ربما يكون العنوان غريباً بعض الشيء.. وربما يتساءل البعض.. ما
علاقة الاسباغيتي بالسينما..؟! ولكن الذين عرفوا عن الويسترن في
السينما.. أو قرءوا عن السينما الإيطالية.. سيعرفون مباشرة عمن
سنتحدث..!! إنه سيرجيو ليوني.. المخرج الإيطالي الكبير، الذي اشتهر
بأفلام الويسترن الأمريكية على الطريقة الإيطالي، والتي أطلق عليها
فما بعد (الويسترن ـ سباغيتي).
لقد كان ليوني أحد المخرجين الأغلى ثمناً في أوروبا. وصنف في
سنواته الأخيرة في فئة العمالقة. بنظاراته الضخمة ولحيته الكثة
وقامته القصيرة المستديرة بفعل كيلوجرامات زائدة لم ينجح يوماً في
التخلص منها، كان يوحي بالوقار. ومنذ الطفولة ربي على أسطورة
أمريكا، الحب الأول بالنسبة إلى الأوروبيين من أبناء جيله الذين
اكتشفوا القارة الجديدة من منظار هوليوود. ومن خلال السينما أحب
ليوني أمريكا الملحمية حيث المساحات الواسعة في أفلام الويسترن،
والبطولة في أفلام الحرب، والفرح والجمال في الأفلام الكوميدية
والموسيقية.
وقد تجاهل النقاد طويلاً المخرج الايطالي سيرجيو ليوني صاحب
الأفلام التي حققت نجاحاً كبيرا لدى جمهور السينما في العالم، ولكن
بعد فيلمه الأخير (حدث ذات مرة في أمريكا) توجهت عدسات المصورين
إلى ليوني الذي عرض فيلمه هذا في مهرجان كان السينمائي الدولي
السابع والثلاثين.
مع بداية ستينات القرن الماضي، كان يبدو بان أفلام الغرب الأمريكية
المعروفة بالويسترن قد أوشكت على الانحسار، فالموجات الجديدة في
السينما الأوروبية كانت قد ظهرت ودفعت بالسينما في مسار آخر مختلف،
وامتد تأثيرها أيضا إلى السينما الأمريكية نفسها والى هوليوود
التقليدية. ولكن فجأة ظهر المنقذ قادماً من بعيد من على بعد آلاف
الأميال من مدينة السينما في روما المعروفة بـ »شسني شينتا« حيث
كانت مجموعة من المخرجين الايطاليين قد بدأت في تقديم نوع جديد من
أفلام الويسترن على الطريقة الايطالية، وهي بالطبع أفلام تستوحي
التراث الهوليودي الكلاسيكي من أفلام الغرب وتسعى لتطويره وإكسابه
إبعادا جديدة ترتبط بحساسية النظرة الأوروبية. وقد أطلق النقاد على
تلك الظاهرة اسم الويسترن الاسباغيتي، كما سبق وذكرنا. وكان على
رأس مخرجي الاسباغيتي سيرجيو ليوني، والذي اخرج أفلامه الأولى تحت
اسم مستعار هو بوب روبرتسون. حيث أدرك إن الاسم الانغلو ـ ساكسوني
سوف يكون له تأثير أفضل على جمهور السينما. وكانت تلك أيضا إحدى
وسائله في التعبير عن إعجابه الشديد بإنتاج العصر الذهبي في
هوليوود.
ولد سيرجيو ليوني لأب من مخرجي السينما الصامتة الذين توقفوا عن
العمل مع صعود الفاشية في ايطاليا بسبب عدائه لها، وهو (روبوتو
ليوني). ولأم تعمل بالتمثيل في المسرح والسينما وهي (برايس
فاليرين). ولذلك شرب حب الفن والدراما منذ طفولته. حيث بدأ عمله في
السينما وهو في الثامنة عشرة من عمره كمساعد للإخراج والإنتاج
وكتابة السيناريو أيضا.
