عندما دعاني صديقي رئيس التحرير محمود الغيطاني للمشاركة في ملف
خاص عن الدين والفن للعدد القادم من مجلتنا (نقد21).. طرح علي هذه
الأسئلة: كيف تناولت السينما الدين، وكيف تعاملت معه، والعلاقة بين
الإثنين.
ولكنني وجدت أنه من الصعوبة البحث عن أفلام بعينها ناقشت مثل هذه
الثيمة أو العلاقة بين الدين والفن.. فهذا الموضوع ربما جاء في
الكثير من الأفلام، ولكنه لم يكن الموضوع الأساسي لتلك الأفلام،
ربما كانت وجهات نظر وآراء مرت أو ذكرت في ثنايا تلك الأفلام...
إنما الدين كموضوع، فهذا من الصعب مناقشته، تحاشياً لأية رقابة،
رسمية كانت أو شعبية.
لذا حاولت اللجوء للذاكرة وأرى إن كانت هناك أفلام تناولت الدين من
هذا المنطلق.. فلم أجد غير نوعين من الأفلام... أفلام تاريخية
دينية، أي تلك الأفلام التي بشرت بالأديان وتعاليمها وتاريخها، مثل
(فجر الإسلام)، و(الناصر صلاح الدين) أو (مملكة السماء).. أما
النوع الثاني، فهو الذي تناول ضاهرة الإرهاب والتطرف الديني، مثل
(دم الغزال)، (الجنة الآن)، أو (طيور الظلام).
فجر الإسلام ـ
1971
بطاقة الفيلم
محمود مرسي + نجوى إبراهيم + يحيى شاهين + عبد الرحمن علي + سمحية
أيوب
قصة وحوار: عبد الحميد جودة السحار ـ سيناريو: عبد الحميد جودة
السحار, صلاح أبو سيف ـ تصوير: عبد العزيز فهمي ـ مناظر: عبد
المنعم شكري ـ موسيقى: فؤاد الظاهري ـ مونتاج: حسين عفيفي ـ إنتاج:
المؤسسة المصرية العامة للسينما
فيلم (فجر الإسلام ـ 1971) من الأفلام التاريخية والدينية الهامة
في السينما المصرية.. فيلم أصبح من بين كلاسيكيات هذه السينما..
فيلم يتكرر عرضه مع أغلب المناسبات الدينية على مدار كل عام. قام
بإخراج هذا الفيلم الفنان الكبير صلاح أبو سيف، ومثل فيه كل من:
محمود مرسي، سميحة أيوب، يحيى شاهين، وحشد كبير من الممثلين
والكومبارس.
قصة الفيلم تصور ما كان عليه الناس في الجاهلية من انحلال خلقي
وانحطاط عقلي وسيطرة للخرافات، إلى أن ظهر الدين الإسلامي في مكة،
وكان من بين من آمن به ابن شيخ قبيلة من القبائل الواقعة بين مكة
والمدينة، والذي بدوره راح يدعو قبيلته إلى هذا الدين الجديد.
حينها قام صراع بين الجيلين الجديد والقديم، الجيل الذي يتطلع
للنهوض بالحق والجيل الذي يتمسك بالقديم الباطل.
كتب القصة والسيناريو للفيلم الأديب عبد الحميد جودة السحار، وكان
السحار يكتب في السيرة النبوية والدراسات الإسلامية منذ أكثر من
ربع قرن، دارساً ومحللاً وروائياً، مما جعل (فجر الإسلام) ليس
فيلماً على المستوى الروائي فحسب، وإنما على مستوى الدراسة العلمية
التاريخية السليمة.
أما إنتاج الفيلم ، فقد مر بمراحل كثيرة حتى ظهوره على الشاشة. فقد
فكر الفنان مدير التصوير عبد العزيز فهمي في إنتاج هذا الفيلم قبل
خمس سنوات من تنفيذه، وذلك عندما وضع له ميزانية قدرها ثمانين ألف
جنيه مصري. وبالرغم من ضخامة هذه الميزانية حينها، إلا أنها لم
تسعفه على إنجاز هذا الفيلم حسب تصوراته كفنان. فاستعان بمؤسسة
السينما، والتي بدورها وضعت للفيلم ميزانية قدرها مائة وعشرون
ألفاً، وأسندت إخراجه في البداية للمخرج عاطف سالم. وبدأ التصوير،
لولا أن حادث تصادم قد وقع للمخرج، فرأت المؤسسة إسناد الإخراج
لصلاح أبو سيف، الذي بدأ العمل من جديد، بعد أن رأي بأن يعيد النظر
في بعض الأدوار، وإدخال بعض التعديلات على السيناريو.
(فجر الإسلام) هو أول فيلم ديني أو تاريخي يخرجه صلاح أبو سيف، حيث
عرفناه مخرجاً واقعياً من قبل، في أفلام مثل الوحش، الفتوة، بداية
ونهاية، وغيره من الأفلام التي يعالج فيها واقعاً اجتماعيا أو
سياسياً يمس قضايا مصيرية هامة في أحيان كثيرة. أما في (فجر
الإسلام) فيقدم موضوعاً جديداً عليه، موضوعاً عن ظهور الإسلام
والصراع بين المسلمين والمشركين، هذا الصراع التقليدي الذي شاهدناه
في أفلام ودراما تليفزيونية كثيرة. ولكن أبو سيف في فيلمه هذا اتبع
أسلوباً جديداً في تناوله لهذا الصراع، حيث جعله رمزاً لكل صراع
بين التخلف والتقدم، وركز فيه على المعاني الإنسانية النفسية
والاجتماعية في الفيلم، كما أنه اختار الممثلين في أدوار تتفق
وإمكانياتهم وقدراتهم الفنية والأدائية، ونجح في إدارتهم وإدارة
جميع من معه من فنيين، وعلى رأسهم ـ بالطبع ـ الفنان الكبير عبد
العزيز فهمي، والذي ساهم بشكل كبير وهام في إظهار الفيلم على ما هو
عليه من مستوى فني جيد. فقد استخدم ـ هذا الفنان العبقري ـ الألوان
بقيمتها الدرامية وليس فقط قيمتها التصويرية الوصفية، وعبر بالصورة
ـ وبشكل خلاق ـ عن الحدث والدراما الداخلية للأحداث والشخصيات. كما
أبدع كادرات سينمائية قوية ذات تكوينات جمالية موحية ومعبرة، وأضاف
بهذا الفيلم الكثير إلى تقنية الصورة في السينما المصرية.
