحرفية
بالنسبة للمخرج هي آخر شيء يفكر فيه، بل من الكريه أن يكون المخرج مجرد حرفي فقط،
لابد أن يكون للمخرج وجهة نظر ورأي يلتزم به، حرفة المخرج تماثل معرفتي لاستخدام
القلم..."، أراد حسن حداد إذًا إبراز هذا الجزء الأساسي في شخصية "صاحب المومياء"،
كما رآه كمناضل عنيد في حربه مع الجهل المتفشي في مؤسسات وأجهزة ثقافية أحجمت عن
إنتاج فيلمه "إخناتون"، الحلم الذي لم يتحقق، واعتبر حداد نضال شادي: "تحد مباشر،
يكشف عن قدرة أسطورية على التحمل، ويكشف إلى حد كبير عن خصوصيته وتميزه".. لم يبالغ
حداد في تحديد شخصية شادي أو "أسطرته"، أي وضعه في مصاف الأساطير الخيالية،
العظيمة، إنما اقترب من تفاصيل خلطة بشرية تُشعل في الروح فتيلًا من النور، رجل رسم
من روحه وذاته خرائطًا لجغرافيا حياة لم تزل أصداءها وأثارها حاضرة، حياة هي ثورة
صغيرة، مشروع ثقافي يأبى أن يندثر، طاقة هائلة القليل فيها غير معالمًا كثيرة، لذا
يستعرض حسن حداد بحرص في كتابه تفاصيل هذه الحياة ويتوقف عند نقاط عدة في مشوار
شادي الفكري والفني.
ربما نعرف نصف الحقيقة عن شادي عبد السلام، مخرج كبير لديه فيلم مذهل أثار الجدل
والدهشة وفيلم آخر كان حلمه العصي عن التحقيق، ولأنه النصف لا الكل، اجتهد حسن حداد
وقام بالبحث والتقصى ليقدم لنا الحقيقة كاملة في كتابه، كما لو أنه يجمع قطع
البازل، لتغدو لوحة متكاملة من المعلومات التي استقاها عبر رحلة بحثه، وقدمها في
معنى أعمق من البورتريهات العابرة، إذ يُدرك فهمًا واستيعابًا لشتى نواحي حياة شادي
عبد السلام، فنًا وفكرًا واجتماعًا.. لا يُخفي الكاتب إعجابه بالشخصية التي يقدمها
في مواضع عدة، لكنه يكتب كمن ينبهنا إلى شيء ما داخلي يُقيم ذلك التوازن الروحي في
الغالب، شيء هو أشبه بتحرير للذات، صحيح أنه يستحوذ على حواسنا ولكنه لا يأسرنا
ويجعلنا تحت وصاية شخص أو فكرة، إنما قد يعيننا على الحياة ويجعلنا نتطلع لهذه
النوعية من الكتابة بنوع من الاستعداد لخوض أيّ نقاش في أية لحظة.
قد يكون ما ذكرت، تبسيطًا مواربًا لدأب حسن حداد في محاولته لرصد مشوار شادي عبد
السلام ) 15 مارس 1930: 8 أكتوبر عام 1986(، منذ تخرجه في العام 1949، من كلية
فيكتوريا التابعة لجامعة أكسفورد بإنجلترا، إلى تقديمه فيلمه "المومياء" الذي وصفه
حداد بأنه "ذلك الفيلم المعجزة الذي تفخر به السينما العربية"، إلى رحيله دون أن
يتمكن من تحقيق (أخناتون)، فيلمه الذي كتب له القصة والسيناريو والحوار، وصمم
مشاهده، وقضى خمـسـة عـشر عـامًـا يبحث فيها عن ممول لإنتاجه، ويحارب في ذات الوقت
المرض الخبيث الذي داهم جسده، فنتعرف من خلاله على الفتى الجامح الذي اعترضت عائلته
على دراسته السينما، فالتحق بمعهد الفنون الجميلة بالقاهرة لدراسة العمارة، وحصل
على درجة الامتياز ثم عمل مهندسًا معماريًا بينما كان "آيزنشتاين"، المخرج السوفيتي
الكبير، في باله قدوة له، لذا هرول بعد أن قضى مدة خدمته العسكرية إلى السينما
ودخلها من باب المخرج الكبير صلاح أبو سيف، حيث عمل معه في فيلمه (الفتوة ـ 1957)،
ثم عمل مساعدًا له في: "الوسادة الخالية، الطريق المسدود، أنا حرة"، حتى رتبت له
الصدفة عمل ديكور فيلم "حكاية حب" مع المخرج حلمي حليم بعد أن تغيب مهندس الديكور،
وبعدها توالت أعماله لتصميم وتنفيذ ديكورات مجموعة من الأفلام، كان أهمها حسبما
يذكر لنا حداد هي ديكورات فيلم (وا إسلاماه ـ 1961)، ومن السينما المصرية إلى
العالمية قام بتصميم وتنفيذ الديكور والملابس في الفيلم الأمريكي (كليوباترا)،
وفيلم (فرعون) البولندي، كما عمل مع المخرج الإيطالي الكبير روسيلليني، وذلك في
فيلم عن الحضارة، ومع كل هذا الزخم تأججت أكثر رغبته في العمل بالإخراج.
