ان عظمة وغموض الفن لا
يكمن في الإثبات والتفسير والإجابة على الأسئلة. ان تأثيره
يتصل بالجيشان العاطفي
والأخلاقي واولئك الذين يظلون غير مبالين ازاء براهينه العاطفية ويخفقون في
تصديقها
يجازفون بالتعرض للتلوث الإشعاعي شيئاً فشيئاً دون ان يعلموا بذلك وبابتسامة
بلهاء
على وجه عريض ورابط الجأش لرجل مقتنع بأن العالم مسطح مثل
فطيرة محلاة ويتكئ على
ثلاثة حيتان وعندما تنمو التفاؤلية الزائفة وتسود يصبح الفن مثيراً للسخط
ويبدو
خطيراً لأنه مقلق ومشوش. ان المتفرج فيما يشتري تذكرته يبدو كما لو كان يلتمس
سد
النقص أو اكمال الفجوات في تجربته الخاصة رامياً نفسه في بحث
عن »زمن مفقود« بتعبير
آخر هو يسعى الى ملء ذلك الخواء الروحي الذي تشكل نتيجة الشروط الخاصة لهذه
الكينونة الحديثة: نشاط متواصل تقليص الاتصال الانساني والنزعة المادية
للتربية
العصرية.
ان أيا من الفنون المعروفة لا تملك هذه الجماهيرية
الهائلة كما السينما
ربما الإيقاع الطريقة التي بها توصل السينما الى جمهورها تلك التجربة المكثفة
التي
يريد مبدع الفيلم ان يتقاسمها معهم ينسجم هذا الإيقاع الى حد بعيد مع ايقاعات
الحياة الحديثة.
ان استجابات الجمهور المعاصر تجاه اي فيلم هي
مختلفة من حيث
المبدأ عن الانطباعات التي احدثتها اعمال سنوات العشرينات والثلاثينات.
السينما
الان توجد وتنمو ضمن شروط جديدة. الإنطباع الأسر الشامل الذي غمر ذات مرة
جماهير
سنوات الثلاثينات وجد تفسيره في البهجة العامة العالمية لأولئك
الذين كانوا يشهدون
بفرح بالغ ولادة شكل فني جديد.. هذا الفن الذي اظهر نوعا جديدا من الصورة
وكشف عن
مجالات من الواقع غير مستكشفة لقد استطاع هذا الفن ان يذهل جمهوره ويحولهم
الى
معجبين متحمسين.
الجمهور اصبح الآن اكثر فطنة وادراكا في موقفهم من
الأفلام
والسينما في حد ذاتها قد كفت منذ زمن طويل عن ادهاشهم بوصفها ظاهرة جديدة
واصيلة
وفي الوقت نفسه يتوقع منها ان تلبي مدى اوسع من الحاجات الفردية. لقد كشف
الجمهور
عن ما يميلون اليه ومالا يحبونه ذلك يعني ان صانع الفيلم بدوره
له جمهور ثابت له
دائرته الخاصة ان اختلاف الذوق عند الجمهور يمكن ان يكون شديدا لكن هذا لا
يدعو الى
الأسف أو ينذر بخطر فحقيقة ان الناس لديهم مقاييسهم الجمالية الخاصة يدل على
نمو
الوعي الذاتي.
اذا تحدث المرء عن السينما بوصفها فناً وليس
ترفيها، فليس ثمة
مجال للتفكير بلغة النجاح التام مع الجمهور الشعبية الجماهيرية تقترح ما يعرف
بالثقافة الجماهيرية وليس الفن المر، لا يعود يستطيع أن يتخيل رد فعل متفق
عليه
بالاجماع تجاه عمل فني حتى لو كان أقل إثارة للجدل أو الخلاف،
وأياً كان عمقه أو
حيويته.
أي فرد مؤهل لتقدير وإدراك الفن سوف يحصر، على نحو
طبيعي، نطاق الاعمال
المفضلة لديه وفقاً لأهوائه وميوله الأعمق والمؤهل لاصدار الأحكام وتحديد
اختياراته
الخاصة ليس بالضرورة قادراً على هضم كل شيء بنهم، وحتى بالنسبة لشخص ذي حس
جمالي
متطور، لا يمكن أن يكون هناك أي قولبة وأي تقييم »موضوعي«.