سيرجيو صانع الاسباغيتي
عمل سيرجيو الشاب في أكثر من ستين فيلماً مع العديد من مخرجي
ايطاليا. ومن المخرجين الأمريكيين الذين صوروا أفلامهم في ايطاليا،
ولكنه كما يبدو من أفلامه تأثر بالسينما الأمريكية الهوليودية أكثر
من أي سينما أخرى. وكان هو من بين المخرجين الذين يعتقدون إن
السينما فن أمريكي، وليس هناك بجانب السينما الأمريكية أي سينما
أخرى، حتى انه اخرج فيلمه الثاني باسم أمريكي وهو (بوب روبوتسون).
في عام 1959 صور أول أفلامه (آخر أيام بومبي) بالصدفة نتيجة مرض
المخرج الأصلي ماريو بونار. ومن ثم اخرج فيلمه الثاني وهو في
الأربعين من عمره عام 1961 بعنوان (عملاق رودس). وعندما توفي عام
1989 لم يكن قد اخرج أكثر من ستة أفلام أخرى. ومنذ عام 1964، بدأت
أفلام سيرجيو ليوني تلفت الأنظار. حيث جاء في البداية فيلم من (اجل
حفنة دولارات) ثم (من اجل مزيد من الدولارات) ثم (حدث ذات مرة في
الغرب).
في العام 1962 رأس ليوني الفريق الايطالي الثاني لتصوير فيلم (سدوم
وعمورة) للأمريكي (روبرت الدوريخ)، وهو إنتاج ضخم ومكلف أسفر عن
فيلم ضعيف ومفكك، إلا أن المقاطع التي أخرجها ليوني ساهمت في كشف
ميله إلى الأسلوب الملحمي والضخامة والإفراط في ذلك.
وانطلق بعدها سيرجيو ليوني من معادلة بسيطة.. ممثلون غير معروفين
(مثل كلينت ايستود، الذي كان معلماً للسباحة حين اكتشفه ليوني،
وايلي والاش ولي فان كليف وجيان ماريا فولونتي)، وإخراج ملحمي
الأسلوب ومساحات واسعة من الرمال والريح تصورها الكاميرا من دون
ملل ومزيج من العنف والمرح الأسود والدماء والغبار، وأخيرا تصوير
بطيء يتخلله مشاهد مقربة عديدة لوجوه الممثلين أو عيونهم أو
مسدساتهم .. وطبعاً اسم أمريكي للمخرج ليبدو الأمر منطقياً. وبذلك
كان فيلم من اجل حفنة دولارات بمثابة الحلقة الأولى من ثلاثية
أصبحت «الثلاثية الكلاسيكية للويسترن الاسباغيتي».
بعدها صور ليوني الفيلمين الآخرين (من اجل مزيد من الدولارات ـ
1965)، (الطيب والشرس والقبيح ـ 1966)، وعرف ليوني النجاح الكبير
في كل مرة. ولم يساهم نجاح الثلاثية في شهرة ليوني فقط بل أيضا في
إطلاق كل فريقه.. الممثلون مثل ايستود وفان كليف وفولونتي، الذين
أصبحوا نجوماً. إضافة إلى برز نجم مؤلف الموسيقى «اينيو موريكوني»
الذي حول موسيقى الويسترن من أنغام فرح راقصة إلى موسيقى جارحة
الأعصاب مثل حرارة الشمس في صحاري الغرب تنذرنا دائماً بالخوف
والموت.
ولأن الويسترن لم يكن فقط بالنسبة إلى ليوني نوعاً تجارياً بل
تعبيراً عن الحلم الأمريكي كما عاشه منذ طفولته، قام في العام 1968
بتصوير فيلم (حدث ذات مرة في الغرب)، الذي كان خلاصة للويسترن على
الشاشة الكبيرة وتحية أخيرة له.