حسنًا. هنا لا يرواغنا حسن حداد تحت ضغط أنه يسرد مشوار شخصية عظيمة، فالشخصية التي
اختارها نعرفها ونجهلها في ذات الوقت، يبدو صاحبها في نظر نقاد كثيرين أنه صاحب
طريقة، مع أنه لا أراد يومًا أن يكون نجمًا ولا أن يصطحب هذه الطريقة، ما اشتغل
عليه كان في إطار تجربة تتجاوز بكثير الكلام النقدي والاصطلاحي حولها، المذهل فيها
هو هذا العالم شديد الثراء والتنوع، واكتشاف المتع الكبرى في التعبير الفني، لعل
هذا ما يتتبعه حداد في تسليطه الضوء على مسيرة "المومياء" منذ استهلالها كفكرة في
رأس شادي واستغراقه في كتابة السيناريو عامًا ونصف العام، وانصرافه عن الديكور
بالرغم من مروره بأزمة مالية قاسية، ثم مشوار البحث عن مصدر لإنتاجه وتنفيذه،
يأخذنا الكتاب إلى مراحل تصوير "المومياء" خطوة.. خطوة، ويخبرنا أنه لم يكن هناك
فرصة للصدف أو الارتجالات، فهذا ليس من شيم شادي أو خصائله:" (...أذهب لوحدي إلى
أماكن التصوير، وأصورها بالفوتوغرافيا، حتى يصبح كل شيء واضح تماماً في ذهني...)،
لقاءاته مع مدير التصوير عبد العزيز فهمي والكاتب علاء الديب واختياره للألوان حسب
دلالتها الدرامية، يقتبس الكتاب أحد مقولاته عن واحد من مشاهده المدهشة والمثيرة
للجدل:"(...النقطة السيكولوجية عندي في هذا المشهد هي ارتباط الشاب بأبيه الذي لم
نره، وبالتالي لم نتعرف على مشاعر الابن نحوه، وليس هناك حوار يدل على هذه المشاعر،
فالمشهد كله صامت، إنما هناك اللحظة التي تصور وجه الابن ورأسه ينحني حزنًا على قبر
أبيه، فنرى الأرض من وجهة نظره مغطاة باللون البنفسجي، وهو لون الورد المفروش على
القبر، وعن طريق هذا اللون وحده، أردت أن أعبر عن العاطفة التي تربط بين الابن
وأبيه...)، كل هذه التفاصيل يرصدها حداد في كتابه هذه كنوع من إنارة الدلالات حول
سينمائي محترف، دقيق الملاحظة، مفرط الشفافية والعمق في آن واحد.
