لا يخفى على الجميع، بأن التراث السينمائي المصري زاخر بالعديد من
الأفلام التي صُنفت على أساس أنها تحمل مشاهد ولقطات جنسية أو
رومانسية خادشة، أو توجهات سياسية معارضة، ما تسبب في منعها من
العرض العام في دور السينما، سواء بقرار من جهاز الرقابة على
المصنفات الفنية أو من جهات حكومية أخرى.
كما أن الصراع الحقيقي للرقابة مع السينما في مصر، كان في
السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، حيث تم منع مجموعة من
الأفلام الهامة، مثل: "العصفور" و"زائر الفجر" و"الكرنك" وغيرها.
لذا سيكون التركيز في هذا المقال على هذه الفترة الصعبة بالنسبة
للسينما والفن بشكل عام.
*****
زائر الفجر
إنتاج عام 1972
بطاقة الفيلم
تمثيل: ماجدة الخطيب + عزت العلايلي + شكري سرحان +
يوسف شعبان +
تحية كاريوكا + زيزي مصطفى ـ
ﺇﺧﺮاﺝ:
ممدوح شكري ـ قصة وسيناريو وحوار:
رفيق الصبان
ـ
ممدوح شكري
ـ
تصوير: رمسيس
مرزوق ـ ديكور: نهاد بهجت ـ موسيقى: إبراهيم حجاج ـ مونتاج: أحمد
متولي ـ إنتاج: أفلام ماجدة الخطيب
(زائر الفجر)، فيلم سياسي مصري، تم إنتاجه في عام 1973، وهو من
الأفلام التي منعتها الجهات السيادية أثناء فترة حكم الرئيس الراحل
محمد أنور السادات، وتم منعه من العرض بعد أسبوع واحد من عرضه،
بسبب احتوائه على بعض المشاهد التي تتهجم على النظام في ذلك الوقت،
وكانت الرقابة تعيش حالة من التذبذب بسبب الوضع السياسي والاقتصادي
أثناء تلك الفترة من عصر السادات. وقد وقع "زائر الفجر" ضحية حذف
عدد من مشاهده، تلك التي تحتوي على صور من الفساد الإداري أو
الأداء البوليس للدولة في فترة ما قبل النكسة.
تبدأ أحداث الفيلم عندما تستقبل شرطة النجدة بلاغًا بمقتل صحفية
يسارية بشقتها.. ثم ينتقل وكيل النيابة إلى مسرح الحادث ويحاول
التوصل للقاتل.. ويأتي تقرير الطبيب الشرعي بأن الوفاة طبيعية
نتيجة مرض الصحفية بالقلب.. وبالبحث حول ملابسات وفاتها تتسع دائرة
الجريمة من كونها وفاة طبيعية إلى جريمة قتل معنوية في المقام
الأول نتيجة للفساد الاجتماعي والقمع السياسي وملاحقة المعارضين
وتصفيتهم إما جسديا أو معنويا.
وقد تسبب فيلم "زائر الفجر" في وفاة مخرجه، حيث أن الفيلم أنتج عام
72 من القرن الماضي وعرض عام 75، ليس بسبب فشله تجاريًا عندما عرض
بعد 3 سنوات من إنتاجه. فقد أصيب مخرجه ممدوح شكري بالاكتئاب
لفترة، مما جعله يهمل في صحته فأصيب بمرض حاد (ذبحة صدرية) نقل على
أثرها إلى مستشفى الحميات بالعباسية، حيث توفى قبل أن يشهد التصريح
بعرض فيلمه ولو مبتورا.
الفيلم أنتجته الفنانة ماجدة الخطيب، التي ضحت بكل ما تملكه من
أموال من أجل إنتاج هذا الفيلم الذي يدخل ضمن قائمة المئة فيلم في
تاريخ السينما المصرية.
*****
العصفور
إنتاج عام 1974
بطاقة الفيلم
تمثيل:
محمود المليجي +
محسنة توفيق + علي الشريف + سيف عبدالرحمن + حبيبة (جلاديس) + صلاح قابيل ـ
رؤية سينمائية وﺇﺧﺮاﺝ: يوسف شاهين ـ قصة وسيناريو
وحوار:
لطفي الخولي ـ
تصوير: مصطفى إمام ـ ديكور: نهاد بهجت ـ موسيقى: علي إسماعيل ـ
مونتاج: رشيدة عبدالسلام ـ إنتاج: الاونسك/ الجزائر (يوسف شاهين/
أحمد راشدي)
يعد فيلم «العصفور» ضمن أفضل مائة فيلم مصرى فى القرن العشرين،
وقد عبر فيه
المخرج «يوسف
شاهين»
عن صدمة نكسة يونيو 67، ورغبة الشعب في تحرير أرضه بالقوة، ومنعته
الرقابة لأنه يهاجم ثورة يوليو/ تموز 1952 ونظامها ورموزها بشكل
مباشر، وقررت أن الفيلم لا يصلح للعرض العام في ظل ظروف البلاد
السياسية الداخلية والخارجية المتخبطة، ثم سمح بعرض الفيلم عقب
"نصر أكتوبر" في أغسطس 1974.
تدور القصة حول هزيمة 5 يونيو 1967 وأسبابها الداخلية، وتبدأ قبل
وقوع الهزيمة، حيث يجرى الصحفى «يوسف» تحقيقا صحفيا يتعلق بسرقات
تقع فى القطاع العام، من خلال مصنع لم يكتمل بناؤه فى قرية
بالصعيد، ويكتشف أن اللصوص من المسؤولين، فى وقت تكد فيه «بهية»
الخياطة المقيمة فى حى الحسين لتوفير معيشة طيبة لابنتها الطالبة
الجامعية، وتؤجر غرفا سكنية لأشخاص ينتمون لشرائح مختلفة من الشعب
المصرى، وتقع حرب 5 يونيو، ويلتف الجميع حول أجهزة الراديو
ليستمعوا إلى البيانات الكاذبة عن إسقاط طائرات العدو، حتى يظهر
عبدالناصر فى 9 يونيو على شاشات التليفزيون، ويعلن التنحى لتنطلق
بهية ومن خلفها الجماهير فى الشوارع تهتف: «لا حنحارب.. حنحارب» فى
الوقت ذاته ينطلق العصفور من قفصه الحديدى.
تقدم «يوسف شاهين» بالسيناريو إلى مؤسسة السينما المصرية لإنتاجه،
فطلبت الاجتماع به لمناقشته، وأوقعته فى امتحان واستجوابات عسيرة
ضاق ذرعا بها انتهت بعدم الاتفاق، وكان ذلك فى نهاية سنة 1971
وبداية 1972، قرر شاهين إنتاج الفيلم بنفسه بالاشتراك مع مؤسسة
السينما الجزائرية، وبدأ التصوير فى يونيو 1972.
انتهى «شاهين» من تصوير الفيلم فى سبتمبر 1972، وجهز نسخة عرض
مدتها 95 دقيقة ليتقدم بها إلى المصنفات الفنية، التى سجلت ملاحظات
فى تقريرها، تدور حول أن الفيلم يركز على مساوئ الجبهة الداخلية،
وسرقة القطاع العام بمشاركة مسؤولين سياسيين وفى جهاز الشرطة،
وبناء عليه تقرر منع عرضه نهائيا، فطار شاهين إلى الجزائر حيث يوجد
النيجاتيف الأصلى للفيلم، وأعاد طبعه مرة أخرى وتم عرضه فى الجزائر
ليحقق نجاحا كبيرا، وفى مايو 1973 تم عرضه بمهرجان كان فى الدورة
26 ممثلا عن الجزائر، وحاز على إعجاب النقاد، ثم عرضه مهرجان «بيت
مرى» فى لبنان، فأثار جدلا واسعا فى الصحافة اللبنانية، وأصدر
المشاركون فى المهرجان بيانا يطالب بعرضه لكونه أحد أهم الأفلام فى
السينما العربية.
منع الفيلم لثلاث سنوات، وكان المبرر حينها الحفاظ على الجبهة
الداخلية ومنع إحباط المواطنين، فيما شنت الصحافة الحكومية هجوماً
عنيفاً على شاهين واتهمته بالحصول على تمويل أجنبي للنيل من
القيادة، والحديث عن الفساد الداخلي بما يخدم العدو، وبرزت عبارة
"اللصوص الشرعيين" التي يقولها أحد شخصيات الفيلم لزميله في
الجامعة.
وبعد حرب 1973، عادت قضية الفيلم إلى السطح وبدأت حملة صحفية تطالب
بعرضه فى مصر، وبالفعل تقدم «شاهين» إلى الرقابة مرة أخرى، ووافق
وزير الثقافة يوسف السباعى، وتم العرض الأول يوم 26 أغسطس 1974
بدار سينما رمسيس ليظل خمسة أسابيع فقط محققا إيرادا لا يتعدى خمسة
آلاف جنيه، ووضع شاهين «تتر» فى بداية عناوين الفيلم يقول: «إن
العصفور لم يكن يستطيع أن ينطلق، لولا الانطلاقة الكبيرة للإنسان
المصرى فى يوم 6 أكتوبرالعظيم».
*****
حمام الملاطيلي
إنتاج عام 1973
بطاقة الفيلم
تمثيل: شمس البارودي + محمد العربي + يوسف شعبان + فايز حلاوة +
إبراهيم عبد الرازق +
نعمت مختار
ـ قصة: إسماعيل ولي الدين ـ سيناريو:
محسن زايد + أبو سيف ـ
حوار: محسن زايد ـ تصوير: إبراهيم شامات، عبد المنعم بهنسي ـ
موسيقى: جمال سلامة ـ مونتاج: محي عبد الجواد ـ إنتاج: صلاح أبو
سيف
عُرض فيلم (حمام الملاطيلي) بتاريخ 2 يوليو 1973 بالعاصمة العراقية
بغداد وحقق إقبالا كبيرا، إلا أنه حينما عاد الفيلم إلى مصر رفضت
الرقابة عرضه بل قامت بحذف ثلثي أحداث الفيلم ورغم ذلك لم توافق
الرقابة على العرض، بحجة تضمينه أيضا مشاهد جنسية مخلة وترويجه
لفكرة المثلية، تشكلت لجنة لمناقشة الفيلم وتوصلت الى حذف مشاهد
أخرى وافق عليها المخرج صلاح أبو سيف وحتى الآن لم يعرض الفيلم
بالتليفزيون.
تم عرض الفيلم في السينما في فترة التسعينيات بعد أن حذفت منه
الرقابة مشاهد
كثيرة،. وتعد قصة
الفيلم من أوائل الروايات التي ناقش فيها السيناريست محسن زايد،
حياة مثليي الجنس عن قرب، متمثلة في شخصية الرسام الذى يجسد دوره
الفنان يوسف شعبان، واحتوى الفيلم على مشاهد عارية داخل الحمام
الشعبي، وبعض القبلات الساخنة والإيماءات التي تعبر عن إعجاب
الرجال بالرجال.
والجنس قضية اجتماعية هامة في عالمنا المعاصر، والجنس في فيلم
(حمام الملاطيلي) عبارة عن إسقاطات على الفساد الأخلاقي والسياسي
والإداري الذي عالجها أبو سيف بواقعية وصدق حقيقيان، حيث عرض شرائح
تمثل المجتمع المصري بعد هزيمة 67. كما أراد من خلال فيلمه هذا، أن
يقول بأن الهزيمة لم تأت من خارج المجتمع المصري وإنما من داخله،
من ذلك الفساد والتسوس الذي كان ينخر في نفوس الناس.