ليوني وملاحم خالدة
بعد توقف دام أربع سنوات اخرج ليوني فيلم (من اجل حفنة ديناميت ـ
1972)، الذي قدم فيه رؤية عبثية شاملة للحياة والعالم، ويقدم فيه
أسلوب خاص في التعبير السينمائي الدرامي. وقد أطلق عليه هذا
العنوان عند عرضه في أمريكا لاستغلال ذلك النجاح الجماهيري الذي
حضي به فيلمه (من اجل حفنة دولارات، لكن العنوان الايطالي الأصلي
للفيلم هو (الرأس في النازل)، وهو العنوان المناسب لفيلم تتطاير
فيه الرؤوس كما تتطاير الأوراق.
وبعد أن اخرج ليوني لفيلم (من اجل حفنة ديناميت) عام 1971، وهو
منهمك في الاستعداد لإخراج فيلمه الأهم. وكان عليه أن يتغلب على
صعوبات عديدة مالية وإنتاجية. واستغرق الأمر أكثر من عشر سنوات حتى
تمكن ليوني بالفعل من إخراج حدث ذات مرة في أمريكا الذي وصلت
تكاليفه إلى 51 مليون دولار، ويستغرق عرضه على الشاشة أكثر من ثلاث
ساعات ونصف. ويتناول هذا الفيلم قصة الصداقة الحميمية بين اثنين في
فترة تقارب النصف قرن. ويعكس الفيلم بشكل عام، إعجاب سيرجيو ليوني
الشديد بأمريكا.. بأبطالها التقليديين ومعاركها المجيدة والمخزية
معاً. وتغلف فيلمه نفس النظرة الرومانسية الحزينة التي لمسناها في
كل أفلامه.
يقول ليوني انه صنع فيلمه هذا من وحي بعض الأفلام التي طبع ذكراها
في ذهنه وبعض الكتاب الأمريكيين الذين اثروا في تكوين جيله. وان
الفيلم يحمل نوعاً من التحية إلى هذه الأفلام وأولئك الكتاب.
وقد رفض ليوني فكرة الإقامة الدائمة والعمل في هوليوود، وقال بأنه
يفضل أن يبقى في ايطاليا.. بلده، كمخرج ايطالي أولا. وانه عندما
صنع فيلمه عن أمريكا، فقد صنعه من خلال رؤيته الخاصة بالطبع ومن
خلال عين ايطالية أيضا. وسيرجيو ليوني يعشق صنع الأفلام الطويلة
جداً. فهو يرى أن هذا يتيح له الفرصة للخلق على نحو أكثر تكاملاً
ويجعله يحقق المتعة البصرية الكاملة للمشاهد.
أما فيلم (حدث ذات مرة في أمريكا)، الذي حققه مع الممثل العبقري
روبرت دي نيرو، فيعتبر تحفة نادرة من تحف السينما العالمية، حيث
انه يظل مع فيلمه (من اجل حفنة دولارات) عملين ميزا مسيرة هذا
المخرج الكبير، الذي لم يكن قد حقق بعد ما يطمح إليه. رغم كل ذلك،
فقد كان حلمه كبيراً في المزيد، ولكن قلبه خذله. ففي حديث أخير معه
في جريدة «ليبراسيون»، قال: (...ولكي اختم هذا الجانب الثاني، كان
(حدث ذات مرة في أمريكا)، ثم هناك مشروع (معركة لينينغراد)، ولكنها
قصص طويلة وتتطلب بعد كتابتها. مازال أمامي متسع من الوقت، وسيكون
أفضل أفلامي. إنني لا أتمنى ذلك فقط، بل أنا متأكد منه...).
وبالفعل كانت خسارة فادحة للفن السابع.. عندما توفي هذا العملاق
قبل أن يظهر مشروعة المهم إلى النور.. رحل وترك إرثاً سينمائياً لا
يقدر بثمن.. رحل ليترك فراغاً كبيراً في نوعية أفلام خاصة من هذا
الفن الخلاق. |