قبل شهرين تقريباً وفي ندوة سابقة تحدثت عن
العلاقة بين السينما والأدب، وها أنا الآن أتحث عن العلاقة بين السينما والفن
التشيكلي.
سواء أكان الأمر صدفة أو مقصوداً وعن دراية، فإن
هناك توكيداً على
ضرورة البحث في معنى السينما وماهايتها من خلال الكشف عن العلاقات التي
تربطها
بالأشكال الفنية - الأخرى واظهار الفروقات الجوهرية بينها، وذلك في محاولة
لاكتشاف
طبيعة السينما وجوهرها ولغتها وامكانياتها.
لقد كان المخرج الروسي الراحل أندريه
تاركوفسكي يعارض بشدة المفهوم القائل بأن الصورة السينمائية مركبة من عناصر
فنية
مختلفة، ويراه مفهوماً خاطئاً لأنه يدل ضمناً على أن السينما
قائمة أو مؤسسة على
خاصيات تابعة لأشكال فنية شقيقة، ولا تملك على الاطلاق شيئاً خاصاً بها. وهذا
يعني
إنكار حقيقة أن السينما فن.
كذلك كان تاركوفسكي يرى بأن السينما لا تزل تبحث
عن
لغتها، وأن مسألة ما يؤلف لغة السينما هي ليست بسيطة، كما انها ليست واضحة
بعد حتى
بالنسبة للمحترفين.. وأن ما يقرر ويحدد اللغة السينمائية مسألة لم يتم حلّها
بعد.
عندما يبدأ المخرج السينمائي في قراءة السيناريو
فإنه يشرع في رؤية
الشخصيات والأحداث بصرياً.. أي تشكيلياً.. ثم يبدأ عملياً - بعون من الكاميرا
والعناصر الفنية الأخرى - في تحويل كل ذلك الى تكوينات بصرية، وفي تحقيق ذلك
يوظف
الضوء والظل والنسق اللوني، ويعالجها وفق تجربته وإدراكه و
عاطفته وحساسيته
الجمالية والفكرية.
عندما سئل أنتونيوني: هل تعتقد بأن هناك صلة وثيقة
بين الرسم
والسينما؟
أجاب: »لا أعتقد بأن السينما قريبة من كفة الفنون.
بمعنى انها تضاهي
كافة الفنون. إنها وسط أغنى وأكثر امتلاءً.
واذا جئنا الى الفروقات فسوف نلاحظ
بأن السينما فن يعبر عن الواقع بالواقع نفسه.. بأشياء ومواد وكائنات الواقع،
وذلك
بخلاف الفنون الأخرى، ومن بينها الفنون التشكيلية، التي تعبر
عن الواقع بعدد من
الاشارات أو الرموز.
وفي ما يتصل بالمشاهدة نجد أن ثمة دائماً مسافة
بين اللوحة
والمتفرج، مسافة مرسومة ومعينة التخوم سلفاً. ثمة وعي أو إدراك لدى المتفرج
بأن ما
يوجد أمامه، سواء أكان قابلاً للفهم أو غامضاً، ما هو إلاّ صورة للواقع ولا
يمكن
على الاطلاق مطابقتها مع الحياة.. حتى لو كانت شبيهة بالحياة
أو تحاكي الحياة
الواقعية بدقة تامة.
أما في صالة السينما المظلمة فإن المتفرج يفقد
إحساسه بمن
حوله، بو اقعه، ويتطابق مع ما يراه على الشاشة، بمعنى أنه يجتاز المسافة التي
تفصله
عن الشاشة ليدخل فيها كما لو يدخل في حلم، مؤمناً بأن ما يراه هو شرائح من
الحياة.
اللوحة الفنية تدعو المتفرج الى التأمل، فأمامه
متسع من الوقت للمشاهدة
وليدع انطباعاته وأفكاره وتخيلاته تتداعى بحرية، وبلا مقاطعة. لكن أمام شاشة
السينما، حيث الصور تتعاقب على نحو سريع، فليس هناك مجال
للتأمل.. فالمشاهد تتغير
على نحو لا يمكن معه اللحاق بها. وأمام المتغيرات المفاجئة والمستمرة تتعطل
عملية
تداعي الأفكار.