يبدأ الفيلم بمقدمة مدتها ثلاث دقائق، هي عبارة عن شريط تسجيلي عن
الحياة في القاهرة. تطوف الكاميرا شوارع القاهرة لنشاهد المباني
الشاهقة المخصصة لإدارة الإنتاج، والتي تضم رجالاً ونساءً لا
يعملون. ونلاحظ تلك الأوامر الكثيرة المنتشرة في كل مكان والتي
زادت على الحد الطبيعي، ولم يعد ينفذها أحد، تلك الأوامر المتمثلة
في لافتات الممنوعات. حتى أننا نلاحظها في تماثيل الميادين، حيث
تجد أغلبها لأشخاص يشيرون بأصابعهم بصيغة الأمر. وفي هذا الشريط
التسجيلي وفق أبو سيف بحركة كاميرته الموفقة ولقطاته السريعة
والمتلاحقة للقطات الزوم والبان والترافلنج.
كذلك قدم لنا أبو سيف الانحراف الجنسي، ليعبر عن ضعف الإنسان الذي
يلجأ إلى الجنس والمخدرات والشذوذ. ومثلما طرح أبو سيف في فيلمه
(القضية 68) على أن الهزيمة هي مسؤولية النظام السياسي الفاسد، فهو
في هذا الفيلم يرجع الهزيمة إلى فساد المجتمع أيضاً. فالشاب أحمد
حائز بين الروتين والمجتمع الجامد.. بين الفضيلة والرذيلة.. بين
الشرف والخيانة. ويرى في الانحراف وسيلة لنسيان همومه.
يلتقي أحمد في البداية بنعيمة، التي هربت من أهلها في الريف وجاءت
إلى القاهرة لتعمل، إلا أن الفقر جنى عليها فباعت جسدها لمن يدفع
الثمن. ومن خلال هذه الشخصية يعرض لنا أبو سيف شريحة مهمة في
المجتمع المصري، تعيش على بيع جسدها مقابل لقمة العيش، وقد قدم هذه
الشريحة بصدق وبجرأة حادة. ثم يذهب أحمد إلى الحمام الشعبي (وهو
صورة مصغرة للمجتمع) للسكن هناك. ويشاهد في الحمام الشعبي عالماً
آخراً بشخصياته المختلفة. يستقبله المعلم صاحب الحمام ابن البلد
الأصيل والطيب، ويتعرف على رءوف بيه الإنسان المريض جنسياً والذي
ظلمته أسرته والمجتمع على السواء ولم يجد من ينقذه من محنته،
ويتردد على الحمام عله يجد من يشبع رغباته الجنسية الشاذة. وكذلك
يشاهد الشيخ الراوي الذي نفهم من رواياته وأحاديثه إسقاطات فلسفية
وسياسية نقدية للمجتمع، خصوصاً في قوله ( إصحي يا مصر.. شدي الهمة
وعدي يا مصر.. التاريخ ما بيستناش حد ). كما أن أبو سيف في هذا
الفيلم قد عرض لنا ظاهرة التسيب في مكاتب القطاع العام، من خلال
الموظفين المشغولين بحل الكلمات المتقاطعة وقراءة الجرائد وغيرها
من أمور تعطلهم عن القيام بتخليص المعاملات للجمهور.
*****
الكرنك
إنتاج عام 1975
بطاقة الفيلم
تمثيل: سعاد حسني + نور الشريف + كمال الشناوي + محمد صبحي +
شويكار + أحمد بدير + عماد حمدي + يونس شلبي ـ سيناريو وحوار:
ممدوح الليثي ـ قصة: نجيب محفوظ ـ تصوير: محسن نصر ـ مناظر: ماهر
عبد النور ـ موسيقى: جمال سلامة ـ مونتاج: سعيد الشيخ ـ إنتاج:
ممدوح الليثي
فيلم (الكرنك ـ 1975) جاء ليؤسس مع أفلام (على من نطلق الرصاص ـ
العصفور ـ زائر الفجر) ما يسمى بالسينما السياسية. ولو كان فيلم
(الكرنك) هو أكثرها جرأة، وذلك باستعراضه بشكل واضح وصريح جداً
للنظام السياسي في استخدامه لكل أدوات القهر والتنكيل، ضد كل من
يخالفه في الفكر والرأي السياسي، أو حتى ضد اثنين متحابين ليدمرهما
لدرجة التخريب، ويفسد العلاقات الإنسانية الجميلة فيما بينهما.
ولا يخفى على الجميع، في أن فيلم (الكرنك) قد صحبته ضجة كبيرة في
الوسط الفني والصحافة، وحتى على المستوى الجماهيري، وذلك لأن
الجميع اعتبره تأريخاً لفترة سياسية، تعتبر من أهم فترات التاريخ
السياسي المصري (وهي الفترة التي امتدت منذ الهزيمة في 1967 وحتى
حرب أكتوبر 1973)، مروراً بحركة التصحيح في 15 مايو 1971) واعتبره
البعض تشويهاً لثورة يوليو 1953 وقائدها عبد الناصر، بل هجوماً على
مراكز القوى في تلك الفترة، وتملقاً لحركة التصحيح التي قادها
الرئيس السادات.
إلا أن بدرخان يدافع عن فيلمه هذا، فيقول: (...توقيت عرض الفيلم
بعد وفاة عبد الناصر هو الذي أعطى انطباعا بأن المقصود منه مهاجمة
المرحلة الناصرية، وهذا غير صحيح. فالمقصود من الفيلم كشف بعض
الممارسات التي كانت تصدر من بعض الأشخاص المتسترين برداء النظام،
والتي استهدفت كرامة الإنسان وتحطيم معنوياته. وهذه الممارسات
موجودة في أي نظام وفي كل زمان...).(4)
بدأت فكرة (الكرنك) عند بدرخان، بعد قراءته للقصة التي كتبها نجيب
محفوظ ونشرتها الصحافة. بعدها قرأ بأن الكاتب ممدوح الليثي قد
اشترى القصة وسينتجها سينمائياً. فما كان من بدرخان إلا أن اتصل
بالليثي وقال له: (...أنا نفسي أخرج الكرنك، ومن غير فلوس
أبداً!!...).(8) وهذا بالطبع دليلاً على اقتناع بدرخان بالقصة
وأهميتها. وبهذا يكون بدرخان قد خطى خطوة في طريق السينما
السياسية.
يبدأ فيلم (الكرنك) وينتهي بحرب أكتوبر، وهو إقحام مفتعل ـ إن كان
من الناحية الدرامية أو حتى الفكرية. ولا يعني هذا سوى الاستغلال
التجاري والتملق. فمن الملاحظ بأن السينما المصرية في تلك الموحلة
قد اتخذت من حرب أكتوبر ديكوراً جديداً للأفلام التجارية، مثلما
كانت السينما في الخمسينات والستينات تتملق ثورة يوليو، وذلك بأن
تجعل من الثورة نهاية سعيدة للفيلم. وربما كان هذا إرضاءً للنظام
الحاكم وللرقابة، مما يعطي للفيلم امتيازات كثيرة أهمها الحصول على
أولوية العرض. أما بالنسبة لفيلم (الكرنك) فمن هذه البداية
والنهاية نستنتج بأنه يقول بأن غياب الحرية والقانون وسيطرة
الإرهاب والقمع يؤدي إلى الهزيمة، وعودة الحرية وسيادة القانون
يؤدي إلى النصر. وهذا بحد ذاته قد أوقع الفيلم في خطأ فكري كبير
ورؤية ساذجة، على حساب الرؤية الموضوعية للواقع والتاريخ. فالحديث
عن الهزائم والانتصارات لا يكون هكذا.
نتابع فيلم (الكرنك ـ 1975) ما بين البداية والنهاية. فمن خلال
(فلاش باك) يستمر طوال الفيلم، نشاهد ثلاث شخصيات، إسماعيل الشيخ
(نور الشريف) وزينب دياب (سعاد حسني) وحلمي حمادة (محمد صبحي)، وهم
زملاء في كلية الطب، ثلاثة من أبناء الشعب الكادحين، ينتمون إلى
جيل الثورة ويؤمنون بها. إسماعيل وزينب تربطهما علاقة حب قوية
صادقة، ويعيشان في وضع معيشي بسيط يجعلهما يدافعان عن الثورة
وإنجازاتها التي استفادا منها كثيراً، مثل مجانية التعليم وغيرها.
إلا أنه يتم اعتقالهما لمجرد أنهما قالا رأياً صريحاً وواقعياً في
توزيع القماش (الذي يكتبون عليه الشعارات السياسية) على الفلاحين
الذين لا يعرفون القراءة، حيث أن هذا أنفع لهم. ويقف الثلاثة أمام
خالد صفوان (كمال الشناوي) مدير المخابرات، مرة بتهمة الانتماء إلى
الإخوان المسلمين ومرة بتهمة الانتماء للشيوعيين. وتكون نتيجة
تجربتهم في المعتقل سيطرة الخوف واليأس والإنهاك على إسماعيل
وزينب، وفقدانهما للقدرة على الفعل والتفكير، وذلك نتيجة تعرضهم
للتعذيب النفسي والجسدي. فزينب تفقد عذريتها في المعتقل، وإسماعيل
بمحاولته منع حدوث ذلك يعترف على نفسه وعلى زميله حلمي بأشياء
ملفقة. أما حلمي فيتحول إلى العمل السياسي السري باعتباره واعياً
للتناقضات المحيطة به، نتيجة لما عاناه داخل المعتقل وفتح عينيه
على أشياء كانت غائبة عنه، وبالتالي يقتل هناك أثناء اعتقاله
الثالث تحت أيدي زبانية خالد صفوان. وبذلك يصبح الزملاء الثلاثة
ضحية لممارسات متسترة برداء النظام، استهدفت كرامة الإنسان فيهم،
وأفسدت العلاقات الإنسانية فيما بينهم.
من خلال الفلاش باك الطويل هذا، يقدم بدرخان فيلماً متميزاً
وكبيراً يعتبر علامة بارزة في مسيرة السينما المصرية.. لولا أنه قد
احتوى على مغالطات تاريخية، قد أضرت بالفيلم كثيراً، كانت الرقابة
ونظام الحكم آنذاك ورائها، وذلك لتعزيز ذلك الحكم وحركته التصحيحية
تلك. وقد أعلن بدرخان ذلك فعلاً، ولكن بعد عشر سنوات من ذلك
التاريخ، حين يقول: (...نهاية الفيلم جاءت مختلفة تماماً، وهي
إعلان 15 مايو، ومحاكمة المسئولين عن التعذيب.. و.. وما حدث أنه
قيل لي بعد الانتهاء من إعداد الفيلم، أن رئاسة الجمهورية، تريد
رؤية الفيلم.. أبلغني بذلك الأستاذ ممدوح الليثي، وبلغه أنه إذا لم
يتضمن الفيلم ثورة 15 مايو، فقد يمنع من العرض، لأنه يهاجم الثورة
وعبدالناصر!! وقلت: أن الكرنك لا يهاجم الثورة أو عبدالناصر، ولكنه
يفضح جزئية ويدينها، وهي التعذيب. فقيل لنا: نخشى أن يتم رفض
الفيلم، ومن الأفضل أن ينتهي الفيلم بإعلان ثورة 15 مايو على أنها
تصحيح للأوضاع الخاطئة، قلت أن هذا خطأ تاريخي، وأننا بهذا المنطق،
نزور التاريخ، لأن الحقيقة الواضحة، أن قرار الإفراج عن المعتقلين
كان عبدالناصر قد وقع عليه بالفعل!!...).(8)
وبهذا يكون بدرخان قد برأ نفسه من تهمة تملق النظام، حيث أعلن بأن
رئاسة الجمهورية قد تدخلت مباشرة في الفيلم، ليظهر بهذه الصورة.