القادسية
ـ
1981
بطاقة الفيلم
عزت العلايلي + شذى سالم + سعاد حسني + محمد المنصور + ليلى طاهر
قصة: عبدالحميد جودة السحار + علي أحمد باكثير + أحمد عادل كمال –
سيناريو: محفوظ عبدالرحمن + صلاح أبوسيف – تصوير: مصطفى إمام +
عبداللطيف صالح
فيلم "القادسية" يدور حول المعركة التاريخية التي دارت رحاها بين
العرب المسلمين وبين الفرس سنة 627 ميلادية، ويعتبر الفيلم أكبر
إنتاج عربي تاريخي عند إنتاجه، حيث وضعت له ميزانية قدرها مليونا
دينار عراقي، في حين أن أكبر إنتاج في تاريخ السينما العربية كان
لفيلم "الناصر صلاح الدين" الذي أخرجه "يوسف شاهين" وكانت ميزانيته
مئة وسبعين ألفاً من الجنيهات المصرية.
بدأ الفيلم كفكرة ـ كما يقول مخرج الفيلم ـ في فبراير 1978، وانتهى
في مارس 1981، واستغرق التصوير تسعة شهور فقط.
و(القادسية) فيلم يثقله التطويل، بسط فيه السيناريو فكان أقل من
مستوى حدث تاريخي كمعركة القادسية. وجاءت الشخصيات فيه أحياناً
مسطحة وجامدة، فعزت العلايلي في دور (سعد بن أبي وقاص) كان بعيداً
عن قوة أدائه في "الأرض" و"السقامات"، كذلك سعاد حسني في دور
(شيرين) كانت رديئة في دور لم يكن يحتاج إلى نجمة السينما المصرية
الأولى.. بينما برزت العراقية شذى سالم في دور (زوجة سعد) لأول مرة
على المستوى العربي والعالمي، كذلك الكويتي محمد المنصور في دور
(أبي محجن) أعطى للدور كل ما يستحقه وأثبت أنه فنان قدير.. أما
بقية الشخصيات فكانت في منتهى الجمود.
الجزء الأول من الفيلم لم نر فيه مشهداً واحداً يشدنا، وإنما يغلب
عليه التطويل في استعراض الديكورات الضخمة لإيوان كسرى.
أما الجزء الثاني منه فكان أكثر إثارة، حيث عرض لنا المعركة التي
دامت ثلاثة أيام وليلة بإثارة وحماس. وكان التصوير هو سيد المعركة
بكل تفاصيلها من خلال اللقطات الكبيرة واللقطات العامة.
إلا أن فيلم (القادسية) قد خيب آمال كل من شاهده وخصوصاً أنه من
إخراج صلاح أبوسيف الذي كان يستحق لقب أستاذ الواقعية في السينما
المصرية. فهو بعد تجربته الأولى لمثل هذه الأفلام في (فجر الإسلام
– 1971) الذي لم يلق إقبالاً لا من الجماهير ولا من النقاد.. يبقى
أن نقول.. لماذا؟ أو ما الجدوى من الغرق ثانية في الإنتاج التاريخي
الواسع الذي لا يلائم مخرجاً سينمائياً برهن على مقدرة أكيدة في
الأجواء الشعبية الحميمية.
يبقى هذا الفيلم نقطة تحول ليس في مسيرة أبوسيف، وإنما في سجل
السينما العربية.. ويدخل في نطاق التاريخ والتوثيق أكثر منه في
قطاع السينما العام.
Kingdom of Heaven - 2005
بطاقة الفيلم
تاريخ العرض الأول: 6 مايو 2005 ـ النّوع: أكشن/ دراما/ مغامرات -
التقدير: R ـ
زمن العرض: 145 دقيقة ــ بطولة: أورلاندو بلوم، إيفا غرين، جيرمي
إيرونز، ديفيد ثيوليس، بريندان غليسون ـ إنتاج: برانكو ليستنغ،
ليزا إليزي، تيري نيدهام ـ توزيع: أفلام كولومبيا ـ شباك التذاكر
الأمريكي: $47,396,698 ـ
إخراج: ريدلي سكوت.
الضجة التي صحبت فيلم (مملكة السماء).. جاءت مختلفة إلى حد كبير
بين مؤيد ومعارض، من العرب والمسلمين من جهة والغربيين من جهة
أخرى.. فقط لنتخيل بأن هناك معارضين من العرب والمسلمين أيضاً..
بالرغم من الحياد الواضح الذي نطقت به أحداث هذا الفيلم.. ترى ماذا
سيكون رد الفعل العربي إذن، لو أن الفيلم جاء على شاكلة أفلام
هوليوود السابقة التي تناولت العرب والمسلمين..؟! هل سيكون هناك من
يعترض على ذلك..؟! بالطبع سيكون الأمر مختلف.. والغالبية ستعتبر
هذا الأمر ليس جديداً على مصانع هوليوود.