اللوحة تأسر الحركة والزمن، بينما ضمن الصورة
السينمائية نشعر
بحركة الزمن (سواء أكانت بطيئة أو سريعة) وهذا ما يخلق أو يشكل إيقاع
الفيلم.
رغم هذه الفروقات نلاحظ بأن عدداً من الفنانين
التشكيليين المعاصرين -
المحترفين منهم وغير المحترفين - اتجهوا الى الاخراج السينمائي ونذكر منهم
على سبيل
المثال:
الفرنسي موريس بيالا، الذي كان رساما وأقام عدة
معارض ثم مارس التمثيل
قبل أن يتحول الى الاخراج في الستينيات.. وقد حقق فيلما دراميا مهما عن فان
جوغ.
البريطاني بيتر جرينوي الذي قال: »أحد الأسباب
الفعلية التي جعلتني أهتم
بالسينما هو ما يتيحه هذا المجال من فرص استثنائية للتلاعب بالصور والكلمات،
وبالتفاعل بينها. أحيانا أشعر كما لو أنني لست صانع فيلم على الاطلاق بل
كاتباً أو
رساماً تصادف أن اشتغل في السينما.. وهذا وضع من المفيد ان
تكون فيه أحيانا لأنك،
في هذه الحالة، تكون أشبه بالدخيل أو اللامنتمي، وعندئذ - ودون أن تعي ذلك
تقدر أن
تقوم بمجازفات تجريبية لا يجرؤ السينمائي ان يقوم بها.. فمثل هذه المجازفات
ترعب
المخرجين التقليديين، المحافظين، الذين يشعرون بأن هناك قواعد
وقوانين لابد من
الالتزام بها. أما أنا فانتهك تلك القوانين باستمرار.. ليس من موقع المعادي
لها بل
بالأحرى من موقع الدخيل الذي يتساءل: هل هذه القوانين والتقاليد ضرورية
حقاً؟.
والأمريكي ديفيد لينش الذي بدأ رساماً ودرس في
أكاديمية الفنون التشكيلية
في فيلادلفيا قبل أن يعمل في السينما في ٧٦٩١، والذي يقول: »بدأت رساماً،
والسينما هي امتداد لهذا الفن، في الرسم ابتكر قصة تنسجم مع الصورة، لكن هناك
دائماً في ذهني تلك الأصوات التي ترافق الرسم.. أقلامي عبارة
عن لوحات سينمائية،
لوحات تتحرك على شرائط السليولويد، ثم أقوم بتركيب الصوت لإيجاد حالة فريدة
واستثنائية: تخيل موناليزا وهي تفتح فمها، من الفم تخرج الريح، بعد ذلك
تستدير
موناليزا وتبتسم.. سيكون ذلك غريبا وجميلا.. إن فهمي للسينما
ينبع من خلفيتي
التشكيلية حيث أنني أتخطى القصة الى حالة اللاوعي التي يوجدها الصوت
والصورة«.
وهناك الايطالي أنتونيوني الذي لم يحترف الرسم،
والذي قال: »أنا لست
رساماً، بل أنا سينمائي يرسم«.
واذا عدنا الى البدايات فسوف نجد، مع انتشار
السينما في العشرينيات من القرن العشرين، أن العديد من التشكيليين
السورياليين
كانوا يرون في الـ »سينما« وسطاً مثالياً لسبر واستكشاف عوالم
أخرى. مان راي، هانز
ريختر، فرانسيس بيكابيا كانوا ضمن الفنانين الذين قاموا بمحاولات تجريبية مع
الفيلم
لغايات سوريالية. بيكابيا كتب سيناريو فليم »استراحة« من اخراج رينيه كلير.
وسلفادور دالي شارك بونويل في كتابه واخراج »كلب أندلسي«.
إن هذا الانتقال من
الوسط التشكيلي الى الوسط السينمائي يجعل هؤلاء الفنانين، وعلى
نحو محتوم، يوجهون
اهتماما وعناية أكبر بتكوين الصورة. عندما يأتي الرسام الى الفيلم فإنه،
بالضرورة،
يأتي حاملاً معه نظرة التشكيلي الى التكوين واللون. ولابد أن وظائف الرسام
والمخرج
السينمائي تغذي بعضها البعض. |