ولكن بالرغم من هذه المغالطات التاريخية والسياسية في (الكرنك)،
إلا أن بدرخان في فيلمه هذا كان يحدثنا عن الثورة والإرهاب حديثاً
صريحاً وجاداً وواقعياً، استطاع من خلاله إدانة الإرهاب والقمع
بجميع أشكاله في أي زمان ومكان.
يبقى أن نقف وقفة تأملية لما قدمه المخرج علي بدرخان من لمحات
إبداعية ومميزات فنية، جعلت من الفيلم علامة بارزة ومهمة، بغض
النظر عن موضوعه الجريء والصريح.
بالإضافة لتميز بدرخان في اختياره الدقيق لموضوعاته، فهو أيضاً
شديد الحرص على اختيار فريق العمل الفني، الذي سيعمل معه.. وذلك
لإدراكه الواعي بأن الفيلم في النهاية هو محصلة لتناسق الخبرات
الفنية التي تعمل معه. وهذا ما يفسر حصول أغلب أفلامه على الجوائز.
ففي (الكرنك) يوفق بدرخان في اختيار ممثليه إلى حد كبير، فسعاد
حسني ونور الشريف وكمال الشناوي كانوا في قمة أدائهم، بل وتعتبر
أدوارهم في هذا الفيلم من بين أهم أدوارهم على مدى تاريخهم الفني
بأكمله. أما بقية العناصر الفنية الأخرى، من تصوير ومونتاج وموسيقى
وغيرها، فهي لم تتجاوز الدور الوظيفي إلى الدور التعبيري، إلا في
مشاهد قليلة. وذلك لاعتماد الفيلم ـ بشكل واضح ـ على الحوار الكثيف
والساخن والمتدفق، والذي ساهم إلى حد كبير في الإضعاف من لغة
الصورة السينمائية ووظيفتها التعبيرية. فمثلاً نجد بدرخان ينجح في
استخدام الإضاءة والمونتاج في مشاهد، مثل مشهد الاعتقال الأول
للثلاثة، وكان للإضاءة دوراً هاماً في خلق الجو المناسب لزوار
الفجر في البيوت والحارة. كما أنه يثبت مقدرته على شحن المتفرج
بالغضب وإدانة القهر والإرهاب، وذلك من خلال مشهد قوي وغير مباشر
لإسماعيل وزينب وهما يتمشيان في الشوارع ليلاً، وقد تحتم عليهما
التبليغ عن صديقهما حلمي وعن الاجتماع السري الذي عقد في منزله. ثم
المشهد الذي يليه في بيت زميلهما الفنان، ذلك المشهد الذي تستسلم
فيه زينب لحبيبها في الفراش، ليكتشف المأساة في تضحيته داخل
المعتقل، ويصدم بتلك الخدعة الكبرى. هنا ينجح بدرخان في تجسيد كل
تلك الأحاسيس والمشاعر، بمساعدة الإضاءة الدرامية المعبرة
والمونتاج الخلاق، بالإضافة لاستغلاله لإمكانيات الديكور. أما
المونتير سعيد الشيخ، فيوفق إلى حد كبير في ضبط التصاعد الدرامي في
اللقطات بين وجه زينب وبين ورقة ملقاة في الشارع تتقاذفها السيارات
المسرعة عند محاولة انتحارها. وفي نفس الوقت لم يحقق الشيخ نفس
المستوى الفني في مشهد مقتل حلمي، حيث فشل في تحقيق التقطيع
المناسب واستخدام الأحجام المناسبة للقطات، مما أدى إلى هبوط مستوى
هذا المشهد.
أما من ناحية الكتابة الدرامية (السيناريو) فنلاحظ مدى إلحاح
النظرة التجارية لدى ممدوح الليثي وعلي بدرخان، أو حتى نية التخفيف
من مأساوية الأحداث، والتي دفعتهما لحشر مواقف وأحداث بقصد الإضحاك
والتقليل من صدمة المتفرج، متجاهلين بأن ذلك قد يهدد باختلال
البناء الدرامي في فيلم يناقش الثورة والإرهاب. ومنها – على سبيل
المثال – التصوير المبالغ فيه لشخصية الشاعر المتشنج في المقهى
والمعتقل، حتى ولو كان المقصود تبيان بأنه شاعر مفتعل أصلاً،
فتصوير الافتعال لا يعني الافتعال.
وهذا بالطبع لا ينفي من أن السيناريو قد اهتم بشكل خاص على استعراض
التفاصيل الدقيقة في تجسيد أدوات وطرق التعذيب، من جلد وصلب وتعذيب
بالكهرباء، حتى يصل الامتهان الإنساني ذروته في مشهد اغتصاب زينب،
وهو مشهد قوي ومؤثر ومتقن، يحقق فيه بدرخان مستوى جيد في الإخراج.
يظل هذا الفيلم واحداً من بين الأفلام
الهامة والجادة، وذلك لتبنيه قضية حساسة في الواقع الاجتماعي
والسياسي، ونجاحه في كسب تعاطف المتفرج مع قضيته هذه.
*****
سعيد مرزوق والرقابة:
كان لا بد لنا من تناول المشاكل التي تعرض لها المخرج سعيد مرزوق
مع الرقابة، حيث من المعروف بأنه من أبرز المخرجين المصريين الذين
تعرضت أفلامهم لمقص الرقيب، ففيلمه (الخوف) حذفت منه الرقابة مشاهد
كاملة، كما أصرت على تغيير نهاية الفيلم. وفيلم (المذنبون) منع بعد
السماح بعرضه جماهيرياً، نتيجة للشكاوي التي بعث بها أبناء الجالية
المصرية في الخارج إلى المسئولين يدعون فيها بأن الفيلم يعتبر
تشويهاً وإساءة لسمعة مصر وكرامتها وعزتها وكبريائها، مما أدى
بوزير الثقافة لمشاهدة الفيلم وتشكيل لجنة بقرار وزاري للنظر في
قضية هذا الفيلم، وإعادة النظر في أسلوب وسياسة الرقابة.. كما صدر
قرار وزاري آخر، بشأن القواعد الأساسية للرقابة على المصنفات
الفنية. ومن بعدها عوقب الرقباء الذين أجازوا عرض الفيلم، عقاباً
مادياً ومعنوياً، وتم توقيع جزاء قاس عليهم، تراوح ما بين خصم خمسة
عشر يوماً من راتبهم الشهري، إلى إنذار بالفصل.
أما سعيد مرزوق، فهو يعتبر الرقابة من أهم مشاكل الفيلم المصري،
حين يقول: (...ليست هناك أفلام سياسية مصرية، لأن الإنسان إذا أراد
أن يقول شيئاً، فأما أن يقوله بوضوح تام، أو يصمت، وأنا أعتبر
فيلمي (زائر الفجر) و(الخوف) أفلاماً سياسية ناقصة، لأنهما لم
يكونا واضحين بما فيه الكفاية، وربما كان هذا سبباً هاماً من عدم
ظهور تيار أو موجة للسينما الجديدة، لأن التجديد في السينما يجب أن
يشمل كل شيء، فالمفروض أن تتعرض السينما الجديدة، لما لا تستطيع أن
تتعرض له السينما التقليدية، ولكن الرقابة مثلاً جعلت كل مخرج يعرف
ما هو ممنوع، وبذلك يفرض رقابة ذاتية على نفسه، وحدوداً لا
يتعاداها!!...).
*****
المذنبون
إنتاج عام 1976
بطاقة الفيلم
تمثيل:
سهير رمزي + يوسف شعبان + عماد حمدي +
حسين فهمي + توفيق الدقن + نبيل بدر + عادل أدهم + كمال الشناوي ـ
سيناريو وحوار: ممدوح الليثي ـ قصة: نجيب محفوظ ـ تصوير: مصطفى
إمام ـ مناظر: ماهر عبد النور ـ موسيقى: جمال سلامة ـ مونتاج: سعيد
الشيخ ـ إنتاج: إيهاب الليثي
لم تمر الرقابة على المصنفات الفنية في مصر بأزمة كالتي مرت عام
1975 بسبب فيلم
«المذنبون»..
فقد أدى سماح الرقابة للفيلم بالعرض إلى معاقبة كل الكوادر
الرقابية المسئولة عن هذا السماح.. كما أدى أيضاً إلى صدور قوانين
رقابية جديدة.
فيلم «المذنبون»، يعد واحداً من أبرز
الأفلام التي صاحبتها ضجة رقابية صاخبة.. عندما أتهم بأنه يشوه
صورة مصر في الخارج.. وتم إثر ذلك مجازاة كامل الرقابة التي أجازت
الفيلم..!!
تتمثل الرقابة المجتمعية بشكل صارخ في قصة منع هذا الفيلم.. حيث
كان قرار المنع ناتجـًا عن العديد من الخطابات التي تلقاها مجلس
الشعب من المصريين الموجودين في الدول العربية يشكون من أن أحداث
فيلم المذنبون ومن قبله الكرنك وعدد من الأفلام المصرية الأخرى
تسيء إلى سمعة مصر والمصريين بالخارج، بالإضافة إلى تضمن تلك
الأفلام للعديد من المشاهد الجنسية الجريئة. لذا أحال المجلس تلك
الخطابات إلى وزير الإعلام والثقافة لاتخاذ اللازم .. فكان قرار
الوزير هو المنع.
على ضوء تلك الخطابات، تم منع الفيلم وسحبه من دور العرض وأحيلت
مديرة الرقابة على المصنفات الفنية اعتدال ممتاز مع أربعة عشر
رقيبـًا للمحاكمة التأديبية، بقرار من الرئيس السادات لأنهم رخصوا
بعرض الفيلم، وصرحوا بتصديره رغم ما انطوى عليه طبقًا لما رأته
الدولة عقب ذلك من مخالفات صارخة، كما وصفوها تمس الآداب العامة،
والقطاع العام، وتنال من قيم المجتمع الدينية والروحية، بما تحمله
من طياتها من دعوة سافرة، لنشر الفساد والحض على الرذيلة.
أدينت المديرة والموظفين بأحكام تأديبية حتى أن
المديرة اقيلت من منصبها واتهم الفيلم فى الأحكام بالعمل على تشويه
صورة المجتمع المصرى لأن 75 % من مشاهده تخدش الحياء العام ولم
يجاز عرضه الا بعد تشكيل لجنة حذفت اغلب مشاهده وعرضته السينما
ولكن للكبار فقط ورفض التليفزيون عرضه
.
هذا كله جعل الرقيب أكثر خوفـًا على منصبه فأصبح المنع أول قرار
يأتي إلى ذهنه، وصار التحايل على هذا الرقيب أول ما يجول في عقل
صانع الفيلم. وكأن فيلم المذنبون يتحايل سينمائيـًّا كأسلوب فني
لعرض قصة الفيلم، وأسلوب سياسي من أجل عرض الفيلم نفسه.
فيلم
«المذنبون»
يواجه الفساد بشكل
غير مباشر، من خلال تقديم جريمة قتل، ليبدو الفيلم منتميـًا لنوع
الجريمة وليس فيلمـًا سياسيـًّا. وهذه المواجهة غير المباشرة ظهرت
من خلال الكاميرا أيضـًا، إذ اختبأت وراء الأشياء.
«سعيد مرزوق» بفيلمه
هذا يواصل نجاحه في تقديم الفيلم الجماهيري الجاد، والذي بدأه في
(أريد حلاً)، ويحقق في هذين الفيلمين ما فشل في تحقيقه من قبل، وهو
فهمه للغة التخاطب مع الجماهير العريضة.
