السينما الأفغانية، طوال تاريخها، كانت فقيرة جداً في الانتاج، إذ لم تنتج غير أفلام قليلة معظمها قصير، وذلك بسبب الأوضاع السياسية والاجتماعية الصعبة، ومحدودية الامكانات المادية والفنية، وجاء حكم طالبان المتشدد ليقضي على كل ما هو سينمائي، أو فني بالأحرى، فتم إغلاق كل الصالات السينمائية، وحرق أغلب المخزون من الأفلام الموجودة »فيما عدا تلك التي أخفيت عن أعين رجال النظام« إذ بحكم قوانين طالبان حتى مشاهدة الأفلام هو فعل هدام ومفسد للأخلاق، وتتوجب معاقبة كل من يخالف هذا القانون.. وكذلك حرمت أفغانستان من مشاهدة روحها، أو كما يعبّر الايراني محسن مخملباف: »السينما هي مرآة المجتمع، ومن خلالها ينظر المجتمع الى روحه ويصحح أخطاءه وشوائبه، وأفغانستان عاشت طويلا بلا مرآة، الى حد أننا نستطيع القول إن هذه الأمة لم تتعرف على صورتها الخاصة«.

هناك سينمائي أفغاني يدعى صديق بارماك اراد - مع آخرين - أن يرفع هذه المرآة البهية والمدهشة ليرى شعبه وجهه وحريته وآماله بعيداً عن أي تعصب وأي قيد. وبارماك هذا كان قد حصل - أثناء الاحتلال السوفيتي لبلاده - على منحة لدراسة السينما في جامعة موسكو العام ١٨٩١. ولدى عودته الى أفغانستان بعد ست سنوات تمكن من تحقيق عدة أفلام قصيرة.

وفي العام ٢٩٩١ صار رئيس معهد الفيلم الوطني (أفغان فيلم):
»عندما أنهيت دراستي في روسيا وعدت الى أفغانستان انضممت الى احدى جماعات المجاهدين محارباً الروس. أردت أن أنشئ مركزاً للأفلام الوثائقية والدرامية لأنني كنت أطمح أن أساهم في خلق جانب ثقافي لتلك المنظمة.. لأن القتال والأسلحة لا تصنع مستقبلنا«.

في العام ٦٩٩١ انتقل صديق بارماك الى الشمال وحقق أفلاما وثائقية للتحالف الشمالي قبل أن يذهب الى المنفى في باكستان. بعد الحرب وسقوط نظام طالبان عاد بارماك الى أفغانستان وعمل على تحقيق سلسلة من الأفلام التعليمية القصيرة حول موضوعات ملحة مثل الصحة والألغام المزروعة.. وقد عرضت هذه الأعمال على شاشات متحركة وأمام جمهور من مختلف أنحاء البلاد.. »لقد أخذنا هذه الأفلام الى بعض المناطق النائية جداً.. أغلب السكان غير متعلمين، وغير قادرين على قراءة الصحف، لذلك فإن الصور تكون مفيدة وفعالة جداً.

وفي العام ٢٠٠٢ شرع في تصوير فيلمه الدرامي الأول »أسامة، وأول فيلم أفغاني منذ تولي حركة طالبان السلطة وحتى سقوطها، بتمويل ياباني وايرلندي وايراني، وبدعم كبير من محسن مخملباف، وبتعاون العديد من العناصر السينمائية الإيرانية التي نجحت، بحكم خبرتها وموهبتها، من اضفاء لمسات جمالية على الفيلم، من جهة التصوير (ابراهيم غفوري) والموسيقى (محمد رضا درويش) ومن جهة تصميم المناظر والتسجيل الصوتي.

وتجدر الاشارة الى أن صديق بارماك لم يكتف بالاخراج فقط بل كتب سيناريو الفيلم وساهم في إنتاجه وتولى مونتاجه أيضاً. وقد استمد المادة من أحداث واقعية مرت بها أسرة أفغانية، وعبر هذه العائلة الواحدة تنعكس تجربة الشعب الأفغاني - والمرأة الأفغانية خصوصاً - في ظل نظام متحجر وقمعي مثل طالبان.

والفيلم يتحرى مظاهر متنوعة من حكم طالبان: نظام ذكور صارم ومتزمت، تعصب ديني، فرض قيم محافظة ورجعية، اضطهاد المرأة، بؤس وفقر وتخلف في أكثر صوره شناعة.

يبدأ الفيلم بمظاهرة نسائية يصورها مراسل صحفي غير مرئي، وأغلب المشاركات في المظاهرة هن من الأرامل اللواتي يعشن في فقر مدقع ويطالبن بحقهن في العمل. رجال الطالبان المسلحين، الذين استولوا على الحكم مؤخراً، يقمعون المظاهرة ويفرضون بعض القوانين الجائرة: ممنوع رؤية النساء في أماكن عامة بدون مرافق ذكر، وعدم السماح للمرأة بالعمل والتعليم.

