أعترف بأني لم أكن شديد الحماس لكتاب "سينما الخوف
والقلق" للناقد الكبير أمير العمري، والصادر حديثا في
سلسلة آفاق السينما التابعة للهيئة العامة لقصور
الثقافة التي يرأس تحريرها ناقد كبير آخر هو د.وليد
سيف.
عدم حماسي كان نابعا من سببين، الأول هي أن الكتاب
عبارة عن تجميع لمقالات كتبها العمري بين عامي 2004
و2009، والثاني أنني قد قرأت معظم المقالات التي
يتضمنها الكتاب من قبل، بل أنني استخدمت بعضها كنافذة
لاختبار زاوية طرح خلال مناقشة بعض الأفلام في الندوات
(وكان آخرها مقال أمير العمري عن فيلم جعفر بناهي
تسلل، والذي كان مرجعا مهما لندوة أدرتها في جمعية
نقاد السينما المصرية عن المخرج الإيراني الشهير).
ولكن بمجرد البدء في الإطلاع على أول مقالين بالكتاب
اكتشفت خطأ هذا القرار، لأقوم بتصويبه عبر التهام
الكتاب في ظرف يومين ظللت خلالهما أفكر في كوني أتعامل
مع النموذج المثالي لجمع المقالات النقدية في كتاب.
لماذا نجمع المقالات؟
والحقيقة المخزية أن ممارسات بعض الكُتاب المصريين
الذي يسميهم البعض نقادا حولت فكرة جمع المقالات
النقدية في كتاب إلى فكرة سيئة السمعة، توحي دائما بأن
صاحبها يريد أن يصدر كتابا يحمل اسمه دون أن يدرك
الفارق الواضح بين المقال والكتاب كوسيطين مختلفين لكل
منهما خصائصه وجمهوره وأهدافه المستقلة تماما عن
الآخر. وأذكر أنني حضرت من عدة أشهر مناقشة لكتاب من
هذه النوعية تم الاحتفاء به وطبعه مرتين بالرغم من أنه
يحمل "كل" ما كتبه صاحبه عن السينما، أي أنه صاحب خبرة
من الكتابة لا تتجاوز مائتي صفحة لكنه يمتلك من الجرأة
ما يمكنه من اعتبار مقاله الأول جديرا بالجمع في كتاب!
هذا الواقع المثير للشفقة جعل البعض يتخذ موقفا معاديا
لفكرة جمع المقالات في كتاب، وهو الموقف الذي يشاركني
فيه د.وليد سيف نفسه الذي أكد قبل ذلك أنه لن ينشر في
السلسلة التي يرأسها كتاب يجمع مقالات صاحبه. ولكنه
رجل يمتلك من التفتح وحب السينما ما يجعله يدرك أن
فكرة جمع الكتابات ليست مرفوضة في حد ذاتها، ولكنها
مقبولة في ثلاث حالات فقط.
الحالة الأولى هي حالة جمع الكتابات الكاملة لناقد
كبير على شاكله المجلدت الأربعة الممتعة التي تضم
أعمال الراحل سامي السلاموني، والتي تمنح القارئ نظرة
بانورامية على إنتاج ناقد مؤثر وتعطيه نظرة عامة على
حال السينما وقت نشاط هذا الناقد. الحالة الثانية هي
جمع الكتابات النقدية لكاتب متميز تخصصه الأساسي ليس
السينما، كجمع كتابات يوسف السباعي النقدية مثلا في
كتاب، مع التأكيد على أن أهمية الكتاب في هذه الحالة
لن تكون في قيمته السينمائية بقدر كونها تلقي الضوء
على جانب مجهول من حياة كاتب معروف.
الحالة الثالثة هي حالتنا هنا وهي الأكثر ارتباطا
بتعريف وسيط الكتاب، وأقصد بذلك جمع المقالات ذات
الصلة بموضوع معين، والتي تمت كتابتها خلال فترة زمنية
محددة، بحيث تصير أقرب ما يكون لفكرة البحث الموضوعي
الذي يجريه الناقد بشكل مستمر خلال عمله، ويقوم من
خلاله بطرح رؤاه السينمائية والاجتماعية المرتبطة
بموضوع البحث، وهو الشكل الذي نجده جليّا في كتاب
"سينما الخوف والقلق" الذي يجمع كتابات أمير العمري
عن الأفلام ذات النزعة السياسية، ولا أقول الأفلام
السياسية لأن الأمر أكثر اتساعا من حصره في هذا
التصنيف، ولكنه يرتبط بشكل أوثق بصراع الإنسان مع
العالم حوله، وهو صراع مرده دائما السياسة وتحكماتها
وما تثيره من قضايا وأفكار.