فعن قصة لنجيب محفوظ وسيناريو ممدوح الليثي، يقدم سعيد مرزوق
ريبورتاجاً سينمائياً، لنماذج وانحرافات في المجتمع، وذلك برؤية
فنية واضحة ومحددة وصريحة. فهو يشير بأصابع الاتهام إلى
الانتهازيين والمستغلين والوصوليين المنافقين في مواقع العمل
المختلفة. وينبه المجتمع من الفساد الذي يصنعه هؤلاء المذنبون.
يبدأ الفيلم بمقتل الممثلة سناء كامل (سهير رمزي)، ويتم استدعاء كل
من له علاقة بالقتيلة والتحقيق معهم. ويعتمد المحقق (عمر الحريري)
على مجموعة من الصور لحفلة أقامتها الممثلة ليلة وقوع الجريمة.
وأول سؤال يطرحه المحقق على المتهم هو ذلك التقليدي الذي يتكرر
كثيراً في الفيلم.. (أين كنت وقت ارتكاب الجريمة؟). وكان على
المتهم تحديد مكان تواجده أثناء ارتكاب الجريمة، وإلا اتهم بجريمة
قتل الممثلة. وللإجابة على هذا السؤال يأتي المتهم تلو الآخر
ليحاول تبرئة نفسه من جريمة القتل، ولكنه يكشف عن جريمة أخرى، بل
أهم يرتكبها ضد المجتمع بأكمله.
لقد اكتملت للفيلم كل عناصر التشويق والإثارة، التي ترتبط دائماً
بالأفلام البوليسية، علما بأن فيلم (المذنبون) قد يتشابه معها في
الشكل فقط، أما المضمون فهو اجتماعي سياسي يتناول الفساد من خلال
تشريح كامل للمجتمع.. لكننا نلاحظ أن عنصر التشويق الذي ابتدأ به
الفيلم، لا يلبث أن تخف حدته وحرارته، بعد النصف ساعة الأولى من
الفيلم. ويرجع ذلك لسببين، الأول وهو أن المشاكل والانحرافات التي
قدمها الفيلم ليست جديدة، وسبق وأن اطلع عليها الناس من خلال
الصحافة. كما قدمت من خلال المسرح والسينما من قبل، وأصبحت
تفاصيلها معروفة. أما السبب الثاني فهو لجوء السيناريو لأسلوب
سينمائي واحد لم يتغير طوال الفيلم، وهو أسلوب (الفلاش باك).. وذلك
باستعراض شخصيات المذنبين أثناء تكذيب الاتهامات الموجهة لهم، فنحن
ما أن ننتهي من مشهد (فلاش باك) حتى يأتي آخر جديد.. وهكذا. وهذا
ما جعل مشاهد الاستجواب تبدو بطيئة إلى حد الملل، حيث تكرر فيها
نفس السرد الدرامي ونفس حركة الكاميرا الجامدة التي تتحرك بطريقة
آلية، لا تختلف فيه أبداً في كل قصة لكل متهم جديد. ولو أن كاتب
السيناريو حاول البحث عن أسلوب فني آخر، لتجنب هذا الشكل الثابت
الممل، واستطاع أن يخرج بفيلم مثير وشيق.
كما ساعد في ضعف السيناريو، ذلك التطويل والتمطيط في مشاهد كثيرة،
إضافة إلى الحوار الكثيف الذي أضعف من قوة الصورة السينمائية.
فالفيلم في بعض الأحيان يبتعد عن الموضوع الرئيسي إلى تفاصيل لا
داعي لها.. فنحن لا يهمنا إذا كان مدير الجمعية الاستهلاكية (توفيق
الدقن) متديناً ويصلي، أو إنه مدمن مخدرات، بل ما يهمنا هو جريمته
ضد الشعب، وهي الاتجار في بضائع الجمعية لحسابه الخاص، وتوزيعها
على أصدقائه وأقاربه. هذه هي الجريمة المهمة بالنسبة لمضمون الفيلم
ولنا.. كذلك قصة (حياة قنديل) ومشكلتها مع الفقر والرذيلة، كانت
قصة زائدة على الفيلم، ولا تخدم مضمونه بتاتاً. أما علاقة رئيس
مجلس الإدارة (صلاح ذو الفقار) بزوجة صديقه الدكتور (يوسف شعبان)،
بالإضافة إلى أنها كانت بصورة مبالغ فيها وبشكل مقحم على أحداث
الفيلم، فهي كذلك قد فقدت المضمون الذي وضعت من أجله، وذلك لما
احتوته من تطويل أكثر من اللازم، جعلنا نشعر بسذاجة هذه العلاقة.
أما بالنسبة لمضمون الفيلم بشكل عام، فقد افتقر إلى تحليل الفساد
الاجتماعي الذي يعبر عنه، فهو يدين هذه النماذج ويفضحها دون إعطاء
توضيح لأسباب هذا الفساد وكيفية مواجهته. فالتحليل الدرامي
الاجتماعي، يجعل من السينما أداة توعية وليست أداة لامتصاص مشاعر
السخط فقط.
وإذا جئنا إلى الإخراج، فسنلاحظ أن سعيد مرزوق وللمرة الثانية،
يستخدم الأسلوب السهل، في تقديم هذا الموضوع الحساس، أسلوب السينما
التجارية التقليدية. فهو في (المذنبون) لم يستفيد من قدراته الفنية
والتقنية في إبراز كوادر متقنة، وزوايا تصوير مدروسة، لتجسيد مستوى
تقني عالي، قد يفيد ويساهم في نجاح الفيلم فنياً أيضاً، إضافة إلى
نجاحه جماهيرياً (13 أسبوعاً في دار العرض). حتى أن مرزوق قد أخفق
أحياناً في إدارة ممثليه، وخصوصاً في الانفعال المبالغ فيه للمحقق
ومساعده، أثناء استجوابهما للمتهمين، لدرجة أن أحدهم قد نبههما
لذلك. فالمفروض أن يتحلى المحقق بالصبر والهدوء وراحة البال، بل
ويساهم في تهدئة انفعالات المتهم، وليس العكس. ومن أهم مشاهد
الفيلم، ذلك المشهد الذي يصور تدافع الناس نحو طابور الجمعية
الاستهلاكية، وسرقة الفراخ ومعاكسة السيدات، كل هذا جسده مرزوق
بواقعية، ولو كان فيه شيء من المبالغة. كذلك المشهد الجنسي بين
سهير رمزي وعادل أدهم، قدمه بدون إثارة جنسية مبتذلة، وتم في
دقيقتين فقط دون صراخ أو حركة مثيرة.. جسده سعيد مرزوق بلغة الصورة
السينمائية، صورة متطورة ومبتكرة.
وهذا ما يثبت لنا، بأن سعيد مرزوق لديه الكثير من حرفية وتقنية
وإبهار سينمائي، لكنه آثر أن يقدم السهل المتداول، ليحاول كما
يقول: (...الموازنة بين ما أريد أن أقدمه في السينما، وبين ما
تريده الجماهير!!).(4)
وعن (المذنبون) يقول مرزوق: (...هذا الفيلم يعتبر ثلاثة أفلام
مجتمعة.. من حيث أماكن التصوير والمشاهد والممثلين. وأصبحت لي
تجربة كبيرة في الإخراج، كما ربطني هذا الفيلم بأغلب الفنانين
السينمائيين في مصر، وذلك وفر علي وقتاً للتعرف عليهم سينمائياً..
كما أن قصة الفيلم تعالج شرائح مختلفة في مجتمعنا المصري وهي شرائح
متناقضة ومتنافرة!!).
ليس هناك أي خلاف على أن سعيد مرزوق موهبة فينة وإبداعية كبيرة.
وإنه في (المذنبون) قدم موضوعاً جماهيرياً حساساً وهاماً.. إلا أنه
لو أعطى اهتماما أكثر بالسيناريو وجعله قيد البحث والدراسة
المتأنية لاستطاع الخروج بفيلم متكامل جيد وجاد.
*****
إنقاذ ما يمكن إنقاذه
إنتاج عام 1983
بطاقة الفيلم
تمثيل:
مديحة كامل + ميرفت أمين + حسين فهمي + محمود ياسين + دلال عبد
العزيز + توفيق الدقن
ـ
سيناريو وحوار: سعيد مرزوق ـ
قصة: سعيد مرزوق, إبراهيم الجرواني ـ تصوير: محسن نصر ـ مناظر:
ماهر عبد النور ـ مونتاج: فكري رستم ـ إنتاج: الأنوار المصرية
يأتي فيلم (إنقاذ ما يمكن إنقاذه)، بعد انقطاع اضطراري من سعيد
مرزوق عن الإخراج السينمائي دام سبع سنوات.. يأتي ليوقف ويفضح كل
الاتهامات والأقاويل التي واجهها أثناء انقطاعه هذا. كما أنه يأتي
ليجلب معه، أكبر ضجة رقابية يتعرض لها فيلم قبل عرضه، في تاريخ
السينما المصرية، وفيما يبدو أن سعيد مرزوق قد أصبح مقدراً له –
دون قصد طبعاً – أن يقوم بفضح المستوى الفكري والعقلي المتخلف الذي
وصلت له الرقابة، والتنبيه إلى جوانب عديدة، عقلية وإدارية في هذا
الجهاز الخطير.
بدأت مشاكل الفيلم مع الرقابة، بعد الانتهاء من تنفيذه.. علماً بأن
المخرج والمنتج قد حصلا على كل الموافقات المسبقة اللازمة
والقانونية على السيناريو وتعديلاته. ولكن بعد مشاهدة الرقابة
للفيلم جاهزاً، اشترطت عمل بعض التعديلات والحذف، حتى يمكن عرضه
جماهيرياً.
وبعد مشاورات ونقاشات بين الرقابة وبين المخرج والمنتج، رفضا حذف
أي مشهد، إلا أنهما وأمام إصرار الرقابة على موقفها، توصلا إلى وضع
فيه نوع من الاعتدال بحذف بعض المشاهد وتخفيف البعض الآخر. وكان من
الممكن أن يعرض الفيلم جماهيرياً، وينتهي دور الرقابة هنا، إلا أنه
– ولسوء حظ الفيلم والرقابة معاً – قد عرض الفيلم عرضاً خاصاً على
النقاد والمسئولين، بهدف الدعاية للفيلم وأصحابه، ولكن حصل ما لم
يكن في الحسبان، إذ أعلن النقاد في قاعة العرض وعلى صفحات صحفهم
ومجلاتهم، سخطهم على الفيلم وصانعيه، وطالبوا بمنع عرضه ومحاكمة
أصحابه، كما طالبوا بتدخل اللجنة العليا للرقابة وإعادة النظر في
عرض هذا الفيلم على الجماهير، وأشرس نقد وجه للفيلم كان من قبل
الناقد رؤوف توفيق، عندما وصفه بأنه تحريض للإرهاب العسكري والفكري
واتهم مخرجه، في قوله: (هل يتصور ذلك الفتى أنه أصبح عالماً
ومفكراً.. وزعيماً.. وبماذا..؟ بالقتل وسفك الدماء واشعال الفتنة..
هل هذا عقل.. أم جنون؟ هل هذا رأي.. أم هلوسة مريض عقلياً؟ وليس
الأمر مرهوناً بظروف معينة.. ولكن المسألة أكبر من هذا.. المسألة
باختصار.. هل نقبل في أي زمان.. وفي أي مكان.. أن يتم تصحيح
الأخطاء بإعلان الإرهاب!!).
إعادة النظر..!!