حضور فيلم يوسف شاهين (الناصر صلاح الدين) كان طاغياً، أثناء
مشاهدة فيلم (مملكة السماء).. ففيلم شاهين طبع في الذاكرة صورة
البطل صلاح الدين وكأنه أحمد مظهر.. وهذا الاستحضار جاء تلقائياً
نتيجة لأن تاريخ السينما العربية لم يجسد صورة هذا البطل المسلم
إلا مرة وحيدة.
عموماً.. لابد من الإشادة أولاً إلى ملحمية هذا العمل الكبير، الذي
جاء من مخرج عالمي يعد من بين أهم مائة مخرج في تاريخ السينما
العالمية، وهو البريطاني ريدلي سكوت.. هذا العاشق المتأمل للسينما
الملحمية وأفلام الخيال العلمي ليقدم من خلالها ابتكارات تقنية
وتكنولوجية.. أفلامه تؤكد أحقيته في أن يخلف مواطنه العبقري "ديفيد
لين" صاحب "لورانس العرب".. شاهدنا من قبل لصاحب (مملكة السماء)
أفلاماً مثل (The Duellists - Blade Runner - Black
Rain - Gladiator -Hannibal).
أحداث فيلمنا هذا تتناول الفترة ما بين الحرب الصليبية الثانية
والثالثة (مطلع الألفية الثانية).. والتي انتهت بهزيمة الصليبيين
على يد القائد صلاح الدين الأيوبي (أداه بجدارة السوري غسان
مسعود).. والذي يقدمه الفيلم في صورة القائد الشهم المتسامح
والنبيل.. في مقابل بطل الفيلم المسيحي باليان (أورلاندو بلوم)
الذي جاء إلى القدس ليتطهر من ذنوبه، لكن الظروف تجعله يواجه صلاح
الدين في حصاره ومعركته الأخيرة.
يقول الممثل أورلاندو بلوم الذي مثل دور بطولة في فيلم سيد الخواتم
والذي يلعب دوراً بطولياً في فيلم مملكة السماء: "إن تجربة
العمل في فيلم مملكة السماء غيرت حياتي بالكامل. أظن أنني قد
ازددتُ نضجا". وما من شك في أنه أصبح أكبر حجما إذ تعيّن عليه أن
يزيد وزنه 10 كيلوغرامات ليقوم بدور باليان الحداد الذي يُرفّع إلى
طبقة الفرسان.
أما سكوت، فيقول في هذا الشأن: "لقد استطعنا تصفية الكثير من
الشوائب التاريخية وحققنا قدرا عاليا من التوازن. فأي كاتب جيد
يعتمد في إبداعه على البحث الجاد في الحقائق التاريخية، ويضفي على
بحثه هيكلية ما، ثم يخلق من كل هذا ما يعتقد أنه يمثل الحقيقة. إني
أحاول ما بوسعي أن أكون دقيقا من الناحية التاريخية. وإذا ما فاته
أمر ما، فعليك أن تتذكر أن هذا مجرد فيلم".
ريدلي سكوت في فيلمه (مملكة السماء) شغلته فكرة هامة، وسيطرت على
تفكيره.. وجعلتنا أيضاً نسجل احترامنا لها وله كفنان صاحب فكر بل
وشجاع في طرحه الفكري هذا دون اهتمامه فقط بالفكرة التاريخية.. جل
اهتمامه كان منصبا على الإنسان الذي يعلو فوق كل شيء حتى ولو كان
ذلك على حساب المقدس من الأديان جميعها.. فالفيلم بكل أحداثه ينتصر
لقيمة الإنسان قبل أي شيء.. لا يقدم لنا أحداثاً تاريخية بالمعنى
الحقيقي، بل ينطلق من نقطة في التاريخ ليتخذها ركيزة أساسية يبدأ
بها.. الفيلم يقدم لنا وجهة نظر المخرج الذي يسقطها على الأحداث من
خلال التاريخ.. ولا يلتزم حرفياً بالأحداث التاريخية، باعتبار أن
الفيلم غير مطالب بكل ما هو حقيقي وواقعي.. وذلك لإضفاء صفة
الإبداع والرؤية الفنية الخاصة لصانع الفيلم.
إضافة إلى هذه الفكرة الشجاعة.. هناك معارك ملحمية أدارها سكوت
بتكنيك يخطف الأبصار.. مؤكدا ما شاهدناه سابقاً في فيلمه (Gladiator)،
خاصة المعركة التي تجسد سقوط القدس على يد صلاح الدين والمسلمين،
والتي ستبقى في الذاكرة السينمائية ضمن كلاسيكيات السينما
العالمية.. حيث نجح ريدلي سوت في إعطائها صفة الجمال والعظمة دون
أن يسقط في فخ التعبير التجاري الاستهلاكي.
لقد تمّت الاستعانة بحوالي 1,500 جندي مغربي في تصوير المعارك. وتم
بناء عدد من الأبراج كجزء من معارك الذروة التي تدور على أبواب
القدس، كما أنه ضاعف من استخدام الرسومات الكمبيوترية لجعل المشاهد
أكثر مواءمة لحقبتها التاريخية.
مشاهد كثيرة رائعة تجعلنا نعلن صراحة بأننا أمام مخرج كبير..
يذهلنا استخدامه لتقنية الإضاءة، تلك الإضاءة التي اقتربت من
الإظلام والضبابية المتعمدة، للإيحاء بالجو النفسي الكئيب للحدث..