الكتاب وسبب الخوف والقلق
الكتاب يضم 41 مقالا تم اختيارها بعناية لتلقي الضوء
على نوعية السينما المختارة في أكثر من منطقة حول
العالم، وقد تم ترتيب المقالات طبقا لهذا التوزيع
الجغرافي بحيث يبدأ الكتاب بستة مقالات عن أفلام
إيرانية تليها ستة مقالات عن أفلام إسرائيلية وهكذا.
اختيار الترتيب جزء لا يتجزأ من العرض المتماسك لرؤية
الكاتب الخاصة بكل قضية تطرحها الأفلام محل الدراسة،
والخاصة كذلك ـ وهو الأهم ـ بطريقة معالجتها داخل
الأفلام، فالكتاب سينمائي بالأساس قبل أن يكون سياسي
أو اجتماعي.
طبيعة الكتاب السينمائية وخبرة كاتبه الضخمة جعلته من
البداية يختار أن تكون الأعمال المطروحة للنقاش أعمالا
تنتمي للنوعية التي اختار لها وصفا هو عنوان الكتاب
"سينما الخوف والقلق"، والمقصود بالمصطلح طبقا لما
كتبه أمير العمري في المقدمة هي أن الأفلام برغم من
كون معظمها يتعامل مع قضايا سياسية واجتماعية واضحة،
إلا أن موقفها من نفس القضايا لا يمتلك نفس الوضوح،
فلا ينخرط صناعها في تبني موقف والدعاية له أو في
أشكال الشجب والاستنكار التي تصنع سينما عتيقة بعيدة
عن طبيعة الفن المعاصر، بل يحركهم خوفهم وقلقهم مما
يحدث في العالم حولهم، ورغبتهم في رصد وتسجيل الأحداث
من زاويتهم الفنية الخاصة.
وبنفس المنهج يقوم العمري بالتعامل مع الأفلام نقديا،
فيبتعد عن أشكال النقد الأيديولوجي العتيقة التي
تحركها دوافع مماثلة لأفلام الشجب والاستنكار
والبروباجندا. ليقوم بتحليل الأفلام بشكل موضوعي يجمع
بين تحليل محتواها الفكري وأساليبها السردية وأبرز ما
فيها من توظيف لجماليات الصورة واللغة السينمائية.
ليرى الناقد الأفلام هو الآخر بعين الخوف والقلق
محاولا فهم كل فيلم باعتباره حالة فنية مستقلة تستحق
الدراسة بحياد، مع عقد المقارنة في حالة توافرها مع
أعمال المخرجين السابقة ومع أشهر الأفلام التي تناولت
نفس القضية، ولكن دون أن يتورط في فرض أي وصاية فكرية
أو سياسية على صناع الأفلام، وهذا هو جوهر النقد
السينمائي الحقيقي البعيد عن الانحيازات.
تنوع الاختيار لتكامل الصورة
ومن أفضل الاختيارات التي اتخدها المؤلف عدم الاقتصار
على الأفلام التي كان رأيه النقدي فيها إيجابيا، فقام
بإلحاق عدد لا بأس به من الأفلام التي لم يعجب بها أو
كانت لديه ملاحظات قاسية عليها. وتواجد هذه النوعية من
المقالات كان أمرا ضروريا لاستكمال الصورة وإعطاء نوع
من الإطار المرجعي الذي يرتكز عليه الناقد في قراءته
للأفلام. فالقاعدة العامة تقول أن الأفلام الجيدة تسمو
بأفكارنا ومشاعرنا والأفلام السيئة تجعلنا نعرف
الأخطاء التي لا يجب أن نقع فيها، أما في النقد
فالأفلام الجيدة تطرح في أذهاننا سؤالا أو فكرة، بينما
تجعلنا الأفلام السيئة نفهم سر نجاح الفيلم الجيد في
مهمته.
كتاب "سينما الخوف والقلق" للناقد الكبير أمير
العمري تجربة نقدية تستحق الاحترام، تلقي الضوء على
أفلام مهمة تجمعها فكرة تمس كل إنسان، وتعطي درسا في
فن جمع المقالات النقدية بصورة تجعلها كتابا حقيقيا
وليس مجرد وسيلة لتلميع كاتب لا يملك ما يقوله في
مساحة الكتاب.