وأمام هذا الهجوم على الفيلم من قبل النقاد، ما كان من الرقابة،
ومن وزير الثقافة شخصياً، إلا أن يعيدوا النظر مرة أخرى، في تصريح
الإجازة للفيلم بالعرض، وتمثل في تقرير آخر لمديرة الرقابة.. جاء
فيه: (إن الفيلم يظهر المجتمع المصري بكل طبقاته وطوائفه في صورة
سيئة.. كما جسد الإهمال في التصدي إلى قضايا ومشاكل الجماهير، وصور
الفيلم مصر، باعتبارها بيت دعارة كبير، يديره المنتفعون
والمنحرفون، ولا مكان فيه لأي قيم. كما أبرز أن الحل النهائي
لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، هو في قيام ثورة دينية لتقضي على كل مظاهر
الفساد!! أما مطالب مديرة الرقابة، فهي:
·
تحقيق نوع من التوازن بين مظاهر
الفساد، والمظاهر الإيجابية لمقاومة الفساد، وتصحيح صورة المجتمع
المصري.
·
تعديل نهاية الفيلم بحيث ينتصر الخير
دون ثورة، حشرها المؤلف ليركب الموجة الدينية البارزة في مجتمعنا،
دون أن يحسب النتائج.
·
الحد من مظاهر الفساد المنتشرة في أكثر
من 50% من مشاهد الفيلم.
·
مراعاة اظهار مصر في صورة أنظف، وعدم
التركيز على القاذورات والمنازل المتهدمة والأحياء القديمة.
وأمام مطالب الرقابة هذه، كان لا بد من إعادة الحوار بين الرقابة
وأصحاب الفيلم، للوصول إلى حل وسط، وفعلاً تم الحذف بمعرفة المنتج
بشكل مرضي للرقابة. إلا أن هناك بقيت ملاحظات أخرى، بلغ عددها 15
ملحوظة ما بين جملة حوار ولقطة من مشهد.. ومشهد. لذلك شكلت لجنة من
شيخ المخرجين والنقاد أحمد كامل مرسي والمخرج كمال الشيخ للنظر في
الفيلم وقرار الرقابة ضده، وكان قرارهما في صالح الفيلم نوعاً ما،
حين قررا: (إن الرقابة قامت بحذف بعض اللقطات بالاتفاق مع المنتج،
حتى لا ينطبع في ذهن المشاهدين ضرورة سيطرة بعض الاتجاهات التي
يرفضها المجتمع.. والفيلم كما شاهدناه أصبح خالياً من هذه الإشارة،
وإن كنا نرى حذف لقطة من الفصل الأخير والتي تصور بعض المصلين في
ثياب بيضاء في طريقهم إلى جامع الأزهر في خلفية الكادر، وذلك حتى
لا يتبقى أي إيحاء قد يثير اتجاهاً ضد الفيلم!!).
أما رأي اللجنة العليا للرقابة فكان مع الفيلم بصورته الحالية، بعد
حذف الحديث الشريف (من رأى منكم منكراً...إلخ). وكان من الطبيعي أن
يعترض أصحاب الفيلم على بعض الملاحظات التي أبدتها الرقابة، حيث
تقدموا بتظلمهم إلى لجنة التظلمات للاعتراض على:
·
حذف الحديث الشريف.
·
حذف جملة وردت على لسان السكرتيرة
والراقصة (أنا خريجة كلية آداب.. قسم إنجليزي).
·
حذف كلمة شبرا من جملة (بيدن في شبرا).
وقد جاء قرار لجنة التظلمات ضد أصحاب الفيلم، وموافقاً على ملاحظات
الرقابة في الحذف. وبقرار لجنة التظلمات هذا، يسدل الستار على قضية
الصدام بين الرقابة وصناع فيلم (إنقاذ ما يمكن إنقاذه).
وربما يجد القارئ، أننا قد أطلنا في السرد لهذه القضية، ولكننا نرى
أنها قضية تمثل تجسيد صارخ عن مدى الإجحاف والظلم الذي يتعرض له
الفنان والمبدع، والذي يضطره إبداعه للتعامل مع هذه التناقضات
الفكرية والإدارية الشكلية. وأيضاً توضيح ما تعرض له سعيد مرزوق
وفيلمه، من جهل وإجحاف، خلال ثلاث سنوات، وهي الفترة بين إنتاج
الفيلم وعرضه.
خطأ التعميم!!
فيلم (إنقاذ ما يمكن إنقاذه) من بطولة محمود ياسين وميرفت أمين
وحسين فهمي، ومن إخراج سعيد مرزوق، الذي كتب له السيناريو والحوار
المخرج نفسه، يطرح نماذج كثيرة للفساد والانحراف، كما يطرح فكره
السياسي والاجتماعي المتعلق بالواقع الاقتصادي وإفرازاته. وهو بذلك
يفترض انهيار القيم الأخلاقية وسيطرة رجال الانفتاح على مجريات
الأمور. وهو يدعو لمحاربة هذا الفساد وتدارك الأمر وإنقاذ ما يمكن
إنقاذه قبل فوات الأوان. وهذا بالطبع هدف إيجابي قدمه سعيد مرزوق.
كما إن أسلوبه الفني الذي اختاره لتجسيد ذلك هو أسلوب علمي كأحد
مناهج الفن السينمائي، وهو تعرية السلبيات والتنبؤ بالأخطار التي
تهدد كيان المجتمع. وهذا أيضا من حقه كفنان يقدم وجهة نظره فيما
يدور من حوله. وعلينا نحن كمتلقين احترام وجهة النظر هذه حتى لو
اختلفنا معها. فمجمل الاتهامات التي وجهت للمخرج وفيلمه هذا والتي
مفادها بان الفيلم يسيء إلى مصر والى الثورة، جميعها اتهامات
باطلة. فسعيد مرزوق قد أوضح موقفه وأكد على عدم التعميم، حيث جاء
ذلك على لسان إحدى شخصياته في الفيلم. ثم أن مقولة (الإساءة إلى
مصر) أصبحت متداولة كثيراً في تلك الفترة، بل واتخذت كسلاح فكري
وإرهابي استخدمه البعض لمحاربة المختلفين معهم في وجهة النظر.
وبهذا أراد هؤلاء سلب حرية سعيد مرزوق ووسيلته في التعبير عن وجهة
نظره في المتغيرات التي ظهرت في مجتمعه. فهو بفيلمه هذا يسلط
الأضواء على نماذج وشخصيات ظهرت في مجتمع الانفتاح، يكشفها ثم
يدينها، وليس هذا إلا اثباتاً من سعيد مرزوق على حبه وحرصه على
بلده، وطموحه في أن يرى مجتمعه خالياً من هذه السلوكيات
والانحرافات. وهذا ليس دفاعاً عن مرزوق فحسب، وإنما دفاعاً عن حرية
الفنان في التعبير عن رأيه وموقفه تجاه مجتمعه، بشرط أن لا يتعدى
هذا الرأي حدود المعقول، وأن يكون قائماً على حقائق واقعية ملموسة،
فهو بهذا يؤدي دوره كفنان مسئول من المجتمع.
وفي حديث عن هذا الفيلم يقول سعيد مرزوق: (...ان جميع الأشخاص
والسلبيات التي تعرضت لها، ليست جديدة على المجتمع، بل هي موجودة
فيه، وإن التغاضي عنها يعد كارثة. وما صورته منشور في الصحف
القومية التي يكتب فيها النقاد، الذين شنوا حملة هجوم على الفيلم
(...) أما الفيلم من وجهة نظري كمخرج، فقد أردت منه إعطاء ضوء أحمر
لكل ما هو سلبي وخطير ومسبب لأزمة!!...).
أما اتهام هؤلاء بأن سعيد مرزوق قد أدان الثورة وهاجمها، فهذا أمر
مردود عليه، فكيف يكون ضد الثورة، وهي التي أعطته مقومات وجودة
كمخرج وإنسان، وهو الذي قدم واحداً من أصدق الأفلام التسجيلية عن
رحيل زعيم هذه الثورة، وكيف يمكن له أن يتنكر لهذه الزعامة. يقول
سعيد مرزوق: (...من حقي أن لا أؤيد ثورة يوليو، ومن حقي ألا أتعاطف
معها.. لكنني لم أتجاهلها.. فأمل بطلة الفيلم ترمز إلى جيل الثورة،
كذلك المحافظ هو أيضاً ينتمي للثورة، وهما من الشخصيات الإيجابية..
أيضاً ضابط البوليس...).
بعد كل هذا، نأتي لنناقش سعيد مرزوق وفيلمه نقاشاً فنياً، بعيداً
عن كل ما هو خارج هذا الإطار، مع ملاحظتنا بان غالبية المقالات
التي نشرت عن الفيلم، لم تتخذ أسلوب النقد الفني، بل اهتمت بما
يطرحه الفيلم من فكرة وموضوع، بينهم من هاجم وبينهم من دافع عن
الفيلم ومخرجه.
فالفيلم بشكل عام، اتصف بالمباشرة في الطرح السياسي والفكري، كما
انه جاء مشحوناً بالحوار الكثيف، مما أضعف من لغة الصورة
السينمائية. فالفيلم يعلن منذ أول مشاهده، وبشكل مباشر، عن مضمونه
واتجاهه السياسي، هذا إضافة إلى الشكل السينمائي التقليدي، حيث لم
يقدم السيناريو أي جديد، لا على مستوى اللغة والتعبير السينمائي
ولا حتى علي مستوى المضمون.
لقد اعتمد سعيد مرزوق علي نفس الأسلوب الذي قدمه من قبل في فيلمه
(المذنبون). أي انه في فيلمه (إنقاذ ما يمكن إنقاذه) قدم أيضا ما
يشبه الريبورتاج المصور، وذلك باستعراضه لما يراه هو من سلوكيات
وأخلاقيات صاحبت مرحلة الانفتاح، والتي شاهدناها في أفلام مصرية
كثيرة، علماً بان مرزوق هنا قدمها بشكل أكثر جرأة، محاولاً إلباس
الفيلم ثوباً سياسياً فضفاضاً ليميزه عن تلك الأفلام.
احتوى الفيلم على مشاهد لم تمثل أية إضافة ضرورية لمضمون الفيلم،
بل وساهمت أيضا في ضعف السيناريو والتمطيط فيه.. مثل مشهد (الفلاش
باك) الذي يصور الباشا وهو يطبب المتظاهرين في قصره.. كذلك مشهد
حلقات الذكر التي اشترك فيها حسين فهمي وميرفت أمين.. أيضا هناك
مشهد الحب التخيلي بينهما، الذي جاء على الأرجح كضرورة إنتاجية
تجارية في المقام الأول، هذا بالرغم من انه نفذ بشكل متقن وبارع،
محملاً بإيحاء جنسي مثير غير مبتذل.. هذا إضافة إلى مشهد (الفلاش
باك) الذي يظهر شخصيات الفيلم أيام زمان وهم في القارب، فقد كان
مطولاً لدرجة الملل، بالرغم من الجهد الفني المبذول من المخرج في
تنفيذه، حيث جعل مرزوق الكاميرا تدور حول القارب لتكشف عما بداخله
من وراء الملايات.. أما مشهد القبض على مسببي الفساد، فقد احتوى
على الكثير من المبالغة في الأداء وحشره بمواقف وحوار كوميدي، مما
أضعف المشهد وجرده من إيحاءاته الأساسية الجادة، مع ملاحظة إن سعيد
مرزوق استخدم شخصية سمير غانم الهزلية في محاولة منه إضفاء طابع
كوميدي ترفيهي اعتقد بأنه مرغوب من المتفرج.
عندما أراد سعيد مرزوق كتابة هذا الفيلم، حاول تلافي الانتقادات
التي وجهت لفيلمه (المذنبون) وهي عدم توضيح أسباب الفساد وكيفية
مواجهته.. لذلك نراه في فيلمه التالي يدين الفساد ويحذر من الآثار
التي ستترتب عليه، بل ويدعو في النهاية إلى مواجهته. إلا أن هذا قد
أضر كثيراً بالفيلم ولم يفده، باعتبار إن الفن بشكل عام ليس
مطلوباً منه تقديم حلول، وإنما التنبيه إلى السلبيات والمشكلات.