ذلك الحدث الذي يقسو على الإنسان ويستبيح دمه تارة باسم الدين
وتارة أخرى باسم الثروة والنهب.
دم الغزال
ـ
2005
بطاقة الفيلم
تاريخ العرض الأول: 2005 ـ البلد: مصر ـ النّوع: دراما/ اجتماعي/
سياسي – زمن العرض: 120 دقيقة ــ إخراج: محمد ياسين ــ قصة
وسيناريو وحوار: وحيد حامد ـ مدير التصوير: محسن أحمد ـ موسيقى:
عمر خيرت ـ تمثيل: نور الشريف، منى زكي، صلاح عبدالله، يسرا، محمود
عبدالغني، عمر واكد، عبدالعزيز مخيون.
يتناول فيلم (دم الغزال) موضوعاً مخالفاً لما طرحته أفلام السوق في
نفس الموسم.. فيلم يقدم قضية التطرف والإرهاب.. وهو موضوع قديم
ومطروح منذ سنوات على الساحة السينمائية والتليفزيونية.. حتى أن
كاتب السيناريو نفسه (وحيد حامد) قد تناوله في أفلام (الإرهاب
والكباب، طيور الظلام) وفي مسلسل (العائلة).. وهو هنا في فيلمه
الجديد يتناوله مرة أخرى ليحكي أحداث قصة حقيقية وقعت في حي إمبابة
الشعبي.. حي عتيق من أحياء الجيزة، الملاصقة للقاهرة، وتحكي أحدث
الفيلم عن عالم الفقراء والمهمشين ليكشف عن انفعالاتهم وإحباطاتهم
ويسلط الضوء على مجتمع مليء بالمتناقضات من مشاعر وأحاسيس، تلك
التي تختفي وراء أكوام من القمامة والمخلفات والجريمة والهمجية
التي تسيطر على المكان والزمان.. يحكي لنا الفيلم عن أناس يعيشون
في الجانب المظلم من الحياة.. مجاميع بشرية هائلة تضطرهم ظروفهم
ليكونوا مهمشين.. في مجتمع عشوائي..!!
في ظل مجتمع كهذا، سهل التشكل والقيادة.. من الطبيعي وقوعه تحت
سطوة شاب متهور تحول إلى متطرف ديني ومن ثم حمل السلاح بدعم من
الجماعات الإسلامية، بعد أن استولت على الحي واعتبرته دولة مستقلة،
يطبقون فيها حدود الشريعة الإسلامية، في وضح النهار، على الحي
وناسه، إلى أن انتبهت الدولة وحررت الحي وسيطرت على الوضع، ولكن
بعد ذهاب الكثير من الضحايا..!!
هذا ما أراد وحيد حامد والمخرج محمد ياسين أن يقولاه من خلال
فيلمهما (دم الغزال).. ولكن الأهم في الفيلم تلك العجينة المذهلة
التي شكلت شخصيات الفيلم.. والتي نجح حامد في إعطائها روح درامية
جديدة.. أعطاها الكثير من التفاصيل لتبدو مليئة بالمعاني والرموز
والإيحاءات.. شخصيات مرسومة بعناية فائقة تشعر بها وتتعايش مع
معاناتها.. شخصيات من لحم ودم استطاعت انتزاع إعجاب المتفرج
وتعاطفه.. أغلبها شخصيات مهمشة، خصوصاً تلك الشخصيات الثانوية التي
أعطت للأحداث دفعة قوية من الشحنات والمشاعر الإنسانية الفائقة
الحميمية..!!
فجابر عميش (نور الشريف) رجل كهل موظف على المعاش يعيش لوحده على
سطح عمارة شبه متهاوية، يربي الحمام ويسعد مع أسرابها، عندما
يرسلها في السماء لتطير وتعود إليه مرة أخرى. وهو يعيش أيضاً كذبة
عندما يدعي بأنه يتلقى إيراد أملاك له ليتعيش منها، وينفق منها على
كل من يحتاج من محيطيه.. فالحقيقة هي أن هذا المال يأتيه من مهنة
غريبة يجيدها تماماً.. فهو يلقي بجسده أمام السيارات المسرعة، ومن
ثم يقبل بتعويض مادي، بعد خروجه بأقل الأضرار.. وتكون نهايته تحت
عجلات سيارة سائق متهور، ولكن هذه المرة دون قصد منه.
أما شخصية عبده (صلاح عبدالله)، فنجده ذلك الإنسان البسيط والطيب
القلب، تلك الطيبة التي تقوده إلى ارتكاب أخطاء لا يعيها ولا
يدركها.. لنشاهده يتصرف ببراءة الأطفال.. يعيش هو وزوجته على راتبه
من العمل جرسوناً في نادي أرستقراطي.. وبالرغم من هذا فهو الذي
يأوي الفتاة اليتيمة "حنان" مع فقده لابنته..!! كما أنه يساعدها في
إيجاد عمل كخادمة لدى سيدة ارستقراطية في فندق ضخم.. معتقداً بأن
هذا سيساعدها على الهرب من الحارة ومن مطاردة البلطجي والطبال
اللذين يتنازعان عليها.
وتؤدي يسرا شخصية السيدة الغنية من الطبقة الأرستقراطية التي تدير
النادي الصحي، وتحاول أن تتغلب على معاناتها في حرمانها من ابنها
الوحيد من طليقها رجل الدولة وصاحب النفوذ والسلطان.. وتقبل بأن
تعيش حنان في منزلها، ليس فقط لمساعدتها، وإنما لتساعدها على تحمل
تلك المعاناة الصعبة.. ولتتكون تلك الألفة بينها وبين حنان
وتعتبرها كابنتها.