يواصل حداد تتبعه مسيرة "المومياء" الحافلة بالتساؤلات والسجال النقدي المتفاوت بين
التأييد والمعارضة، بما وصفه بأنه عاصفة كادت تفقد شادي توازنه النفسي لولا وجود
النقد المخلص، حسب توصيفه أيضًا، الذي وقف إلى جانبه ورد إليه الثقة في نفسه، وتتبع
كذلك مشاركة الفيلم في المهرجانات السينمائية الدولية، وحصوله على العديد من
الجوائز.. وفي هذا الصدد لم يتوقف الكاتب عند تجربة "المومياء" فقط، على اعتبار أنه
الفيلم الروائي الطويل والوحيد في رصيد صاحبه والساطع عالميًا، كذلك لم يٌقصر شادي
في حق السينما بعد "المومياء"، بل واصل توغله في التاريخ المصري القديم، وهو ما
يرصده الكتاب، وقدم "شكاوي الفلاح الفصيح" فيلمه القصير المستوحى من بردية فرعونية
عمرها أربعة آلاف سنة، وأربعة أفلام تسجيلية قصيرة: (آفاق ـ 1974)، (جيوش الشمس ـ
1976)، ثم فيلم عن إحدى القرى الصغيرة التي تقع بالقرب من معبد "أدفو" في أسوان،
فيلم مدته ثلاث دقائق ونصف عن ترميم واجهة بنك مصر، وسلسلة طويلة من الأفلام
التعليمية الثقافية، مزيج من التسجيلي والروائي بدأها بفيلم (الكرسي)، والذي يسجل
فيه ترميم كرسي "توت عنخ آمون"، هذا غير إعداده لفيلمه المتعثر (أخناتون).
اشتغال حسن حداد على تجربة شادي عبد السلام ينبثق من اكتراث ثقافي وفكري بالكتابة
عن حالة سينمائية، تطرح أسئلة وتُثير قضايا وتصنع صورًا فيها البهاء ما يستفز
الناقد، وهنا يكون للنقد أيضًا منجزًا ومساحة نقاش وحوار توازي المنجز الإبداعي
ويكون للناقد صوتًا يُضاف إلى الحالة الإبداعية إجمالًا بتساؤلاته وتأملاتها، لعل
هذا الاكتراث هو ما جعل حداد لا يكتفي بسرد رحلة شادي ورصد أفلامه والجوائز التي
حصلت عليها هذه الأفلام، إنما أردف بكل ذلك مقتطفات من حوارات وكلمات لصاحب التجربة
تنسجم مع الإغواء الذي اتسع ليشمل المخرج الفطن والناقد اليقظ، إضافة إلى لمسات من
النقد والتحليل لفضاء وارف ورحب، أقرب إلى طريق تجريدي يحتاج بوصلة للوصول وربما
تجديد المعنى، لمسات هي في حد ذاتها نوع من التنوير سواء على فيلم "المومياء" أو
صاحبه ومهارته المشهرة، وإن اختتم الكتاب بعمل بروفايل يُكثف التجربة والمشوار،
فهذا رافد تكتمل به الكتابة بموازاة الفيلموغرافيا التي شملت أعمال شادي عبد السلام
مخرجًا، كاتبًا، مهندسًا للديكور، مصممًا للمناظر والملابس، فضلًا عن القسم الذي
احتوى صور أفلامه، والجزء الخاص بالـ "ملتيميديا" الذي تضمن روابط أفلامه وبرامج
تحكي عنه.
في حضرة شادي عبد السلام وأفلامه ينطق الجمال والحماس، إنه الإيقاع الذي تنبه له
حسن حداد ورافقه في هذا الكتاب، وهو يقدم لنا قراءة تفكيكية لسينمائي ذي مفردات
خاصة، صنيعه ومساره المهني ووعيه الثقافي والجمالي والمعرفي والبصري، قراءة تُفسر
الهالة التي تُحيط به تحصّن النقد وتؤكد فكرة أن الكتابة النقدية هي حوار وتواصل
ثقافي ممتد، وأن هذا أمر ضروري كي يصنع تكاملًا بين صناعة السينما ومُشاهدتها
وبالطبع الكتابة عنها.
بقلم ناهد صلاح.
*إهداء من حسن حداد
الى علا حداد.. ابنتي
التي ما ان تحضر حتى اشعر بان المشهد اكتمل..
تستجيب لها الطبيعة وينحني امامها المستحيل.
هي وردة القلب، علاج عزلتي..
تضع كفها الطري على جبيني فاعرف انني في امان.
شكرا لانك هنا دائما" |