يقول سعيد مرزوق: (...في فيلم المذنبون لم أقدم الحل، وتعرضت
للمشكلات.. ولكنني هذه المرة أضع الحل، وأقول إنه إزاء الظاهرة
التي استشرت في البلاد، وتفاعلت وامتدت جذورها، فالأمل بالنسبة لها
ضائع، ولا وقت للدموع والتباكي عليها، إذ يجب علينا التطلع إلى
الأمل والمستقبل...).(12)
لذلك جاءت نهاية الفيلم مباشرة، عندما سيطرت السلطة الأمنية على
مجريات الأمور وألقت القبض على شلة المنحرفين. لقد أراد سعيد مرزوق
أن يطرح الحلول لكل تلك الانحرافات، ولكنه لم يوفق في ذلك فنياً،
فلو انه اتخذ من التحليل الفكري السياسي والاجتماعي عوناً في
محاربته لمسببي الفساد، لاستطاع الابتعاد عن تلك النهاية المباشرة
والتقليدية التي شاهدناها كثيراً في أفلام الانفتاح وما قبلها.
وبالرغم من كل هذه السلبيات، إلا أن هناك عناصر سينمائية أخرى
استفاد منها سعيد مرزوق في فيلمه هذا ووفق في استخدامها.. فقد كان
للمونتاج دور كبير في إضفاء نوع من التشويق والحركة على الفيلم..
كذلك التصوير حيث كانت حركة الكاميرا متميزة بل ومبهرة في أحيان
كثيرة، وتمتاز بالحيوية والخفة والتلقائية، وذلك أثناء حركتها في
المطار وتجوالها في القصر وانسيابها بين زوايا مركز الشرطة ودهاليز
المحافظة، فقد كشفت بشكل خاطف وموح، عن بعض مشاكل المواطنين مع
الروتين وانتشار الواسطة. كما أن مرزوق قد وفق إلى حد كبير في جعله
من مشهد الاغتصاب الأخير دعوة للمواطنين بالمشاركة في التخلص من
الفساد، وذلك بتجسيد هذا المشهد من خلال مكبر الصوت. فليس من
الطبيعي أن يقف أي مواطن مكتوف الأيدي أمام موقف مثير كهذا، تمثل
في صرخات الاستجداء والنجدة التي تطلقها ميرفت أمين من خلال مكبر
الصوت. كما إن هذا قد فات على الدين وصفوا الفيلم بأنه يدعو إلى
الثورة والإرهاب، بتدخل المواطنين بالعصي في النهاية.
يبقى أن نقول بان سعيد مرزوق بفيلمه هذا قد نجح في تقديم فيلم
تجاري جاد، استطاع من خلاله الجمع بين الكوميديا والرقص والحشيش،
إضافة إلى النقد الاجتماعي. في محاولة منه لتقديم توابل السينما
التجارية، وإعطاء صفة جماهيرية للفيلم وضمان نجاحه تجارياً.
*****
الغول
إنتاج عام
1982
بطاقة الفيلم
تمثيل: عادل إمام + نيللي + فريد شوقي + صلاح السعدني + حاتم ذو
الفقار ـ اخراج: سمير سيف ـ تصوير: سمير فرج ـ تأليف: وحيد حامد
ـ مناظر: ماهر عبد النور ـ موسيقى: هاني شنودة ـ مونتاج: سلوى
بكير ـ إنتاج: أفلام مصر العربية
حكاية فيلم
(الغول ـ
1982)
سبق وان قدمت في الاذاعة تحت اسم (قانون ساكسونيا). عند الانتهاء
من تجهيزه كفيلم، وطبع النسخة الاولى منه، عرض في مبنى الرقابة
لإجازته والسماح بعرضه جماهيرياً، لكن عقب انتهاء العرض الخاص جاء
في تقرير الرقباء ما يلي: (...رأت اللجنة ان هذا الفيلم يعد مظاهرة
سياسية مضادة للنظام القائم في البلاد ومعاداة لنظام الحكم
ومؤسساته القضائية، وإتهام بعض أجهزة الدولة بالتواطؤ مع
الرأسمالية ضد مصالح الشعب، ويشجع بل يدعو الى الثورة الدموية ضد
أصحاب رؤوس الاموال. كما تؤكد اللجنة ان هذه المعاني من شأنها
التأثير بطريقة سيئة على عقول الشباب وتزعزع ثقتها في القضاء وغيره
من أجهزة الدولة. كما تضمن المصنف بعض المشاهد والاحداث التي تبدو
وكأنها نوع من المتاجرة ببعض الاحداث المحلية المتعاقبة والجارية
على النحو الذي يصبغه بطابع سياسي على جانب كبير من الخطورة...).
وبناء على هذا التقرير الرقابي منع عرض الفيلم داخل مصر وخارجها.
وعندما عرض في قاعة النيل عرضاً خاصاً حضره أكثر من خمسمائة شخص من
الكتاب والنقاد والسينمائيين، كان لهم رأي أخر في ان الرقابة قد
افترضت إسقاطات بعيدة كل البعد عما جاء في الفيلم.
وأثيرت هذه القضية الفنية في الصحافة وهوجمت لجنة الرقابة من قبل
النقاد والسينمائيين حتى استدعت القضية ان يكون الحكم فيها بيد
وزير الثقافة شخصياً، الذي أصدر قراراً فيما بعد بعدم منع الفيلم
وصرح بعرضه جماهيرياً.
يتعرض (الغول) لبعض جوانب الفساد الاقتصادي والاجتماعي وسيطرة
المادة التي يمكن بواسطتها شراء كل شيء، إلا عندما يستيقظ الضمير
الانساني رافضاً هذه المساومة.
فيلم (الغول) للمخرج سمير سيف، أول دور بطولة جاد يقدمه الفنان
عادل إمام، حيث كان اسمه ـ قبل هذا الفيلم ـ بمثابة الماركة
المسجلة للفيلم الكوميدي. لذلك كان هذا الفيلم مفاجأة للجمهور بكل
مستوياته.. فاجأهم عادل إمام بفيلم جاد وحزين ايضاً يناقش قضية
اجتماعية سياسية، ويتحدث عن مجتمع الانفتاح وسلبياته.
تدور أحداث الفيلم حول قضية قتل متعمد لأحد الموسيقيين وإصابة
راقصة بحادث سيارة، والفاعل هو ابن أحد كبار الانفتاحين الذي يحاول
بأساليبه الملتوية ان يسقط التهمة عن ابنه لكي تحفظ القضية ضد
مجهول. إلا ان الصحفي الذي صادف ان يكون شاهداً للحادث يصر على ان
تأخذ القضية مجراها الطبيعي أمام القضاء. لذلك يقرر الوقوف ضد
محاولات الانفتاحي الكبير والتصدي له، لكنه لا يستطيع الصمود أمام
هذا الغول وتياره الجارف، فنراه يصاب باليأس والاحباط والشعور بلا
جدوى الحياة، فيقرر تنفيذ حكم الاعدام في هذا الغول نيابة عن
المجتمع. وينتهي الفيلم بسقوط الغول صريعاً بضربة من ساطور الصحفي.
كتب سيناريو الفيلم وحيد حامد معبراً بصدق عن مساوئ مجتمع الانفتاح
ورجاله وتأثيرها على العلاقات الاجتماعية والاخلاقية. أما المخرج
سمير سيف فقد نجح فعلاً في تقديم فيلم مثير وجريء، أحداثه متصاعدة
درامياً حتى تصل الى ذروتها في النهاية. كل ذلك كان بشكل مقنع وغير
مفتعل.
ربما لا يتفق الكثيرون مع نهاية الفيلم، والتي تمثل حلاً فردياً
لقضية اجتماعية عامة معقدة وخطيرة كهذه، بينما من المفترض الدعوة
الى الحل الجماعي عن طريق توعية أفراد المجتمع. وقد برر صناع
الفيلم هذه النهاية عندما قدموا لنا في لقطة عابرة مكتب الصحفي في
البيت، لنشاهد بشكل خاطف كتاباً عن الارهابي كارلوس. كما مر عدة
مرات على جدران بيته لنلاحظ بعض الصور والملصقات غير الطبيعية.
وهنا إيماءة على ان الصحفي ذو ميول تمردية بطولية.
كما ان المخرج نجح الى حد كبير في تنفيذ مشهد قتل الغول، فقد كان
جريئاً جداً في ذلك. فبعد ان ضُرب الغول على رأسه سمعناه يصرخ (مش
معقول.. مش معقول) وهو يتراجع الى الخلف متأثراً بالضربة التي قضت
عليه، ثم الفوضى التي أعقبت ذلك.. كل هذا يوحي بحادث المنصة وقتل
الرئيس السادات.
لقد أدى عادل إمام واحداً من أصعب ادواره في السينما، فقد كان
الدور مليئاً بالمواقف المختلفة والمشاعر المتضاربة، وجاء تجسيده
لشخصية الصحفي موفقاً الى حد كبير، فأعطى للدور مجهوداً كبيراً حتى
انه جعل المتفرج يتعاطف معه الى درجة كبيرة، ويقبل حله الفردي.
و(الغول).. فيلم سيظل من الافلام المهمة التي تناولت سياسة
الانفتاح.
*****
الميهي والرقابة والمجتمع:
واجه المخرج والمنتج (رأفت الميهي) عدة مشاكل جلبتها له أفلامه.
فقضية (الأفوكاتو) لا تخفى على أحد، حيث حوكم الفيلم ومخرجه
ومنتجه، وكذلك بطله (عادل إمام)، من قبل القضاء المصري بتهمة تشويه
مهنة المحاماة، وهي قضية تعد سابقة خطيرة في تاريخ السينما
المصرية.
فقد استشاط الجميع غضبًا من تقديم (الميهي) لشخصياته في الفيلم،
وأقيمت ضده الدعاوى وطالبوا بإيقاف عرضه لأن الفيلم أهان القضاء
وأساء لسمعة الدولة، نال (رأفت الميهي) و(عادل إمام) حكمًا بالحبس
لمدة عام، وبعد ذلك حصلا على البراءة، والغريب في الأمر أن القاضي
الذي أصدر حكم الحبس أصبح فيما بعد أشهر محامي في مصر كلها وهو
(مرتضى منصور).
ادعى (مرتضى منصور) أنه شاهد الفيلم واستفزه مشهد مغازلة القاضي
لإسعاد يونس بطريقة لا تليق، فحكم بالحبس لمدة عام على عادل إمام
بطل الفيلم، رأفت الميهي المؤلف والمخرج، ويوسف شاهين موزع الفيلم،
بالإضافة للممثل حمدي يوسف الذي قام بدور القاضي. تدخلت نقابة
السينمائيين وأصدر المحامي العام لنيابات الجيزة قرارًا بإيقاف
التنفيذ، وقدم (مرتضى منصور) استقالته لأنه رأى أن صرح العدالة
يهتز، والقانون في مصر لا يطبق إلا على الضعفاء والفقراء، والعدالة
يتم تطبيقها على أناس دون آخرين، واتهمه (عادل إمام) بمحاولة
الحصول على رشوة، فتقدم (مرتضى) بدعوى سب وقذف وحُكم على (عادل
إمام) بالحبس ستة أشهر وغرامة مليون جنيه لكنها أُلغيت بعد اعتذار
(عادل) لمرتضى في الصحف.