فنتيجة هذا القانون، نرى امرأة تفقد عملها كطبيبة بعد إغلاق المستشفى بأمر من طالبان. ولأن هذه الطبيبة تعيش مع أمها العجوز وابنتها المراهقة (٢١ سنة) دون رجل يعيل العائلة، فالزوج ميت ولا يوجد رجل يمكن الاعتماد عليه، فإن إحساسها بالعجز والخوف واليأس يدفعها الى قبول فكرة جنونية ومحفوفة بالمخاطر: أن تعمل ربنتها الوحيدة متنكرة في هيئة صبي.

في مشهد موجع تتعرض الصبية للمهانة والإذلال عندما تضطر الى تغيير هويتها وتقوم أمها بقص شعرها وإلباسها ملابس صبي، وهي تقبل - مرغمة - تأدية هذا الدور من أجل البقاء ولئلا تموت عائلتها من الجوع. ولما تخرج الى الطرقات في هيئتها الجديدة، الغريبة والشاذة، وتعمل في مخبز مقابل أجر زهيد، يررافقها الرعب - من الانكشاف - في كل خطوة والتفاتة، وعند كل منعطف، منذ خروجها صباحاً وحتى عودتها الى البيت.. خائفة ومشحونة بالقلق والأسى.

أسامة: هو الاسم المذكر الذي يطلقه عليها صبي آخر (كان قد اكتشف هويتها لكنه تعاطف معها ووعد بألا يفشي سرها) وذلك بعد أن يأخذها أحد عناصر طالبان (جاهلا بهويتها الحقيقية) من موقع العمل لضمها عنوة الى مدرسة طالبانية خاصة بالصبيان وتهتم بتعليم القرآن والشريعة والشرائع الدينية.

هناك تصير هذه الفتاة البريئة، الخائفة، عرضة أكثر لوقائع عالم أجنبي وغريب عنها. عالم من الطقوس والشعائر والألعاب الصبيانية التي لا تقدر أن تفهمها أو تنسجم معها، بل تشعر إزاءها، وطول الوقت، بالتهديد والعدوانية. وهناك أيضاً العالم الأبوي، الذكوري، الذي يفرض الخنوع والامتثال، والذي إزاءه تشعر بأنها هشة، قابلة للانكسار، ولا يقدر عقلها وجسدها الصغير أن يجابه كل صعوباته وتحدياته.

وحيلة التنكر والتمويه تنكشف في أكثر المشاهد إيلاما، وهذه اللحظة كانت تنتظرها هي مثلما ينتظرها المتفرج بقلب واجف. وفي محاكمة علنية، بدائية، تنتفي فيها أبسط شروط العدالة والنزاهة، نشهد رجم إمرأة »خاطئة من منظور طالبان« واعدام مراسل أجنبي »يبدو أنه نفسه الذي صور المظاهرة النسائية في بداية الفيلم و»منح« الفتاة (أسامة) الى رجل دين (ملا) هرم طلب أن يتزوجها لقاء العفو عنها.
إن تسليط الفيلم للضوء عليي وضع المرأة في ظل نظام بشع جاء لكونها الضحية الأولى والأساسية لسلطة كابحة وقمعية تنظر الى المرأة بوصفها عورة وعاراً، ينبغي عزلها ونفيها، ولابد من أن تبقى في الظل، في عالم من المجهولية. وبالتالي فإن لباسها (البرقع) لا يخفي الجسم كله فحسب بل الوجود أيضاَ. هي تصبح غير مرئية، عدماً، وعليها أن تغير هويتها لكي تكون مرئية (لكن في هيئة مموهة) وهذا الأمر محفوف المخاطر، كما أنه يكشف عن صراع داخلي يحتدم في ذات الانثى بين الثنائية المفروضة عليها (الفتاة/ أسامة)، بين الأنوثة والذكورة، بين القيد والرغبة في التحرر.

المخرج في فيلمه الأول هذا نجح في تقديم عمل بارع ومدهش، متقن من حيث الاخراج والمونتاج واختيار زوايا الكاميرا، جميل وشاعري في تصويره، آسر في أدائه، محكم في إيقاعه وأجوائه.. وذلك استحق الجوائز التي حصل عليها من مهرجان كان (جائزة الكامير الذهبية) ومن مهرجان لندن، وجائزة جولدن جلوب كأفضل فيلم أجنبي، كما رشح للأوسكار.

لاشك أن السينما الأفغانية لا تزال في طفولتها، لكنها تنمو بثقة، وتعد بإنجازات رائعة.

الأيام البحرينية في