الفنان يوسع ويمدد
مجاله فى سبيل ان يعزز الاتصال، ان يساعد الناس على فهم بعضهم البعض على أرفع
مستوى
فكري وعاطفي وسيكولوجي وفلسفي.. بالتالى فان جهود الفنان ايضاً موجهة نحو جعل
الحياة أفضل، اكثر كمالاً، وأكثر يسراً للناس لفهم بعضهم البعض
هذا لا يعني ان
الفنان هو بالضرورة بسيط وواضح فى تفسيره لنفسه أو لأفكاره بشأن الحياة فهذا
يمكن
ان يكون صعب الفهم حقاً، لكن الاتصال دائماً يقتضي جهداً.
الفيلم هو اكبر مما
يكونه.. اذا كان حقيقيا والفيلم دائماً ينتهي بان يمتلك
أفكاراً وأهدافاً هي اكثر
من تلك التى صاغها مبدع الفيلم بوعي.. وكما ان الحياة، التى تتحرك وتتغير
باستمرار
تتيح لكل شخص ان يفسر ويشعر بكل لحظة منفصلة ومستقلة بطريقته الخاصة، كذلك
الفيلم
الحقيقي ما ان يحقق الفيلم إتصاله المباشر بالفرد الذى يشاهده
حتى ينفصل الفيلم عن
خالقه ويشرع فى ممارسة حياته الخاصة، خاضعاً لتغييرات فى الشكل والمعنى.
أبداً
لا تحاول ان توصل فكرتك الى الجمهور.. انها مهمة غير محمودة
ولا معنى لها، اعرض
عليهم الحياة ودعهم يجدون داخل أنفسهم الوسيلة لتقييمها وتقديرها.. ما يستحقه
الجمهور هو الاحترام لا تنفخ فى وجوههم.
الجمهور فكرة مثالية، ذهنية، انك لا
تفكر فى كل شخص جالس فى الصالة، الفنان دائماً يحلم ببلوغ الحد الاقصى من
الفهم،
حتى لو ان ما يقدمه الى الجمهور هو مجرد جزء مما يأمله هذا لا
يعني انه ينبغي على
الفنان ان يشغل باله بهذه المسألة، بل يتعين عليه باستمرار أن يتذكر بان
المهم هو
إخلاصه وصدقه فى تحقيق فكرته.
لماذا الجمهور العريض غالباً ما يفضل أن يشاهد
قصصاً غريبة جداً على الشاشة، وأشياء لا علاقة لها بحياتهم؟ انهم يشعرون
بأنهم
يعرفون ما يكفي عن حياتهم، وأن آخر شيء يحتاجونه ويرغبون فى
مشاهدته هو المزيد من
ذلك، وهكذا هم فى السينما يتوقون الى امتلاك تجربة شخص آخر، وكلما كانت هذه
التجربة
غريبة ومدهشة، وأقل تماثلاً مع تجربتهم الخاصة، صارت جذابة ومثيرة أكثر وصارت
من
وجهة نظرهم مرشدة اكثر.
بالطبع العوامل السوسيولوجية تلعب دوراً هنا، والا لم
تتجه جماعات من الناس الى الفن من أجل التسلية فقط، فى حين
يبحث آخرون عن حوار
فكري؟ لماذا يقبل البعض كل ما هو سخي وجميل ظاهرياً كشيء حقيقي مع انه سوقي
ورديء
ومبتذل وفظ، بينما هناك آخرون مؤهلون لتلقي التجربة الجمالية على نحو حقيقي؟
أين
ينبغي ان نبحث عن أسباب الصمم الجمالي - والأخلاقي أحياناً -
لأعداد ضخمة من الناس؟
ذنب من هذا؟ وهل من الممكن مساعدة مثل هؤلاء الناس على اكتشاف الإلهام
والجمال
والبواعث النبيلة التى يطلقها أو يثيرها الفن الحقيقي فى النفس؟
لسبب أو لآخر،
وتحت منظومات اجتماعية مختلفة، الجمهور العام يتغذى بشيء صنعي
أو بديل، ولا أحد
يهتم بشأن غرس أو تغذية الذوق وبسبب قدرة السينما الفريدة فى التأثير على
جمهور
الصالة وتحريك مشاعرهم - فى تطابق الشاشة مع الحياة - فان الفيلم التجاري
الزائف،
الذى يخلو من المعنى، قادر ان يقوم بممارسة التأثير السحري على
المتفرج اللاواعي،
غير المثقف، والذي لا يمتلك قدرات نقدية. السينما ذات الجاذبية الجماهيرية
وبسبب
تأثيرها السهل والعفوي والذي لا يقاوم، تمحو كل آثار الفكر والشعور على نحو
نهائي
ويتعذر تغييره الناس يكفون عن الاحساس بأية حاجة لكل ما هو
جميل أو روحاني،
ويستهلكون الأفلام مثلما يستهلكون الكوكا كولا. |