أما فيلمه (للحب قصة أخيرة) فهي قضية أخطر بكثير، حيث أتهم المخرج
وبطلا الفيلم (معالي زايد ـ يحيى الفخراني) ومنتجه (حسين القلى)
بتهمة تصوير فعل فاضح وإحالتهم الى نيابة آداب القاهرة. كل هذا
بسبب مشهد حب بين الزوجين.. علماً بأن مشاهد الحب في الفيلم قد
نسجت ضمن إطار فني هدفه الإبداع وليس الإثارة، مشاهد حزينة تنعي
المصير الجسدي لعلاقة شاعرية مصيرها الموت.
في "للحب قصة أخيرة"، كان هناك مشهداً مثيراً للجدل، يتضمن مشهد
ساخن بعكس ما اعتاده عليه الجمهور، الرقابة قامت بدورها واجازت عرض
المشهد، على شاشة السينما. على اعتبار بأن مشاهد الحب في الفيلم قد
نسجت ضمن إطار فني هدفه الإبداع وليس الإثارة، مشاهد حزينة تنعي
المصير الجسدي لعلاقة شاعرية مصيرها الموت. وفجأة يتلقى الفنان
يحيي الفخراني، وكان بأوج نشاطه الفني وقمة تألقه في الثمانينات،
إنذار بالمثول أمام نيابة الآداب، بسبب مشهد سينمائي فاضح، في أحد
أهم الأفلام التي شارك فيها مع الفنانة معالي زايد.
حيث أن أحد الشخصيات الضباط هاجم الفيلم بشراسة، وقدم بلاغًا ضد
الفنان يحيى الفخراني، ومعالي زايد بتهمة ممارسة الجنس في
الاستوديو، وتم بالفعل استدعائهما مع المخرج عن طريق شرطة الآداب.
وبالفعل، تم التحقيق مع يحيى الفخراني والفنانة معالي زايد وزوجها
المخرج رأفت الميهي في نيابة الآداب، وأفرج عنهم بعد التحقيق.
*****
الأفوكاتو
إنتاج عام 1983
بطاقة الفيلم
تمثيل: عادل إمام + يسرا + حسين الشربيني + إسعاد يونس + صلاح نظمي
ـ إنتاج وتأليف: رأفت الميهي ـ تصوير: ماهر راضي ـ مناظر: نهاد
بهجت ـ موسيقى: هاني شنودة ـ مونتاج: سعيد الشيخ
قدم المخرج وكاتب السيناريو رأفت الميهي فيلمه (الأفوكاتو) عام
1983، وهو فيلم ينتمي إلى ما يسمى بالكوميديا السوداء، ليقدم لنا
كوميديا راقية وهادفة، افتقدتها السينما المصرية منذ أيام نجيب
الريحاني (إن صح التعبير)، واضعاً نصب عينيه الرواج الجماهيري
للفيلم الكوميدي، ومستغلاً ذلك لتصحيح الاعتقاد الخاطئ والسائد عن
الكوميديا، خصوصاً إن الأفلام التي تناولت الكوميديا ـ وما أكثرها
ـ تناولتها بشكل تجاري بحت، متخذة من التهريج طريقاً للربح المادي.
فالكوميديا هي أكثر الفنون الدرامية تعرضاً للظلم والإجحاف، في كل
زمان ومكان. وذلك نتيجة ذلك الاعتقاد السائد بأن الكوميديا هي فن
الإضحاك والتهريج فقط. علماً بأن الكوميديا - على غير ما هو شائع -
ليست بعيدة عن مشاكل الإنسان وقضاياه الحقيقية. وهذا بالضبط ما
فعله الميهي، عندما قدم (الأفوكاتو) ليكون نموذجاً للكوميديا
الهادفة، مبتعداً عن الإسفاف والتهريج.
ومنذ أن بدأ رأفت الميهي الكتابة للسينما، كان اهتمامه منصباً على
معالجة هموم الإنسان المصري والعربي وقضاياه السياسية الاجتماعية
والنفسية، ويبدو ذلك جلياً في فيلمه الأول كمخرج (عيون لا تنام)،
حيث تناول فيه وبواقعية أحد الأمراض الاجتماعية المتفشية في
المجتمع. كذلك يواصل الميهي التعبير عن هذا الواقع في فيلمه
(الأفوكاتو)، وإنما من خلال رؤية سينمائية مختلفة وجديدة وبأسلوب
اعتمد فيه على عدم التقيد بقوانين الواقع، بل إنه لجأ إلى
الفانتازيا. واستطاع ـ بهذا الأسلوب ـ أن يتجاوز المحاذير التي ظلت
بعيدة عن النقد والتعرض لها من خلال السينما، عن طريق غير مباشر
وساخر في نفس الوقت.. فهو يسخر من شخصية المحامي، ويسخر من السلطة
القضائية، ويسخر من السجن والسجان، وكذلك يدين الطبيب والمأذون
الشرعي.. وكل هذه رموز للمجتمع والسلطة، أدانها وكشف بعض أوراقها،
باعتبارها أنماط فاسدة استطاعت استغلال سلطاتها لتحقيق مصالحها
الشخصية، وهي إفراز طبيعي لمجتمع الانفتاح الفاسد.
وقد نجح رأفت الميهي في اختياره لشخصية المحامي حسن سبانخ (عادل
إمام) بصفته رجل القانون المدافع عن الحق والعدالة، ليكون هو
المتلاعب بهذه العدالة. فهو يستخدم المسافة بين القوانين والواقع
ليقلب الحقائق ويجعل من البريء متهماً وبالعكس. ومن خلال هذا
التناقض تحدث عملية فرز للمواقف الاجتماعية التي يريد أن يعريها
ويكشفها في حياتنا اليومية.
يتحدث رأفت الميهي، فيقول: (...حسن سبانخ هو كل مسئول يحيد عن أداء
واجبه، هذا هو مفهومي للسينما، فهي نقد الواقع وكشفه. وإذا كان
هناك من يريد إبقاء الواقع على ما هو عليه فإنني لست كذلك. والفن
لا ينبغي عليه أن يلعب هذا الدور (...) إن ما تعلمته في حياتي إن
السينما هي أداة الناس لنقد السلطة والمسئولين...).
وفيلم (الأفوكاتو) لا يعتمد على ما تقوله الحدوتة، بقدر اعتماده
على المواقف الاجتماعية والكوميدية الساخرة. وقد استطاع الميهي
(المخرج) أن يجسدها بأسلوب فني بسيط وغير معقد، ابتعد فيه عن أسلوب
الإبهار، واحتفظ فقط بالحرية في تنفيذ المشهد، حتى بدت المشاهد
كاريكاتورية، وهي ـ بالطبع ـ صفة من صفات الفانتازيا.
نهاية الفيلم جاءت على غير المتوقع، فالفيلم يقدم صدمة للمتفرج
ويجعله يخرج من الفيلم بشعور من الاكتئاب، بالرغم من كوميديا
الموضوع التي يعيشها طوال أحداث الفيلم. ولعل هذا نتيجة للكم
الهائل من السلبيات والعيوب التي يبرزها لنا الفيلم ويعيشها
المجتمع المصري، إن لم يكن العربي بشكل عام.
مشهد النهاية، وعدة مشاهد أخرى، تؤكد لنا بأن الفيلم قد نفذ بشكل
يتم فيه تحطيم وكسر قوانين الواقع، وإلا لكانت النهاية مضحكة
كنهايات الأفلام الكوميدية التقليدية.
*****
للحب قصة أخيرة
إنتاج عام 1984
بطاقة الفيلم
تمثيل: يحيى الفخراني + معالي زايد + أحمد راتب + تحية كاريوكا +
عبدالعزيز مخيون ـ تأليف: رأفت الميهي ـ تصوير: محمود عبد السميع ـ
مناظر: ماهر عبد النور ـ موسيقى: محمد هلال ـ مونتاج: سعيد الشيخ
(للحب قصة أخيرة) هو فيلم للمبدع المصري رأفت الميهي، والذي يحاول
منذ سنوات، التغلب على مشاكل المرض والشيخوخة، متجاهلاً قدر
الإمكان ذلك الإهمال الذي يلاقيه من قبل القائمين على الفن
والسينما في بلاده.
يأتي هذا الفيلم المتميز، وهو الثالث في مشواره مع الإخراج، ليؤسس
أسلوباً جديداً في السينما المصرية، وليجمع بين الواقعية المؤلمة
والجمال في نفس الوقت. واستطاع الميهي (كمخرج) بهذا الفيلم أن يصل
بصورته السينمائية إلى درجة عالية من الإتقان والجودة بقدر عنايته
بمعالجة الواقع بصدق.
فيلم (للحب قصة قصيرة) هو مزيج من العلاقات الإنسانية المتناقضة،
وهو ـ أيضاً ـ مزيج من الحب والكراهية.. الحياة والموت، فهو يتحدث
عن الوضوح والغموض.. عن الصدق والزيف.. الصحة والمرض.. الخرافة
والعلم.
يقدم لنا رأفت الميهي بفيلمه هذا، ومن خلال كاميرا شاعرية ذات
حساسية، موقعاً سكانياً في وسط النيل (جزيرة وراق العرب)، عالم
يكاد يكون منسياً ومعزولاً عن تطورات المدينة، لا نعرف عنه شيئاً.
يقدمه لنا الميهي بواقعية حقيقة في مشاهد شديدة الخصوصية، متغلغلاً
بكاميرته بين أفراح الناس وجنازاتهم، أحلامهم ومعتقداتهم من شعوذة
وطقوس.
الفيلم يتأرجح بين الخاص والعام، في بناء فني متماسك. فمن بين
الخلفية الاجتماعية لمجتمع الوراق، تبرز عدة وجوه وشخصيات تنفصل عن
الطابع العام لتأخذ طابعها الخاص، ويقدم الميهي من خلالها جرعات
شاعرية قوية من العلاقات الإنسانية. فمثلاً، هناك المدرس رفعت
(يحيى الفخراني) وزوجته سلوى (معالي زايد)، والتي تزوجها رغماً عن
أمه المتكبرة (تحية كاريوكا)، بعد أن خيرته بين حبه وبين ثروة
والده. رفعت مصاب بداء القلب، والموت يهدده في أية لحظة، لذا يتفق
مع الدكتور حسين على كذبة مفادها أن تخطيط القلب الذي أطلعت زوجته
على نتيجته غير صحيح، وإن رفعت يمكنه أن يعيش مائة عام قادمة.. كل
هذا لأنه شعر بمدى العذاب الذي تعيشه زوجته. إلا أن هذا الاتفاق
يتصادف توقيته مع ذهاب سلوى لزيارة الشيخ التلاوي لشفاء زوجها،
فتحاول أن تقنع نفسها بأن هذا من بركات الشيخ، وتعيش في وهم
السعادة المزيفة لعدة أيام، حتى تخبرها أم رفعت بالحقيقة. عندها
يموت رفعت بعد قراره السفر للعلاج، فيموت الوهم في داخلها، وتفيق
على الحقيقة المؤلمة. لذا نراها تذهب إلى مقر الشيخ التلاوي، وكر
الخرافة والشعوذة ومركز أوهام الجزيرة، لتجد كرسي الشيخ وبجانبه
بقايا لأدوات تستخدم لتعاطي الحشيش والمخدرات. تقترب سلوى من
الكرسي وتضربه بالفأس الذي بجانبه، تضربه بشكل عصبي يائس، وكأنها
تؤكد بأن هذا الوهم يجب تحطيمه، وإن الإنقاذ لن يأتي أبداً من خارج
الفعل الإنساني.
هناك ـ أيضاً ـ علاقات إنسانية ثانوية ولكنها لا تقل أهمية. هناك
مثلاً الوالدين اللذين ينتظران ابنهما الغائب والذي لا يعود منذ
خمس عشرة عاماً، فالأم تعتقد بأنه مات وتخفي عن الأب، والأب يخفي
عن الأم الحقيقة بأن ابنها قاتل وهارب.. كلاهما يتحاشى الألم
والصدمة النفسية للآخر.
