البلاد/ طارق البحار:
في إطار فعاليات الدورة الحادية عشرة من مهرجان أفلام
السعودية المقام في مركز الملك عبدالعزيز الثقافي
العالمي (إثراء)، قدّم الأديب والناقد البحريني القدير
أمين صالح أحدث مؤلفاته السينمائية، بعنوان "أليخاندرو
إيناريتو وشِعرية الصدفة"، والصادر ضمن سلسلة
"الموسوعة السعودية للسينما" التي يشرف عليها
المهرجان.
الكتاب يُعد دراسة فكرية معمقة تغوص في التجربة
الإبداعية للمخرج المكسيكي العالمي أليخاندرو
إيناريتو، الذي يشتهر بأفلامه ذات الطابع الفلسفي
والإنساني، وباستخدامه لأساليب سرد غير تقليدية تتجاوز
الزمن والمكان.
يقدّم أمين صالح قراءة تحليلية لأفلام إيناريتو،
كاشفًا كيف تتشكل في أعماله حالة سينمائية خاصة تمزج
الفن بالحياة، والفوضى بالجمال، والصدفة بالقدر، في
سرد بصري يلامس الوجدان ويطرح أسئلة وجودية عميقة.
كما يستعرض الكتاب الطريقة التي يوظف بها إيناريتو
السرد المتداخل والمتشظي، ليعكس من خلاله فلسفة الحياة
كتجربة غير خطّية، حيث تتشابك الذكريات والأحداث
لتكوّن سردًا إنسانيًا نابضًا بالتأمل والأسى والدهشة،
ويُعتبر هذا الإصدار إضافة نوعية للمكتبة السينمائية
العربية، لما يحمله من رؤية نقدية تتجاوز التفسير
السطحي للأفلام، وتتعمق في بناء المعاني الخفية التي
تكشف عن جوهر التجربة البشرية من خلال عدسة إيناريتو.
ويأتي هذا الإصدار ضمن سلسلة من الإصدارات المتخصصة
التي يحرص مهرجان أفلام السعودية على تقديمها كل عام،
ضمن مشروعه الثقافي لتوثيق ودراسة السينما العالمية
والمحلية برؤية عربية عميقة.
وفي حديثه خلال تقديم كتابه الجديد ضمن فعاليات مهرجان
أفلام السعودية، أشار الأديب والناقد أمين صالح إلى أن
علاقته بالسينما لم تكن مجرد ترف بصري، بل انطلقت من
شغف عميق بالعناصر الإبداعية التي تتقاطع مع المخيلة
والأحلام والفن الخالص. وقال: "أستطيع القول إن
انتمائي إلى السينما جاء نتيجة انجذابي إلى الطروحات
التي تستند إلى الخيال والإبداع، تلك التي تتجاوز مجرد
المشاهدة إلى التفاعل مع رؤى وتجارب صانعي السينما،
المنتمين لمدارس وتيارات متنوعة أدهشتني بتعددها
وثرائها."
ثم عاد صالح إلى البدايات الأولى لعلاقته بالسرد،
متحدثًا بنبرة حنين عن الجدة التي كانت نافذته الأولى
على عالم الحكايات. وقال لجمهور المهرجان: "بدأت رحلتي
مع القصة منذ الطفولة، بتأثير من جدتي التي كانت
بالنسبة لي شجرة الحكايات. كنا نجلس حولها كأننا في
حضرة أسطورة حية. كانت تعرف كيف تُبقي التشويق حيًا،
تصب لنفسها الشاي بينما تؤجل نهاية الحكاية إلى الليلة
التالية."
هذا الحسّ المبكر بالحكاية، كما يصفه صالح، هو ما شكّل
لاحقًا أسلوبه الأدبي والسينمائي، وأسس لوعيه النقدي
العميق الذي يتجلى في مؤلفاته وتحليلاته، ومن بينها
كتابه الجديد الذي يُعد إضاءة فكرية على تجربة
أليخاندرو إيناريتو، أحد أبرز المخرجين المعاصرين.
وأكمل أمين صالح حديثه قائلاً: "مع الوقت، تحوّل ذلك
الولع بالحكاية إلى شغف حقيقي بالسينما. كنت أبحث عن
الصورة التي تحكي، عن تلك اللحظة التي تتحول فيها
القصة إلى مشهد بصري حي. بدأت أتساءل: من يصنع هذه
الأفلام؟ من يكتبها؟ من يخرجها؟"
وأضاف: "بينما كنت أقرأ وأستكشف، وجدت نفسي أمام سينما
مغايرة تمامًا لتلك التي نعرفها، سينما أكثر عمقًا
وتجريبًا".
وتابع صالح بشيء من المرارة: "في الثمانينات حاولت
دراسة السينما، لكن التجربة لم تكتمل، كانت تجربة
خائبة بامتياز. الإمكانيات المادية كانت محدودة،
والنقود شحيحة. لكنني لم أستسلم، وقررت تعويض ذلك بأن
أكتب. بدأت بكتابة السهرات الدرامية، ثم انتقلت إلى
كتابة مسلسلات التلفزيون".
وعلى الرغم من أن الترجمة لم تكن خياره المفضل، إلا أن
أمين صالح وجد نفسه مضطرًا إليها، كما يوضح: "في
الحقيقة، لا أميل كثيرًا للترجمة، لكنني كنت أشعر
بالمسؤولية. كنت أقرأ كتبًا ثرية بالمضامين، وأجد أن
المكتبة العربية تفتقر إليها. في المعرفة، لا يكفي أن
تمتلكها، بل يجب أن تمررها للآخر. فالحضارة كلها مبنية
على انتقال المعرفة من شخص إلى شخص، من جيل إلى جيل،
من أمة إلى أخرى".
ويشير صالح إلى أن ترجمته لكتاب "السينما التدميرية"
كانت بداية ظن أنها ستكون النهاية، لكن فضوله المعرفي
قاده إلى المزيد، ويقول:"عندما أنهيت ترجمة السينما
التدميرية، ظننت أنني اكتفيت. لكنني قرأت لاحقًا
(النحت في الزمن) لتاركوفسكي، وكان لا بد أن أترجمه.
ثم استمر هذا الشغف، كلما وجدت كتابًا جيدًا شعرت أن
من واجبي تقديمه للقارئ العربي."
وعن الفارق بين الكتابة الروائية وكتابة النصوص
التلفزيونية، يرى الأديب أمين صالح أن مساحة الحرية
تختلف تمامًا بين المجالين.
يقول: "كاتب الرواية يمتلك حرية مطلقة في بناء عوالمه
ورسم شخصياته، أما كاتب السيناريو فهو محكوم بتنازلات
لا حصر لها على المستوى العملي."
ويشرح ذلك بقوله: "كاتب النص الدرامي يتعرض لتدخلات من
جهات عديدة، كالرقابة والمنتجين والممولين، ما يفرض
عليه الخضوع أحيانًا لرغبات لا تتوافق مع رؤيته
الإبداعية."
ويُضيف بنبرة تأمل: "علينا أن نُدرك أن لكل مجال فني
خصوصيته وآليته ولغته وعناصره المختلفة. من الخطأ أن
نتعامل مع السينما أو التلفزيون أو الأدب بمنطق موحّد.
هذه الفنون، رغم تقاطعاتها، لكلٍ منها طبيعتها التي
تفرض علينا أن نقاربها ونقيّمها بمعايير خاصة بها، لا
أن نخضعها لمقارنات سطحية أو أحكام جاهزة." |