شخصيات فيلم (دم الغزال) الثانوية كثيرة، ملء بها وحيد حامد
الفيلم، وهي شخصيات أغنت السيناريو وأعطته مذاقاً خاصاً.. جميعها
بالتأكيد تدعم مصداقية الشخصيات الرئيسية الثلاث وتزيد من تألقها..
حنان (منى عبدالغني)، ريشه الطبال (محمود عبدالغني)، وعاطف البلطجي
(عمرو واكد).
عاطف البلطجي (عمرو واكد) يسيطر على أفراد الحي ويتحكم بمصائرهم
بإجرامه وجبروته.. شخصية تعد نتاجاً طبيعياً لحالة الفوضى
والعشوائية التي يعيشها أفراد الحي الشعبي الفقير.. نراه يجبر زوج
حنان على تطليقها في السجن، حتى يتسنى له التقرب منها. عمرو واكد
في هذا الدور يؤكد قدراته ورشاقته في تجسيد البلطجة والدهاء
والوحشية.
ريشة الطبال (محمود عبدالغني)، يقدم دور الطبال الذي يعشق حنان حتى
بعد زواجها.. وتكشف لنا هذا نظراته المليئة بالرغبة والشبق.. نظرات
من عينين تشعان بالحب والثورة والقسوة.. نراه لنيل مبتغاه، يتجه
للجماعات الإسلامية وينصب نفسه أميراً على الحي يحكم وينهي بحكم
الدين، وينتقم من أعداءه وتصفية حساباته معهم باسم الدين.. دون
مراعاة لأي شيء، المهم الوصول إلى ما يطمح إليه، حتى لو استدعى ذلك
القتل.
وحدها حنان.. الفتاة الشفافة المغلوبة على أمرها والبريئة من كل
هذه الفوضى، نراها منذ اللحظة الأولى منقادة لأقدارها ومنساقة لما
يرتب لها أصدقاء والدها من تدابير لحمايتها من الطامعين فيها.. وهي
شخصية محورية تدور حولها جميع الشخصيات.. وكأن وحيد حامد يمثل بهذه
الشخصية الوطن نفسه.. المجتمع بكامله وما يدور به من فوضى
ومعاناة.. تلك الفتاة اليتيمة التي لم تكمل تعليمها، وتقبل الزواج
بمن لا تحب، بعد أن ملت نظرات العطف والشفقة المتجهة نحوها من كل
صوب.. وهي عندما تخرج من الحي الشعبي إلى عالم جديد وزاهي مليء
بالبهرجة والزيف المستتر، لا تعرف كيف تتعامل معه وتواجهه.. ويتجسد
ذلك بشكل بليغ في مشهد خروجها من الحي وهي ممسكة بيد صديق والدها..
لتظهر معالم الحي في خلفية الكادر وتبين تفاصيل الشارع والأزقة
المزدحمة والصاخبة.. نراها تلقي بنفسها في هذا العالم الجديد مثلما
يلقي عاشق البحر نفسه بين الأمواج دون إدراكه لإمكانية العوم..
تتقاذفها موجات وشحنات عاطفية واجتماعية ونفسية في أعماق ليس لها
نهاية.. ولكن رغم كل هذا، فهي الشخصية الوحيدة التي تمثل الجزء
المشرق والإيجابي في ظل البراءة المفقودة في جميع الشخصيات المهمشة
التي تعيش هذه الفوضى.. وهذا ما جعلها هدفاً للجميع.
تلك الشخصيات الرئيسية والثانوية التي عاشت أحداث الفيلم وتفاعلت
معها.. والتي صاغها وحيد حامد في سيناريو محكم ومحبوك ينطوي على
حوار لماح ولاذع مليء بالمعاني والإيحاءات.. هذه الشخصيات نجح
المخرج محمد ياسين في التعامل معها بكاميرا حساسة وإضاءة درامية
موحية وموسيقى معبرة إلى أقصى درجة من درجات التعبير الدرامي.. نجح
في إدارة فريقه الفني بكامله ليعطينا معزوفة رائعة تتعامل مع
المشاعر والأحاسيس أكثر منها مع العقل.. بقض النظر عن موضوع الفيلم
الجريء الذي تناوله السيناريو.. الفيلم يشكل سيمفونية للشخصيات
والتفاصيل الصغيرة المهمة.
محمد ياسين.. في ثالث أفلامه الروائية الطويلة (محامي خلع، عسكر في
المعسكر).. يبتعد كثيراً عن الكوميديا التي قدمها فيما سبق.. ليؤكد
بأنه مخرج متميز يعرف كيف يتعامل مع شخصيات وحيد حامد المليئة
بالروح الاجتماعية والنفسية.. شخصيات جعلها تنبض بالواقع المعاش..
وتقدمه كواحد من أبرز مخرجي السينما المصرية الشباب..!! وتأتي جميع
الجوائز التي حصل عليها الفيلم لتؤكد على تميز الفيلم عن بقية
أفلام الموسم.
الجنة الآن
(2004)
Paradise Now
بطاقة الفيلم
تاريخ العرض الأول: 28 أكتوبر 2005 ـ البلد: فلسطين ـ النّوع:
دراما/ سياسي - التقدير: PG-13 ـ
زمن العرض: 90 دقيقة ــ بطولة: قيس ناشف، علي سليمان، لبنى عزابي،
أمير حلحل، هيام عباس ـ إنتاج: بيرو بيير، هينغاميه باناهي، أمير
حاريل ـ توزيع: أفلام وورنر إندبندينت ـ شباك التذاكر الأمريكي: $1,452,402 ـ
إخراج: هاني أبو أسعد.