كذلك نرى الدكتور حسين (عبدالعزيز مخيون) الذي يحب والدته العجوز
ويقرر البقاء معها لخدمتها في الوراق، تاركاً زوجته وأولاده يعيشون
في الضفة الأخرى من النهر بالزمالك حيث الثروة والمال يطغيان على
العواطف والأحاسيس، وبالرغم من أنه متزوج وله طفلان إلا أنه غير
كامل من الناحية الجنسية، يعيش عذاب نفسي حاد لا يتخلص منه إلا
عندما تتوفى والدته في نفس الوقت الذي يعيش فيه لحظة توهج جنسي مع
الغازية على السرير المحاذي لسرير الأم، هنا يتحرر الدكتور من
عذاباته وعقدته في أن يخرج إلى حياة جديدة.
وبالرغم من كل هذه الأحاسيس والمشاعر الإنسانية السامية التي جسدها
رأفت الميهي في هذا الفيلم، إلا أن البطولة المطلقة كانت للكاميرا،
التي استطاع الميهي توظيفها بشكل مبتكر وشديد الحساسية، وقدم بها
رؤية ووثيقة واقعية هامة عن مجتمع الوراق، وذلك من خلال سيناريو
أخاذ ومدروس بعناية، يحمل في طياته مواقف وشخصيات قادرة على أن
تؤلمنا وتثيرنا وتشدنا بشكل حميمي إلى واقعها الأليم.
بفيلم (للحب قصة أخيرة) يكون رأفت الميهي قد استطاع أن يصل إلى
درجة متقدمة من الشمولية والإبداع، وذلك لتمكنه من تقديم تقنية
عالية ومقدرة فذة في التأثير في المتفرج في نفس الوقت. وسوف يظل
هذا الفيلم طويلاً محفوراً في ذاكرة المتفرج، كما سيظل علامة بارزة
في تاريخ السينما المصرية.
*****
البريء
إنتاج عام 1985
بطاقة الفيلم
أحمد زكي +
محمود عبد العزيز + إلهام شاهين + ممدوح عبد العليم + جميل راتب +
صلاح قابيل + أحمد راتب
ـ
تأليف: وحيد حامد ـ تصوير: سعيد شيمي ـ مونتاج: نادية شكري ـ
موسيقى: عمار الشريعي ـ مناظر: رشدي حامد ـ إنتاج: فيديو 2000 ـ
سميرة أحمد و صفوت غطاس
يعتبر «البريء»
من الأفلام الجريئة
القليلة التي تناولت السلطة ونظام الحكم. فقد أثيرت حوله ضجة
رقابية وإعلامية بسبب اعتراض الرقابة والحكومة المصرية على الكثير
من مشاهده، وبالتالي تأخر عرضه كثيراً.
فقد واجه فيلم
«البريء»
بعقبات كثيرة جعلته حبيس الأدراج لمدة 19 عاما، وذلك حين اعترضت
الرقابة على المصنفات الفنية على عرضه وطلبت حذف أكثر من ثلاثين
مشهدا من الفيلم حتى تجيز عرضه كما اعترض على عرضه وزير الثقافة
السابق الدكتور أحمد هيكل عام 1986، وفى المقابل رفض المخرج عاطف
الطيب حذف أي مشاهد من الفيلم فمنع عرضه.
وتقدم مخرج الفيلم «عاطف الطيب» بطلب جديد للسماح له بعرض فيلم
البريء، فشكلت لجنة رقابية من وزراء الدفاع ـ أبو غزالة ـ
والداخلية ـ أحمد رشدى ـ والثقافة ـ أحمد هيكل لمشاهدة الفيلم
وانتهت إلى ضرورة تغيير نهاية الفيلم بعيدا عن التصفية الجسدية
للبطل، وفى عام 2005 وافق الوزير فاروق حسنى على عرض الفيلم دون
حذف أو إضافة أو تشويه تكريما للفنان أحمد زكي الذى حصل على جوائز
متعددة عن هذا الفيلم في الخارج.
يحكي الفيلم عن أحمد سبع الليل (أحمد زكي) الفلاح البسيط، ويروي
أدق التفاصيل عن حياته اليومية في الريف، حيث يعيش هذا الفلاح
مسالماً في قريته، ملتحم بالأرض وهمومها، مهتم بأهله وبمشاغله
الحياتية المعيشية واستمرارية الحياة. كل هذا قبل أن يطلب للخدمة
العسكرية، ويعين حارساً في معتقل سياسي بالصحراء. ويرى بنفسه أبناء
الوطن يزجون في السجون. وعندما يسأل سبع الليل.. من هؤلاء
المواطنين الذين يعاملون بهذه القسوة؟ يأتيه الجواب.. بأنهم أعداء
الوطن!! ولأنه مفروض عليه بأن يحمي الوطن فعليه أن يكون شرساً في
معاملته لهؤلاء. وبذلك يتحول سبع الليل الى جلاد لنخبة من أدباء
ومثقفين مصريين.. ويكون كلباً من كلاب الضابط شركس (محمود عبد
العزيز) هذا العسكري السادي الذي يتلذذ بتعذيب المعتقلين بوحشية.
وفي يوم يصل فوج جديد من المعتقلين، ليجد هذا الفلاح البسيط نفسه
مضطراً لتعذيب ابن قريته ورفيق صباه حسين (ممدوح عبد العليم). هنا
يبدأ سبع الليل في التشكيك فيما يقوم به، حيث لا يمكن أن يكون حسين
عدواً للوطن!! هكذا يلح الهاجس عند سبع الليل. فيرفض تنفيذ أوامر
الضابط، لدرجة أنه يفضل أن يسجن مع صديقة حسين في زنزانة واحدة.
وتصل الأمور لذروتها، عندما يموت حسين من جراء التعذيب أمام
ناظريه. وإنتقاماً لصديقه ولمجمل المعتقلين الأبرياء، يتناول سبع
الليل بندقيته الرشاش وهو أعلى برج المراقبة ويصوب على كل حراس
المعتقل في غضب وتحدي. وبعد أن يقضي على الفساد (هكذا يعتقد)،
يتناول سبع الليل نايه الذي كان قد أمر برميه سابقاً، ويبدأ في
العزف عليه، لولا أن رصاصة تنطلق من بندقية «بريء» آخر ترديه
قتيلاً. لينتهي الفيلم بـالبريء الجديد وهو يسير بفخر مبتعداً بين
جثث الجنود، معتقداً بأنه قد قام بواجبه تجاه الوطن.
عند الحديث عن فيلم (البريء)، لا بد لنا من التوقف كثيراً أمام
أداء أحمد زكي كفنان كبير يمتلك طاقات تمثيلية عبقرية، تشكل
اختياراته لأدواره عاملاً مهماً في تألقه الفني. ففيلم (البريء) هو
فيلم أحمد زكي بحق. وهذا ـ طبعاً ـ ليس إنتقاصاً من تميز فيلم جريء
عميق الدلالة قوي الإخراج، وإنما هي حقيقة واضحة تؤكد بأن الفيلم
ينتمي الى أحمد زكي في جوانب كثيرة. فشخصية سبع الليل أداها هذا
الفنان ببساطة وصلت أحياناً الى حد السذاجة التي يحتاجها الدور
فعلاً، ولم يتخل عنها لحظة واحدة. إننا نشعر بأن أحمد زكي لا يمثل
وإنما يقدم جانباً من شخصية موجودة في أعماقه ولم تلوثها المدنية
بعد. وأكاد أقول بأن عبقرية هذا الفنان هي التي جعلت من سبع الليل
شخصية تتجاوز مرحلة السكون وتتحول من مجرد كلمات على الورق الى نبض
حار متدفق ومؤثر، حيث جاء ذلك بأسلوب بسيط ومتمكن في الأداء يعتمد
اللمحة بدلاً من الكلمة وعلى الحركة عوضاً عن الصراخ الزاعق.
إن ما سبق، ليس إلا وسيلة للوصول الى حقيقة واحدة، وهي أن أداء
أحمد زكي كان هو الفيصل الحقيقي الذي جعلنا نصدق سبع الليل، ونتابع
معه خطوات مغامرته الكبيرة هذه. إنه بهذا الصدق في الأداء قد جعل
المتفرج يتعاطف مع الشخصية الى درجة التماهي، حيث أن المتفرج قد
نسى أو تجاهل أن يفتش عن الأخطاء والسلبيات التي احتواها الفيلم.
بل إن هذا التماهي قد جعله لا يرى ما يمكن أن يخالف المنطق
أحياناً. صحيح بأن فيلم (البريء) قد تناول موضوعاً خطيراً ومهماً،
إلا أن هذا التناول لم يتلائم وحساسية هذا الموضوع. فالمعالجة جاءت
تقليدية وضاعت بين الميلودراما المؤثرة المصحوبة بالعنف، وبين
إطروحات الفن الملتزم والموضوع السياسي. لهذا جاء الفيلم ركيكاً في
كتابته الدرامية، معتمداً في نجاحه على فكرته الجريئة. إلا أنه
يمكن الإشارة، في أن السيناريو قد نجح في الخروج من إطار المعتقل،
عندما كانت الكاميرا في الريف مع سبع الليل، تنقل لنا الخلفية
الاجتماعية والحياتية لبطل الفيلم، لكي تكون تصرفاته بعد ذلك مبرره
ومنطقية. وفي المقابل، لم ينجح السيناريو كثيراً في خروجه مع
الضابط من المعتقل، رغبة في إعطاء شخصيته عمقاً وبعداً نفسياً
وإجتماعياً، حيث لم يؤثر ذلك في شخصية الضابط ولم يبرر تصرفاته
السادية.. بل كان من الأفضل الاستغناء عن هذه اللقطات، طالما لم
تؤد الغرض المطلوب منها.
تم منع عرض النهاية الأصلية للفيلم والتي يقوم فيها "أحمد سبع
الليل" بقتل جميع الموجودين في المعسكر قبل أن يموت هو بيد زميل
له، وتبلغ مدة المشهد الختامي المحذوف من النسخة الأصلية للفيلم
حوالي ست دقائق، وتم حذف النهاية الأصلية للفيلم بعد تشكيل لجنة
رقابية مكونة من وزير الدفاع أبو غزالة ووزير الداخلية أحمد رشدي
ووزير الثقافة أحمد عبدالمقصود هيكل.
تحدث كاتب الفيلم وحيد حامد عن ذلك، في ديسمبر 2015، وقال: (نهاية
فيلم (البريء) اتغيرت لأن أحد المثقفين الكبار بعد ما شاف الفيلم
في العرض الخاص، وقف وقال بأعلى صوته: ده كل عسكري أمن مركزي في
إيده بندقية يحصل إيه لما يضربها في القائد بتاعه! خلصت الحكاية
كده، حُذفت نهاية الفيلم وحصل حاجة كبيرة جدا وكانت قضية كبيرة،
وجه 3 وزراء، وزير الدفاع المرحوم محمد عبدالحليم أبو غزالة، وزير
الداخلية المرحوم أحمد رشدي، مع وزير الثقافة، وشافوا الفيلم، رغم
أن الفيلم مفيش فيه حاجة والنهاية مفيش فيها حاجة". وظلت النسخة
الأصلية من الفيلم ممنوعة من العرض لمدة 19 عامًا قبل أن توافق
وزارة الثقافة في عام 2005 على عرضه كاملًا مع النهاية المحذوفة في
المهرجان القومي للسينما كتكريم للفنان الراحل أحمد زكي). |