مباغت وصادم هذا الفيلم الذي شاهدناه متأخراً.. مدهش هذا الحلم
السينمائي الذي طغى على حواس أبت إلا أن تحتفي به.. ساحر ما فعله
أبو أسعد بنا، ونحن نتابع فيلمه الأخير "الجنة الآن".. عيون تراقب
بحذر.. أنفاس تتلهف وتتوقع وتحلم.. إلا أن ما قدمه من مشاهد
ولقطات، قد فاق أي توقع.
المتفرج عاش حالة من الترقب لفيلم وصل صيته إلى معاقل هوليوود.. بل
وحصل على الغولدن غلوب، وترشح للأوسكار كأفضل فيلم أجنبي. هذا..
بعد أن حصل على جائزة أفضل فيلم أوروبي (بلو إنجيل) في مهرجان
برلين الدولي 2005.. وبعد أن طاف أغلب دول العالم (ألمانيا،
بلجيكا، فرنسا، فنلندا، النمسا، اليونان، أسبانيا، الولايات
المتحدة الأمريكية، هولندا، المجر، إيطاليا، استراليا....)، وعرض
في أبرز مهرجاناتها.. من برلين (انطلاقته الأولى)، إلى كارلو
فيفاري، ثم تليورايد وتورنتو، إلى نيويورك ودبي والقاهرة.
نبدأ من المشهد الأخير في الفيلم، مع تلك اللقطة التي تركز على عين
"سعيد" بحركة زوم، وهو في باص وسط حشد من الجنود الإسرائيليين، ومع
انتظار سماع صوت الانفجار وأشلاء الجنود تتطاير.. إلى أن ينتهي
المشهد بشاشة بيضاء تشير إلى حالة العدمية التي كان يعيشها
"سعيد"... ومع انتهاء هذا المشهد.. مع هذه الشاشة البيضاء، نشعر
بأنفاس المتفرج وانتظاره وهو متسمر في مقعده.. بل وحاملاً معه
تساؤلاته إلى خارج الصالة.. ماذا فعل هذا الـ"سعيد".. هل فجر
نفسه..؟! هل نجح؟!
إذن.. كيف لأي متفرج، أن يتجاسر ويلتفت يميناً أو يساراً.. خوفاً
من أن تفوته لحظة الموت المرتقبة.. هذا ما جعل من الفيلم، قطعة
فنية متكاملة تجسد لحظات الخوف والترقب لدى أي متفرج، عربياً كان
أو أجنبي.. هؤلاء الذين ملئوا تلك القاعة الصغيرة.. ملئوها بالرغبة
في التعرف على فيلم يقدم لهم حواراً جدلياً حول أحقية عمليات
الاستشهاد من عدمها.. فيلماً يحاول أن يقدم الأسئلة، وليس الإجابة
عليها.. كما هي حالة الفن الأصيل.
الفلسطيني هاني أبو أسعد في "الجنة الآن".. نجح في تخطي حاجز
الخوف، وخرج عن السيطرة الإيديولوجية العربية، التي سيطرت على
الفيلم الفلسطيني عقود من الزمن.. نراه ـ ككاتب سيناريو ـ يحرر
فيلمه من أية إدانة أو ترويج، ويبتعد عن الدعاية أو الخطابية أو
الاستعراض.. هذا إضافة إلى أنه لم يساير النظرة الغربية للقضية
الفلسطينية، بالرغم من إنتاج الفيلم الغربي. كما أنه نحج في تحاشي
ذلك الإبهار السينمائي على حساب الفكرة والمضمون الذي أراد طرحه.
نجح أبو أسعد في تقديم معالجة سينمائية تتحدث عن المشاعر والأفكار،
من خلال سيناريو بسيط ومركز، مبتعداً عن أي حشو درامي، ومتخذا من
التشويق عنصراً مهماً لمتابعة مصائر شخصياته متأملاً تلك القضية
الخطيرة التي طرحها الفيلم. ويتخذ من السرد الدرامي عنصراً آخراً
لتقديم أجواء الحياة في نابلس وفي إسرائيل، في لقطات سريعة ولماحة.
بالأمس كان الفيلم الفلسطيني "يد إلهية".. قد أثار هذا الفرح في
نفوس العرب من جراء شهرته في كل بقاع الأرض.. وهو الفيلم الذي
استبعد عن جوائز الأوسكار بحجة أن فلسطين ليست دولة معترف بها في
الأمم المتحدة. واليوم يأتي فيلم فلسطيني آخر ليفعل أكثر من ذلك..
"الجنة الآن" فيلماً استثنائياً بحق.. فيلم يستحق كل هذه الحفاوة
والتقدير اللذان حضي بهما.
فشخصيتي الفيلم الرئيسيتين.. "خالد" و"سعيد"، صديقان يجمعهما الفقر
والهموم المشتركة، وهما يعملان في ورشة لتصليح السيارات.. لا
يقدمهما الفيلم منتميان لأي فصيل سياسي، ولا هم ينتمون للتيار
الديني.. إنهما يقدمان نفسيهما فداء لفلسطين، الأول عن قناعة تامة
بما يفعله، والثاني هرباً من ذنب ارتكبه والده العميل
للإسرائيليين، بعد تصفيته من قبل المقاومة. الاثنان يقدمان صورة
حقيقية للإنسان الفلسطيني البسيط، الذي يعاني من أزمات كثيرة سببها
تلك التربية الاجتماعية والأخلاقية والدينية المستمدة من التقاليد
والعادات الراسخة في الوجدان العربي.. يحاولان أيضاً كسر الحصار
المفروض حولهما، أولاً من المجتمع الفلسطيني، وثانياً من الاحتلال
الإسرائيلي.
تشاركهما هذه الهموم صديقتهما الفتاة الفلسطينية الثرية "سهى"،
والتي استفتح بها الفيلم مشاهده الأولى، نراها قد أنهت هجرتها
بالخارج وجاءت من المغرب بعد سنوات عدة هناك.. هي فتاة مثقفة
مستقلة الفكر تعيش وحدها وفخورة أيضاً بحمل شرف والدها وشقيقها
المناضلين وتاريخهم المشرف.. تحمل وجهة نظر تحاول أن توصلها لمن
يهمها أمرهم.. إلي من حولها خاصة سعيد.
نحن في "الجنة الآن"، أمام سيناريو نفسي يتحدث عن المشاعر
والأحاسيس بعيداً عن السياسة. فالفيلم ـ بفكرته هذه ـ يقدم لنا
حكاية فلسطينية، بعيداً عن نمطية الأبطال الذين قضوا حياتهم في
معسكرات التدريب، وبعيداً عن القصف والقتل والدمار والجثث
المتناثرة.. ليقدم لنا دراما الحياة الواقعية وسط القهر والضيم
والفقر الذي يعاني منه أبطال الفيلم.. واقع مليء بكل تناقضات
الحياة البسيطة.. الموت والحياة.. الحزن والفرح.. الهدوء والصخب..
في مشاهد فلسفية وعبثية مأخوذة من الواقع. هنا الموت لم يعد قدراً
مكتوباً، وإنما قراراً يتخذه الفلسطيني في مواجهة المحتل ومواجهة
هذا الواقع الصعب. هنا نلاحظ ذلك الطرح السينمائي الهادئ، لقضية
نفسية واجتماعية خطيرة.
هاني أبو أسعد ـ المخرج ـ قدم صورة معبرة وجميلة، متناغمة والسرد
الدرامي، لا يشوبها أية شائبة.. من خلال إضاءة موفقة إلى حد كبير
تخدم الحدث وتضيف إليه، ومن دون مؤثرات موسيقية حتى، لدرجة انسجام
تلك الصورة مع السرد لخدمة القضية المطروحة. كذلك الأداء التمثيلي،
الذي كان ينتمي لمدرسة التلقائية البسيطة.. ليس فيه مبالغة، وليس
فيه عبقرية.. فنحن نتابع أداء بسيطاً يتناسب وهذا الأسلوب السردي
البسيط.
في "الجنة الآن".. نحن أمام فيلم هام يناقش قضية خطيرة وجريئة..
ويثير حواراً جدلياً ووجهة نظر حول الاستشهادي الفلسطيني.. هذا
الذي يحلم بالجنة هرباً من واقع صعب وظروف مجحفة في ظل الاحتلال
الإسرائيلي، وليس تقديساً لفكرة أيديولوجية منسوخة.
طيور الظلام
ـ
1995
بطاقة الفيلم
عادل إمام + يسرا + جميل راتب + أحمد راتب + عزت أبو عوف + مصطفى
الخولي
تأليف وإنتاج: وحيد حامد ـ تصوير: محسن نصر ـ مونتاج: عادل منير ـ
موسيقى: مودي الإمام
لقد جلب فيلم (طيور الظلام - 1995) عند عرضه، ضجة رقابية وجماهيرية
عند عرضه، وذلك للجرأة في الطرح الفكري والفني. قام ببطولة الفيلم
النجم الأسطورة عادل إمام مع يسرا وجميل راتب وأحمد راتب ورياض
الخولي. هو الفيلم الرابع للثلاثي الفني (عرفة/ حامد/ إمام)، بعد
أفلام (اللعب مع الكبار، الإرهاب والكباب، المنسي). فبالإضافة الى
نبض شريف عرفة الخاص في الإخراج، كان هناك جرأة »وحيد حامد« كاتباً
للسيناريو ومنتجاً للفيلم، ومن ثم شعبية عادل إمام كنجم جماهيري
خارق للعادة.
ففي فيلم (طيور الظلام)، يقدم وحيد حامد دراما إجتماعية جريئة،
ترصد الواقع المصري بكل تناقضاته وإتجاهاته، ويقدم موقفاً فكرياً
سياسياً وفنياً حاسماً تجاه أبرز القضايا المعاصرة التي يعيشها
الفرد والمجتمع على السواء. وهو بذلك يضع الفساد والإرهاب في مزيج
واحد، ويقدم شخصيات حية من هذا الواقع.. شخصيات تجري وراء مصالحها
الشخصية، حتى ولو أدى ذلك الى سلوكهم لطرق غير مشروعة وملتوية.
لذلك فهؤلاء هم طيور الظلام الذين يعملون في الخفاء، غير قادرين
على العمل في العلن أو الخروج بأفكارهم الى النور.
وتتمحور شخصيات وحيد حامد في ثلاثة أصدقاء تخرجوا من كلية الحقوق،
الأول فتحي نوفل (عادل إمام)، وهو محامي شاب وفقير يسكن شقة
متواضعة في الأرياف، ويعتبرها بمثابة المسكن والكتب في نفس الوقت.
ولكنه عندما يريد الصعود، فهو يستفيد من موهبته القانونية وذكائه
الفطري في كشف ثغرات القانون. ومن خلال أستاذه المحامي الكبير
(نظيم شعراوي) الذي يعرفه على الوسط الراقي، عندما يستخدمه في حل
رموز قضية كبيرة تهم الرأي العام. حيث يقبل فتحي في تبرئة متهم
بإحدى قضايا الفساد مقابل المال الكثير. بعد ذلك يدير فتحي الدعاية
الإنتخابية لصالح أحد الوزراء (جميل راتب) ويلجأ الى أساليب ملتوية
ذكية الى أن ينجح في الإنتخابات، ومن ثم يصبح فتحي مدير مكتبه
والرجل الثاني في الوزارة، مما يرفع رصيده وينقله من حال الى حال،
ليكون بعد ذلك أحد رموز الفساد الكبيرة في البلد.
والصديق الثاني هو علي الزناتي (رياض الخولي)، الذي يتمتع بشخصية
قوية، ويرى بأن المستقبل سيكون للإتجاه الديني المتطرف، لذلك ينخرط
فيه، ويحاول أن يقنع فتحي بمشاركته في ذلك، إلا أنه يرفض أن يكون
ضد السلطة. وينجح علي الزناتي في الصعود ويضيء نجمه في سماء
المجتمع، بعد أن وفر له أصحاب الإتجاه الديني والإرهاب طموحات
الشهرة والثراء، مستفيدين من ذكائه وقدراته القانونية في تنفيذ
مخططاتهم الإجرامية بحق المجتمع والدفاع عن الجماعات المتطرفة.
أما الصديق الثالث فهو محسن مختار (أحمد راتب)، ذلك المواطن الشريف
والمثالي الحالم، الذي مازال يعيش سنوات الستينات المليئة بالأحلام
والشعارات السياسية. فبالرغم من أنه يعيش فراغاً ساسياً شديداً في
واقع مليء بالفساد كهذا، إلا أنه يرفض أن يكون أداة للفساد أو
التطرف متخذاً موقفاً سلبياً من الإثنين.
وهناك أيضاً، إضافة الى شخصيات الأصدقاء الثلاثة، شخصية سميرة
(يسرا)، الفتاة المطحونة التي وجدت في بيع جسدها وسيلة لتوفير حياة
أفضل، والتي دخلت حياة فتحي نوفل بعد إتهامها في قضية آداب،
وبالتالي توكله للدفاع عنها، ومن ثم تصبح البنك الذي يخفي فيه فتحي
نوفل ثروته.
من هنا نتوصل الى أن فتحي نوفل وعلي الزناتي هما وجهان لعملة
واحدة. فالإثنان إنتهازيين، إلا أن إنتهازية فتحي تختلف عن
إنتهازية صديقه علي، فهو يفضل اللعب في النور ومع السلطة، على
العكس من صديقه الذي يلعب مع الجماعات الدينية المتطرفة والمعارضة
للسلطة. الإثنان تجمعهما مصالح مشتركة أحياناً.. نوفل يستعين
بالزناتي في إنجاح حملته الإنتخابية للوزير، في مقابل التستر على
الزناتي في تحركاته غير المشروعة لتقوية التطرف، وإبعاد الأمن عن
طريقه. ويصل الإثنان الى مرحلة متقدمة من الشهرة والتورط.. تصل عند
الزناتي الى أن يتورط في تأمين إختباء إرهابيين بعد قيامهم بإحدى
العمليات. فيقبظ عليه. وفتحي يستغل منصبه في تكوين ثروة كبيرة،
يخفيها في جيب الشركة التي ينشئها بإسم صديقته سميرة فتاة الليل
التي يضعها في طريق الوزير، بل ويزوجها منه عرفياً ويحتفظ هو بورقة
الزواج. هذا إضافة الى زواجه من سيدة أعمال ثرية يخفي ثروته غير
المشروعة في ثروتها. صحيح بأنه يتم القبض على فتحي نوفل وعلي
الزناتي من قبل الأمن، إلا أنهما يؤكدان بأنهما لن يظلا في السجن
طويلاً، فليس هناك ما يدينهما قانونياً.
إن فيلم (طيور الظلام) يقدم صرخة جريئة في وجه المجتمع، مبيناً
أخطر القضايا التي تؤرقه. وقد نجح وحيد حامد في صياغة كل ذلك في
سيناريو قوي ومتماسك وسريع، إحتفظ بعنصري الإثارة والتشويق حتى
نهاية الفيلم. كما أنه إستطاع تقديم مبررات منطقية وواقعية لتصرفات
شخصياته. هذا بالرغم من تلك السطحية التي إتصفت بها شخصية سميرة،
وعدم التعمق في دواخلها. وكذلك الضعف الواضح في رسم شخصية الوزير،
الذي بدى ساذجاً مقلوباً على أمره. وقد تجسد هذا السيناريو بعناصر
سينمائية خلاقة، ساهمت كثيراً في إخفاء العيوب القليلة التي إتصف
بها السيناريو. فالمصور محسن نصر نجح في إختيار زوايا تصوير تعبر
عن الموقف وتتناسب والحدث الدرامي، إضافة الى حركة الكاميرا السلسة
والتكوينات الجمالية القوية والمعبرة والراصدة للوجوه وتعبيراتها
في الكثير من المشاهد. وقد كان المونتاج السريع والمحفز عوناً في
إيصال هذا التعبير الى المتفرج وذلك بشحنه بالتوتر. كذلك الموسيقى
التصويرية ذات التأثير الدرامي التعبيري، والتي جعلتنا نتعايش أكثر
مع الحدث. كذلك التمثيل الذي كان في عمومه صادقاً وطبيعياً ومجسداً
للشخصيات كواقع حي. وجميعها عناصر فنية نجح المخرج المبدع شريف
عرفة في إدارتها وتطويعها لخدمة السيناريو. أدارها كمايسترو
لأوركسترا متناسقة ومنسجمة. |